أطلقت تركيا للمرة الأولى حملة للتدخل العسكري المباشر في سوريا وأرسلت الدبابات والطائرات الحربية، عبر الحدود، في حملة منسقة مع مقاتلي المعارضة السورية، لاستهداف مواقع تسيطر عليها داعش، وخاصة بلدة جرابلس الإستراتيجية.
هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها القوات البرية التركية بتنفيذ عملية عسكرية بهذا الحجم عبر الحدود السورية. توغل الجيش التركي الوجيز السنة الماضية، والذي من المفترض أنه كان "لإنقاذ" قبر أحد الأجداد المؤسسين للإمبراطورية العثمانية، لم يكن يهدف أبدا إلى تدخل عسكري تركي مباشر في الصراع، بل كان مجرد مناورة من أردوغان لتعزيز صورته كرجل قوي.
المبرر الرسمي للعملية، التي أطلق عليها اسم "درع الفرات"، هو أنها موجهة ضد داعش ردا على الهجمات والتفجيرات التي قامت بها داعش مؤخرا داخل تركيا. المخطط الرسمي، حسب وزير الخارجية جاويش أوغلو، هو طرد داعش من الحدود، من أجل منع تسلل مقاتليها إلى تركيا.
ويبدو أن خطوة السيطرة على بلدة جرابلس، التي تمثل الموقع الاستراتيجي الرئيسي الأخير الذي تسيطر عليه داعش على طول الحدود البالغة 500 ميل، جاءت لتأكيد ذلك. لكنها لا يمكن أن تفسر لماذا سمحت تركيا لداعش باستخدام أراضيها لعدة سنوات، حين استخدم النظام إرهابيي داعش لمهاجمة القوات الكردية وقوات المعارضة داخل تركيا نفسها. من الواضح تماما أن قرار اللجوء إلى التدخل العسكري في سوريا جاء من أجل منع قوات وحدات حماية الشعب الكردية من السيطرة على مساحة كبيرة في شمال سوريا، الأمر الذي يشكل تهديدا وجوديا لمصالح الرأسمالية التركية.
تمتلك وحدات حماية الشعب الكردية سيطرة شبه كاملة على شمال شرق سوريا. والشيء الأكثر إثارة للقلق، من وجهة نظر الحكومة التركية، هو احتمال إنشاء منطقة تحت السيطرة الكردية غرب الفرات، بعد تمكن تحالف قوات سوريا الديمقراطية (SDF) المدعوم من الولايات المتحدة، والذي تهيمن عليه وحدات حماية الشعب الكردية، من انتزاع مدينة منبج، جنوب جرابلس، من أيدي الدولة الإسلامية في وقت سابق من هذا الشهر.
واعترف مسؤولون أمريكيون بأن تركيا لم تكن راضية عن عملية منبج، لكنهم وعدوا بأن الأكراد سوف ينسحبون منها بمجرد تطهير المدينة. لكن المشكلة هي أن وحدات حماية الشعب الكردية تشكل غالبية قوات تحالف قوات سوريا الديمقراطية، ويبدو أنها ليست في عجلة من أمرها للخروج من منبج، على الرغم من الضغوط الأمريكية. وقد تكرر هذا الوعد على لسان نائب الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الذي زار تركيا، بعد ساعات من شن الهجوم.
يمثل هذا تطورا غير مرحب به نهائيا، من وجهة نظر الحكومة التركية التي طالما اعتبرت الفرات خطا أحمرا لا يمكن أبدا أن تعبره القوات الكردية.
انقلاب أردوغان المضاد
كما سبق لنا أن أشرنا في مقالات سابقة، ليست العلاقة بين الجيش التركي وبين حكومة أردوغان جيدة، حيث يمثل الجيش التركي قاعدة سلطة مختلفة عن برجوازية الأناضول والقاعدة البرجوازية الصغيرة لحزب أردوغان العدالة والتنمية. وعلى مر السنين حاول أردوغان القيام بعدة عمليات تطهير للجيش من أجل كسب المزيد من السيطرة المباشرة عليه.
وصف أردوغان محاولة الانقلاب الفاشلة، في 15 يوليوز الماضي، بأنها "هدية من الله". لقد أعطته الفرصة، التي استغلها إلى أقصى الحدود، لإطلاق أكبر حملة تطهير في صفوف الجيش، من أعلى إلى أسفل. نفذ أردوغان انقلابه المضاد في غضون أيام، حين طرد وسجن عشرات الآلاف من الضباط والجنود من أعلى المستويات وأدناها.
محاولة انقلاب دفعت أردوغان أيضا إلى إقامة علاقة وثيقة على الصعيد الدولي مع العدو القديم، روسيا، بعد أن وجه اللوم للحكومة الأمريكية بسبب عدم دعمها الواضح له أثناء الانقلاب. في الواقع اتهم أردوغان الولايات المتحدة بالتورط في المحاولة وحماية مدبري الانقلاب واستضافة الرأس المدبر المزعوم لمؤامرة انقلاب، فتح الله غولن، على الأراضي الأمريكية.
مسألة مدى صحة اتهام الولايات المتحدة بالتواطؤ في الانقلاب أم عدم صحته ليست ذات أهمية. لكن من الواضح أن العديد من الانقلابيين كانوا متغلغلين بقوة في هياكل حلف شمال الأطلسي. وبعد فشل الانقلاب ترك حلف شمال الأطلسي هؤلاء الناس في مناصبهم. وفي سياق العلاقات المتوترة للغاية بين البيت الأبيض والحكومة التركية دفع هذا الموقف التوترات المكبوتة إلى السطح.
طيلة مدة من الزمن انتقدت الإمبريالية الأمريكية بشدة السياسة الخارجية لأردوغان، وقد أبان رفضها مؤخرا دعم المطالب التركية بالحصول على دعم من منظمة حلف شمال الأطلسي، في حالة حدوث مواجهة عسكرية مع روسيا بعد إسقاط سلاح الجو التركي للطائرة الحربية الروسية في اللاذقية، شهر نوفمبر الماضي، أن صبر الولايات المتحدة تجاه حليفتها صار ينفد. اعتبر أردوغان هذه القضية برمتها أنها صفعة مهينة في وجهه.
كشف هذا عن المصالح المتعارضة للطبقتين الحاكمتين في البلدين، وخاصة فيما يتعلق بما يجب القيام به في سوريا. وفي حين تريد تركيا دفع الولايات المتحدة إلى التدخل المباشر لإسقاط الأسد، فإن الأمريكيين غير مستعدين لتكرار فشلهم في العراق وأفغانستان. بل إنهم في الواقع بدءوا يعتمدون، في جميع أنحاء المنطقة أكثر فأكثر على إيران وحزب الله وقوات وحدات حماية الشعب الكردية. وبالتالي فإن التوترات بدأت ترتفع إلى مستويات غير مسبوقة مما أدى إلى اشتباكات مباشرة عنيفة بين الجماعات التي تدعمها تركيا وتلك التي تدعمها الولايات المتحدة في شمال حلب خلال العام الماضي.
كشف موقف الدبلوماسية الأمريكية فيما يتعلق بمحاولة انقلاب 15 يوليوز الماضي أن المسؤولين الأمريكيين راهنوا بحذر على نتائج الانقلاب لتلافي استعداء جزء هام من الجيش التركي، الذي هو عادة أكثر انفتاحا على التعاون مع الولايات المتحدة من أردوغان وحزب العدالة والتنمية. لكن النتيجة النهائية لهذا الجهد كانت هي المزيد من استعداء أردوغان نفسه.
صفقة تركيا مع إيران وروسيا
شكل احتكاك الحكومة التركية والولايات المتحدة بخصوص الانقلاب خلفية طبيعية لإحداث تحول في السياسة التركية تجاه سوريا. تلاقي مصالح روسيا وإيران وتركيا للتوصل إلى تسوية في سوريا، على أساس منع الولايات المتحدة من احتلال موقع مهيمن في الصراع السوري، عزز الاتفاق بين القوى الثلاث وهو ما ستكون له آثار واسعة على العلاقات الدولية. تمتلك تركيا ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، ويغطي جزءا كبيرا من حدوده الجنوبية الشرقية الإستراتيجية. يعتبر حدوث أزمة كبيرة داخل منظمة حلف شمال الأطلسي مسألة محتملة في هذا الوضع والطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة تدرك جيدا هذا.
ولذلك فإن الأمريكيين مضطرون، تماما كما في حالة حرب السعودية على اليمن، للقبول مرة أخرى بالأمر الواقع وهو ما يتعارض مع إستراتيجيتهم ومصالحهم في المنطقة. إنهم واقعون بين مطرقة الحاجة إلى دعم الميليشيات الكردية في سوريا، والتي هي العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، وبين سندان الحاجة إلى عدم مفاقمة استعداء النخبة الحاكمة في تركيا. ومن المحتمل جدا أن الولايات المتحدة ستكون مضطرة، في حالة نشوب صراع مباشر بين الجيش التركي ووحدات حماية الشعب الكردية، إلى الاختيار وإدارة ظهرها لحلفائها الأكراد.
التمرد الكردي
لقد وفر تطهير الجيش بعد محاولة الانقلاب والقمع الوحشي للمعارضة الداخلية نوعا من الاستقرار المؤقت لنظام أردوغان الذي يسعى حاليا إلى تعزيزه أكثر باللجوء إلى نهج أكثر عدوانية تجاه الصراع السوري والحركة التحررية الكردية في كل من سوريا وفي الداخل.
يهدف التدخل العسكري التركي المباشر في سوريا إلى تقويض محاولة إقامة سلطة أمر واقع كردية مستقلة تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية في شمال شرق سوريا، على الحدود التركية. كما تهدف أيضا إلى زيادة عسكرة القضية الكردية داخل تركيا نفسها. حسابات أردوغان الكلبية تقوم على ضرب المعارضة المتزايدة ضد نظامه وتقويض إمكانية انفجار الصراع الطبقي في تركيا، من خلال التصعيد المصطنع للصراع ضد الأكراد على شكل صراع عسكري مفتوح. إن محاولة أردوغان اليائسة للتمسك بالسلطة يهدد بدفع تركيا والمنطقة بأسرها نحو أزمة أعمق.