كانت مسألة حرب العصابات مرتبطة ارتباطا وثيقا بمنظور إعادة إحياء الثورة، وإمكانية أن تعطي حركة الفلاحين زخما لحركة العمال في المدن. والنقاشات في المؤتمر الرابع بشأن المسألة الزراعية، التي كانت تبدو نظرية مجردة، كانت انعكاسا شاحبا لواقع صارخ. كان تمرد الفلاحين في تصاعد، وازدادت حدة الانتفاضات العنيفة في القرى من حيث العدد والشدة. لكن توطيد الردة الستوليبينية الرجعية أجبر لينين على إعادة النظر في الموقف. وكانت هزيمة التمرد في سفيابورغ وكرونشتاد نقطة التحول. وفي حين كان المناشفة قد تخلوا عن الحركة، كانت تكتيكات لينين موجهة نحو كسب البرجوازية الصغيرة والفلاحين الفقراء لفكرة الانتفاضة المسلحة، وخلق حركة في القرى يمكنها بدورها أن ترتبط بالحركة في المدن لتحقيق الإطاحة الثورية بالاستبداد. لم يكن هذا المنظور طوباويا كما قد يبدو، فبينما عانت الطبقة العاملة في بيترسبورغ وموسكو من الهزيمة، كانت الحركة في القرى قد بدأت للتو في التحرك بجدية. وهذا بدوره كان له تأثير على الفلاحين الذين يرتدون الزي العسكري الذين يشكلون الغالبية الساحقة من الجيش القيصري. فهؤلاء الرجال ذوي المعاطف الرمادية، الذين أزعجتهم الهزيمة العسكرية وشهور الثورة، صاروا أكثر فأكثر اضطرابا. وتم الوصول إلى النقطة الحرجة في ليلة 17 يوليوز، حين اندلع تمرد للجنود والبحارة في قلعة سفيابورغ بالقرب من هلسنغفورس. عندما توصلت لجنة الحزب بسان بيترسبورغ بأخبار الانتفاضة، أرسلت ممثلين عنها إلى البحارة في محاولة لإقناعهم بتأجيل التحرك. لكن الوقت كان قد فات.
وعلى الرغم من أن التنظيم العسكري للحزب قد شارك في التمرد - اثنان من الملازمين، أ. ب. ايميليانوف وي. ل. كوخانسكي، كانا عضوان في الحزب- فإن الانتفاضة كانت أساسا تحت تأثير الاشتراكيين الثوريين. ومن بين عشرة فيالق مدفعية، شاركت سبعة بنشاط في الانتفاضة، ورفعت شعارات ديمقراطية ثورية: ليسقط الاستبداد، الحرية للشعب، والأرض للفلاحين. واتخذ العمال الفنلنديون إجراءات لدعم المتمردين. اندلع اضراب عام في هلسنغفورس في 18 يوليوز وانتشر الى بلدات اخرى. استمرت الحركة لمدة ثلاثة أيام، لكن وبسبب إعدادها السيء وافتقادها لخطة عمل مدروسة بوضوح، تعرضت لقصف شديد من السفن الموالية للحكومة، فانهزمت انتفاضة سفيابورغ. وتم تسليم المتمردين إلى عناية المحاكم القيصرية العسكرية، حيث تم إعدام 43 رجلا وأرسل المئات آخرون إلى الأشغال الشاقة أو السجن. لم تكن تلك حالة معزولة، فقد حدثت تمردات أخرى في أماكن أخرى. لقد تسببت أخبار أحداث سفيابورغ في غليان في حامية كرونشتاد البحرية واندلع التمرد الفعلي على الطرادة باميات أزوفا بالقرب من ريفيل. يبدو أنه في هذه الحالة، كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي يخطط لاتخاذ إجراء، لكن ذلك تعطل بسبب إلقاء القبض على منظمة الجنود والعمال المحلية يوم 09 يوليوز. كانت الحكومة على بينة من خطط الانتفاضة بسبب شبكة جواسيسها فتحركت بسرعة لخنق الثورة. تم اعتقال اكثر من 2500 من متمردي كرونشتاد. وكما هو الحال في سفيابورغ، كانت المحاكم العسكرية عديمة الرحمة: حكم على 36 رجلا بالإعدام؛ وحكم على 130 منهم بالأشغال الشاقة وسجن 316 آخرين، وأرسل 935 سجينا إلى فيالق إصلاحية.
كان تأثير حركة الفلاحين واضحا في التمرد الذي احتوى أيضا على الجانب السلبي المميز لجميع انتفاضات الفلاحين في التاريخ - غياب المنظور وغياب التنظيم-، الشيء الذي يمكّن قوة صغيرة من الضباط المنضبطين الحازمين من أن يُخضعوا لإرادتهم عددا أكبر بكثير من القوات التي تفتقر إلى الانضباط والتنظيم وخطة عمل واضحة، والذين تربوا طيلة حياتهم على الطاعة. كانت تلك بالفعل آخر أنفاس الثورة. بعد سفيابورغ، لم تعد النتيجة النهائية موضع شك. انتصرت الردة الرجعية واحتفلت بانتصارها بالطريقة المعتادة: مع موجة جديدة من الاعتقالات والمحاكم العسكرية السريعة، والإعدامات والسجن. ارتفعت البطالة، وكما أوضح تروتسكي في ذلك الوقت، فإن اندلاع هذه البطالة الجماهيرية، التي جاءت في أعقاب هزيمة سياسية قاسية، لم تكن لتعيد الروح إلى كفاحية العمال، بل العكس تماما. كان العمال مصدومين ومرتبكين، وكانوا بحاجة إلى الوقت لكي يتعافوا. توقع تروتسكي - وقد تبين أنه محق- أنه لن يكون هناك انتعاش للحركة الثورية في روسيا إلا بعد أن يعود نوع من الانتعاش الاقتصادي.
لقد نظر الماركسيون دائما إلى حرب الفلاحين باعتبارها مساعدة للعمال في النضال من أجل السلطة. وقد وضع ماركس هذا الموقف لأول مرة خلال تحليله للثورة الألمانية عام 1848، عندما أوضح بأن الثورة الألمانية لا يمكنها أن تنتصر إلا كطبعة ثانية من حرب الفلاحين. وهذا يعني أنه يجب على حركة العمال في المدن أن تقود وراءها جماهير الفلاحين. وأوضح البلاشفة أيضا أنه على العمال في المدن أن يقودوا الفلاحين وراءهم. ومن المهم أن نلاحظ أنه خلال الثورة الروسية لم تكن الطبقة العاملة الصناعية تمثل أكثر من 10% من السكان، ومع ذلك لعبت البروليتاريا الدور القيادي في الثورة الروسية، حيث قادت خلفها ملايين الفلاحين الفقراء، الذين يشكلون الحليف الطبيعي للبروليتاريا. لا يمكن العثور في كتابات ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي على أية إشارة أو تلميح إلى احتمال قدرة الفلاحين على إنجاز الثورة الاشتراكية. والسبب في ذلك هو افتقارهم الشديد للتجانس الطبقي. إن الفلاحين طبقة منقسمة إلى فئات عديدة، بدءا من الفلاحين الذين لا يملكون أرضا (والذين هم في الواقع بروليتاريون ريفيون) إلى الفلاحين الأغنياء الذين يستغلون الفلاحين الآخرين كعمال مأجورين. ليست لديهم مصلحة مشتركة، وبالتالي لا يمكنهم أن يلعبوا دورا مستقلا في المجتمع، وقد دعموا تاريخيا فئات أو مجموعات مختلفة في المدن. إن الطبقة الوحيدة القادرة على قيادة ثورة اشتراكية ناجحة هي الطبقة العاملة. وهذا ليس لأسباب عاطفية، بل بسبب الموقع الذي تحتله في المجتمع والطابع الجماعي لدورها في الإنتاج.
حرب العصابات، بحكم طبيعتها، هي السلاح الكلاسيكي للفلاحين وليس الطبقة العاملة. وهي مناسبة لظروف الكفاح المسلح في المناطق الريفية التي يتعذر الوصول إليها - الجبال والغابات، وما إلى ذلك - حيث تجعل وعورة التضاريس من الصعب نشر القوات النظامية وحيث تقدم الجماهير الريفية الدعم اللوجستي اللازم والمخبأ للمسلحين. في سياق الثورة في بلد متخلف بعدد كبير من الفلاحين، يمكن لحرب العصابات أن تكون بمثابة مساعد مفيد للنضال الثوري للعمال في المدن. لكنه لم تتبادر أبدا للينين فكرة استعمال حرب العصابات كبديل للحركة الواعية للطبقة العاملة. إن تكتيكات حرب العصابات، من وجهة نظر ماركسية، لا يجوز أن تكون سوى عمل مكمِّل ومساعد في الثورة الاشتراكية. وكان هذا بالضبط هو موقف لينين في عام 1905. لم يكن له أي علاقة مع التكتيكات الإرهابية الفردية التي كانت تتبعها منظمة نارودنايا فوليا ووريثهم الحزب الاشتراكي الثوري، ناهيك عن التكتيكات المجنونة للإرهابيين المعاصرين ومنظمات "حرب عصابات المدن" التي هي نقيض السياسة اللينينية الحقيقية.[1]
في مقالته عن حرب العصابات، يعطي لينين صورة واضحة عن الوضع قائلا:
«الظاهرة التي نهتم بها هي الكفاح المسلح. ويضطلع بها أفراد وجماعات صغيرة، بعضها ينتمي إلى منظمات ثورية، في حين أن البعض الآخر (الأغلبية في أجزاء معينة من روسيا) لا ينتمي إلى أي منظمة. إن الصراع المسلح يسعى إلى تحقيق هدفين مختلفين، يجب أن يكونا مميزين بشكل واضح: يهدف هذا الكفاح، في المقام الأول، إلى اغتيال الأفراد، أي القادة والضباط في الجيش والشرطة؛ ويهدف، في المقام الثاني، إلى مصادرة الأموال سواء من الحكومة أو من الأفراد. وتذهب الأموال المصادرة جزئيا إلى خزينة الحزب، وذلك جزئيا من أجل الغرض الخاص المتمثل في التسليح والتحضير للانتفاضة، وجزئيا لأجل إعالة الأشخاص المشتركين في الكفاح الذي نصفه. إن المصادرات الكبيرة (مثل المصادرة التي تمت في القوقاز والتي بلغت أكثر من 200.000 روبل، وفي موسكو، التي بلغت 875.000 روبل) ذهبت في الواقع أولا وقبل كل شيء إلى الأحزاب الثورية، أما المصادرات الصغيرة تصرف في غالبيتها، وأحيانا كليا، لإعالة من يقومون بـ "المصادرات". هذا شكل من أشكال النضال أصبح بدون شك واسع النطاق ومكثفا فقط في عام 1906، أي بعد انتفاضة دجنبر. لقد كان تفاقم الأزمة السياسية إلى حد الكفاح المسلح، ولا سيما تفاقم الفقر والجوع والبطالة في المدينة والقرية، أحد الأسباب الهامة للنضال الذي نصفه. وقد اعتبر هذا الشكل من أشكال النضال بوصفه الشكل المفضل بل والحصري للنضال الاجتماعي من طرف العناصر المتخلفة من السكان وحثالة البروليتاريا واللاسلطويين.»
وأصر لينين على أن الكفاح المسلح يجب أن يكون جزءا من الحركة الجماهيرية الثورية، وحدد الشروط التي يصير فيها مقبولا:
«1) يجب أن تؤخذ مشاعر الجماهير في الاعتبار؛ 2) أن تدرس ظروف الحركة العمالية في المنطقة المعطاة، و 3) يجب الحرص على عدم تعطيل قوى البروليتاريا «. كما أوضح أيضا أن حرب العصابات ليست حلا سحريا، بل فقط طريقة واحدة محتملة للنضال لا يجوز السماح بها إلا «في الوقت الذي تصل فيه الحركة الجماهيرية بالفعل إلى نقطة الانتفاضة».
إن خطر الانحطاط المتأصل في مثل هذا النشاط يصبح مؤكدا بشكل مطلق عندما تنعزل جماعات حرب العصابات عن الحركة الجماهيرية. في الفترة التي تلت عام 1906، عندما كانت حركة العمال في تراجع، وكان الثوريون يترنحون تحت سلسلة من الضربات، أظهرت منظمات حرب العصابات بشكل متزايد علامات على أنها توقفت عن أن تكون أجهزة مساعدة مفيدة للحزب الثوري، وتحولت إلى مجموعات من المغامرين، أو حتى أسوأ من ذلك. لينين، وحتى في الوقت الذي دافع فيه عن إمكانية استعمال تكتيكات حرب العصابات كنوع من العمل ضد الردة الرجعية في اللحظة التي كان يتوقع فيها انتعاش الحركة الثورية، حذر من «اللاسلطوية والبلانكية والنزعة الإرهابية القديمة وأفعال الأفراد المعزولين عن الجماهير، الشيء الذي يضعف معنويات العمال وينفر فئات واسعة من السكان ويؤدي إلى تشويه الحركة والإضرار بالثورة «، وأضاف أنه: « يمكن العثور على الأمثلة التي تدعم هذا التقييم بسهولة في الأحداث التي يتم الإبلاغ عنها يوميا في الصحف».[2]
ومع مرور الوقت فهم لينين أن تكتيك المصادرات قد فقد فائدته. وكان قد وصل بالفعل إلى وجهة النظر هذه قبل غارة تيفليس. لكن ونظرا للنقص الحاد في الأموال، قبل العملية على سبيل الاستثناء. ومع ذلك فإن المال المتحصل عليه من الغارة لم يفد الحزب بالشيء الكثير. كان المبلغ كله مشكلا من أوراق نقدية من 500 روبل، من المستحيل التعامل بها داخل روسيا. تم ارسال الاموال الى الخارج لكن دون نتيجة. وكان عميل البوليس جيتوميرسكي، الذي كان يحتل موقعا قياديا داخل المنظمة البلشفية بالخارج، قد أعلم الشرطة بالمخطط. اعتقل ليتفينوف، الذي صار سفير الاتحاد السوفياتي في لندن لاحقا، بينما كان يحاول تبديل الأوراق النقدية في باريس. نفس المصير لاقته أولغا رافيتش، التي أصبحت فيما بعد زوجة زينوفييف، في ستوكهولم. لكن وعلى الرغم من أن غنيمة تيفليس كانت غير مجدية للبلاشفة، فإن المناشفة استغلوها ليصنعوا منها فضيحة طيلة سنوات. كما كانت مسألة المصادرات أرضية لمناقشات ساخنة داخل الفصيل البلشفي، حيث أدت إلى توتر العلاقات. وأخيرا، وبإصرار من المناشفة، أدرجت مسألة المصادرات في جدول أعمال لجنة مراقبة الحزب يناير 1910. وصدر قرار يدين عمليات المصادرات باعتبارها انتهاكا غير مقبول للانضباط الحزبي، مع الاقرار بأن المشاركين في هذه الأعمال لم يقصدوا إلحاق الضرر بالحركة العمالية، بل كانوا مدفوعين بـ "فهم خاطئ لمصالح الحزب".[3]
لم يكن كل من شارك في حرب العصابات مناضلا بنزاهة كامو. وبينما استمرت الرد الرجعية، وبقيت حركة العمال في حالة من الانهيار، تضاعفت مخاطر سقوط الحركة في أيدي عناصر متحللة طبقيا ومجرمين فعليين. ومن أبرز أولئك الذين استمروا، في تناقض مع موقف لينين، متمسكين بتكتيكات العصابات ومصادرة الممتلكات، بعد فترة طويلة من انتهاء شروطها، هو كوبا/ ستالين. لقد تسببت تلك التكتيكات في تقويض الحركة بشكل خطير. كتب أولمينسكي، الذي كان قريبا من لينين في ذلك الوقت، ما يلي:
«ذهب عدد غير قليل من الشباب ضحايا للمشانق، بينما انحط البعض الآخر. كما أصيب البعض الآخر بخيبة الأمل من الثورة. في ذلك الوقت بدأ الناس بشكل عام يخلطون بين الثوريين وبين قطاع الطرق العاديين. وفي وقت لاحق، عندما بدأت الحركة العمالية في الانتعاش، كانت تلك الحركة أبطأ في تلك المدن التي كانت فيها المصادرات أكثر عددا. (يمكنني أن أذكر على سبيل المثال: باكو وساراتوف.)»[4]