بدأت الردة الرجعية التي قادها ستوليبين بتدابير صارمة. في 19 غشت، أقيمت محاكم عسكرية ميدانية قضت بأحكام وحشية ضد أي شخص شارك في نشاط ثوري. تعرض آلاف الأشخاص للتعذيب والإعدام والنفي. وحوكم آلاف الفلاحين في محاكم عسكرية ميدانية. كانت "المحاكمات" موجزة، حيث لم تطل مدة معظمها سوى أربعة أيام. كانت العقوبة المعتادة هي الموت، وتم إعدام 600 شخص في الفترة الأولى. وكان رئيس الوزراء "الإصلاحي" هو من يقود تلك الحملة الإرهابية التي لم يسبق لها مثيل حتى في الفترات الأكثر دموية للقيصرية الروسية. خلال الفترة الممتدة من عام 1907 إلى عام 1909، تم تقديم أكثر من 000 26 شخص إلى المحاكم القيصرية. ومن بين هؤلاء، حكم على 5086 شخصا بالإعدام. وبحلول عام 1909 كانت السجون قد اكتظت بالمعتقلين الذين وصل عددهم إلى 170.000. لكن ستوليبين كان ذكيا بما يكفي لإدراك أن الحركة الثورية لا يمكن إخمادها بواسطة العنف وحده، لم يكن من الممكن أن يكون هناك أي حل دائم ما لم تتم معالجة مسألة الأرض. وفي خطوة ماكرة انتقل ستوليبين لمعالجة المشكلة من خلال إطلاق إصلاح زراعي من فوق. من أجل تعزيز سلطتها كانت الردة الرجعية في حاجة إلى توسيع قاعدتها الاجتماعية. فبدأت البرجوازية والأوليغارشية، اللذان انصهرا معا في كتلة رجعية واحدة، يبحثان عن حلفاء في القرية.
كانت علاقات الأرض في روسيا قبل الثورة تتسم بتخلف شديد. كان الفلاحون يعيشون في 120.000 من الكومونات القروية، على أساس اقتصاد الكفاف مع إنتاجية منخفضة للغاية. حقوق الفلاحين لم تكن موجودة. وكانت بقايا الإقطاع المتخلفة ما تزال قائمة، على الرغم من أن القنانة كانت قد ألغيت في عام 1861. استمر نظام السخرة الإقطاعي القديم، إلى جانب عقلية القنانة القديمة. كانت الرغبة العارمة في الحصول على الأرض والاستياء العميق ضد المالك الكبير، مشاعر تعتمل تحت السطح، لكن وبسبب أنها لم تعثر على أي تعبير منظم، فقد ظلت كامنة مثل بركان غير نشط. في بدايات القرن الجديد، سمع الفلاحون أصداء التمرد من المدن، وأثار ذلك شيئا عميقا داخلهم:
قال أحد الفلاحين بعد انتفاضات عام 1902: «لم تصلني أي شائعات عن أي كتب صغيرة (مناشير الدعاية الثورية)، أعتقد أنه لو كنا نعيش بشكل أفضل فإنه لن تكون للكتب الصغيرة أهمية مهما كان ما هو مكتوب فيها. إن الشيء السيئ ليس هو الكتب الصغيرة، بل هذا؛ السيئ هو أنه ليس هناك أي شيء لنأكله».
وفي حين كان لينين يدعو إلى تسوية ثورية للحسابات مع كبار الملاكين العقاريين، فإن إصلاح ستوليبين كان حلا برجوازيا رجعيا للمسألة الزراعية. تمت صياغة قانون جديد أدى إلى تحطيم الكومونات القروية لصالح الأقلية "البرجوازية" من الفلاحين، أو من كانوا يسمون بالكولاك. كان ذلك الإصلاح، على حد قول صاحبه: "رهانا ليس على المحتاج والمخمور، بل على الفاعل والقوي". كان الشرط المسبق لإدخال الزراعة الرأسمالية إلى روسيا هو تفكيك الكومونات وإنشاء طبقة من الفلاحين الأغنياء.
أكد ستوليبين «أن المبدأ الطبيعي للكومونة هو الملكية الفردية. كما أنها أيضا ضمانة لاستقرار النظام، لأن المالك الصغير هو الخلية التي ينبني عليها كل نظام مستقر في الدولة».[1]
صدر الأوكاز [المرسوم] في أواخر عام 1906، وصار في 14 يونيو 1910 قانونا. كان التوجه الأساسي لذلك القانون هو إعطاء الفلاحين الحق في مغادرة كومونة القرية - الأوبشينا - على الرغم من أنه في الممارسة العملية، كان الفلاحون الأثرياء هم وحدهم من لديهم الوسائل لتحقيق الاستقلالية.
قال كيرنسكي:
«لقد تم تطبيق الإصلاح بحيوية هائلة، لكن أيضا مع تجاهل صارخ لأبسط مبادئ القانون والعدالة. لقد صادرت الحكومة، التي كانت تدعم "الأقوى"، الأراضي التابعة للبلدية وأعطتها للفلاحين الميسورين. أعطيت لهم أفضل قطع الأراضي، في انتهاك كامل لحق الكومونة في الحيازة. وتم منح المالكين الجدد لتلك الأراضي قروضا تصل إلى 90% من التكلفة لكي يقيموا مزارعهم».
كان إصلاح ستوليبين يعني هزة عنيفة لعلاقات ملكية الأرض. وفي النهاية ربما صار ثلثا الأراضي في ملكية الفلاحين. لكن وعلى الرغم من كل الفوائد التي وفرها لهم ذلك الإصلاح، فبحلول فاتح يناير عام 1915، لم تتمكن سوى 2.719.000 أسرة فلاحية من القول بأن حيازاتها أصبحت ملكا خاصا لها (حوالي 22% أو 24% من إجمالي مساحة الأراضي الفلاحية المتاحة). لكن كيف رأت أغلبية الفلاحين إصلاح ستوليبين الزراعي؟
يقول كيرنسكي:
«في معظم الأحيان، اتخذ الفلاحون وجهة نظر معارضة أو حتى عدائية تجاه إصلاح ستوليبين الزراعي، وذلك لسببين: أولا، وهو الأهم، لم يكن الفلاح يريد أن يقف ضد الكومونة، وكانت فكرة ستوليبين عن "دعم الأقوى" تتناقض مع نظرة الفلاح للحياة، لم تكن لدى الفلاح رغبة في أن يصبح ملاكا عقاريا على حساب جيرانه».
لم تقدم تلك السياسة أي حل للمشاكل الملحة التي كان الفلاحون الروس يواجهونها. وقد تم التعبير عن الرغبة الحارقة للفلاحين في الحصول على الأرض من خلال سلسلة كاملة من الانتفاضات في القرى والتي وجهت تحذيرا للاستبداد بأن هذه "الجماهير الصامتة" لم تعد ترغب في تحمل ثقل اضطهاد المالكين العقاريين في صمت. صبر الموجيك الروسي، الذي كان مضربا للأمثال، وصل إلى نهايته. كان ذلك خطرا مميتا على النظام الاستبدادي واحتياطيا لا ينضب من القوة لصالح الثورة. وهكذا فإن مصير البروليتاريا كان، أكثر من أي وقت مضى، مرتبطا ارتباطا وثيقا بمسألة الحل الثوري لمشكلة الأرض. وقد اختتم كيرنسكي بخلاصة كئيبة: «من خلال إصلاحه الزراعي عمل ستوليبين على إشعال الحرب الأهلية في الريف الروسي»[2].
عند تذكره لسنوات الردة الرجعية (1907- 1910)، كتب لينين في عام 1920:
«كانت القيصرية منتصرة. وكانت جميع الأحزاب الثورية والمعارضة قد سحقت. فاحتل الاكتئاب والإحباط والانشقاقات والخلافات والردة والبورنوغرافيا، مكان السياسة. كان هناك انحراف متزايد باستمرار نحو المثالية الفلسفية؛ وأصبح التصوف رداء المشاعر المضادة للثورة. لكن وفي نفس الوقت، كانت تلك الهزيمة الساحقة هي التي علمت الأحزاب الثورية والطبقة الثورية درسا حقيقيا ومفيدا جدا، درسا في ديالكتيك التاريخ، درسا في فهم النضال السياسي، وفي فن وعلم خوض ذلك النضال. في لحظات الحاجة حيث يتعلم المرء من هم أصدقاؤه. إن الجيوش المهزومة تتعلم درسها»[3].
تعرضت الحركة العمالية لأضرار شديدة، ليس فقط بسبب الاعتقالات، ففي الفترة ما بين عامي 1906 و 1910، تم إغلاق 500 منظمة نقابية. وانخفضت عضوية النقابات مع ارتفاع البطالة بلا هوادة. انخفضت عضوية النقابات الشرعية من 246.000 إلى 50.000، ثم إلى 13.000. وتم تمديد يوم العمل إلى 12 ساعة، بل و15 في بعض الحالات. والارتفاع السريع في البطالة، الذي كان جزئيا يعكس أزمة اقتصادية عالمية، جعل وضع العمال أكثر سوءا. في منطقة موسكو، في عام 1907، كان حوالي ربع عمال مصانع التعدين عاطلين عن العمل. وكانت هناك حالات مشابهة في أماكن أخرى. وفي أعقاب الهزيمة السياسية الساحقة، استنزفت البطالة الجماهيرية ما تبقى من الروح الكفاحية عند الطبقة العاملة. وأعد أرباب العمل قوائم بأسماء الناشطين والذين كانوا يطردون بانتظام من العمل. وانهارت الأجور.
وبشكل حتمي أدى تراجع الثورة إلى سلسلة من الأزمات والانقسامات الداخلية في جميع الأحزاب اليسارية. هذا صحيح ليس فقط بالنسبة للاشتراكيين الديمقراطيين، بل أيضا للاشتراكيين الثوريين. وإلى جانب تراجع عدد الأعضاء والصعوبات المالية انضافت الفضائح والانقسامات. فحتى القيادي الإرهابي الاشتراكي الثوري البارز ورئيس الجناح المسلح للحزب، إيفنو أزف، اتضح أنه عميل للبوليس. كان هناك انقسام بين اليمين واليسار داخل الاشتراكيين الثوريين، إلى الاشتراكيين الشعبيين (الجناح اليميني)، والماكسيماليين (اليسار) الذين طالبوا بالاشتراكية الفورية للأراضي والمصانع. كان ذلك في حد ذاته تطورا كبيرا، واستباقا لانشقاق يسار الاشتراكيين الثوريين في عام 1917. خلال المؤتمر الخامس للحزب الاشتراكي الثوري، في ماي 1909، أشار مندوب بيترسبورغ، أندرييف، إلى أنه، من الناحية التنظيمية، لم يعد للحزب وجود في العاصمة؛ ولم يتبق هناك سوى أفراد معزولين[4]. كما كان هناك انقسام داخل الحركة اللاسلطوية الصغيرة بين دعاة الإرهاب وبين النقابيين اللاسلطويين.
وفي الوقت نفسه لم تؤد إعادة توحيد الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى إنهاء الصراع الداخلي، بل على العكس تماما. كما أن العلاقات بين البلاشفة والمناشفة لم تتفاقم بشكل مطرد فحسب، بل اندلعت سلسلة كاملة من الانقسامات داخل الفصيلين الرئيسيين. لم يكتف الجناح اليميني المنشفي (أكسلرود وشيريفانين) بالدعوة إلى عقد اتفاق مع الكاديت فحسب، بل طرح أيضا فكرة تنظيم "مؤتمر عمالي" بطابع غير حزبي، على شاكلة حزب عمالي إصلاحي بدلا من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الثوري القديم. نرى هنا بالفعل، وفي وقت مبكر جدا، البذور الأولى للنزعة التصفوية. كان مرض التعاون الطبقي واسع الانتشار بين جميع وجهات النظر المنشفية. نشر بليخانوف "رسالة مفتوحة إلى العمال الواعين" في صحيفة الكاديت، توفاريش، ودعاهم إلى دعم البرجوازية الليبرالية. وذهب المنشفي باسيليف إلى حد الدعوة إلى اندماج الاشتراكيين الديمقراطيين مع الاشتراكيين الثوريين والكاديت في حزب دستوري واحد، وهو الاقتراح الذي أسماه لينين "قمة قمم الانتهازية". كان الطريق الوحيد للخروج من المأزق هو عقد فوري لمؤتمر جديد للحزب. وقد شن لينين حملة عنيدة من أجل ذلك، مستندا في ذلك على لجنة بيترسبورغ.