بوصولنا إلى هذه المرحلة صار من الضروري تحديد الاتجاهات الرئيسية التي تبلورت داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية قبل عام 1914 حول المسألة المركزية المتعلقة بطبيعة الثورة الروسية ومهامها. لقد كانت النظرية الأكثر أهمية التي ظهرت في هذا الصدد هي نظرية الثورة الدائمة. وقد وضعت هذه النظرية لأول مرة من قبل تروتسكي، بالتعاون مع المناضل الاشتراكي الديمقراطي اليساري الألماني- الروسي، ألكسندر هلفاند (المعروف باسم بارفوس)، في وقت مبكر من عام 1904. في حين تقبل نظرية الثورة الدائمة بأن المهام الموضوعية التي تواجه العمال الروس هي مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية، إلا أنها توضح كيف أنه في بلد متخلف في عصر الإمبريالية، تكون "البرجوازية الوطنية" مرتبطة ارتباطا لا ينفصم ببقايا الإقطاع من جهة وبالرأسمال الإمبريالي من جهة أخرى، وبالتالي فهي عاجزة تماما عن إنجاز أي من مهامها التاريخية.
لقد سبق لماركس وإنجلز أن لاحظا تعفن الليبراليين البرجوازيين ودورهم المعادي للثورة خلال الثورة الديمقراطية البرجوازية، وفي مقالته "البرجوازية والثورة المضادة" (1848)، كتب ماركس:
«إن البرجوازية الألمانية قد تطورت بتراخ وجبن وبطء، حتى أنها في اللحظة التي صارت تهدد فيها الإقطاع والاستبداد وجدت نفسها تواجه التهديد من جانب البروليتاريا وجميع شرائح السكان الحضريين الذين كانت مصالحهم و أفكارهم أقرب إلى مصالح البروليتاريا. ورأت العداء ليس فقط من جانب الطبقة التي تقف وراءها، بل أيضا من جانب كل أوروبا التي تقف أمامها. البرجوازية البروسية، وعلى عكس البرجوازية الفرنسية عام 1789، لم تكن الطبقة التي مثلت المجتمع الحديث كله في وجه ممثلي المجتمع القديم: الملكية والنبلاء. لقد انحطت إلى مستوى ملكية عقارية، تعارض الملك والشعب في نفس الآن، وحريصة على أن تقف ضدهما معا، وأن تكون غير حازمة في مجابهة أي من خصومها بشكل منفصل، لأنها دائما ترى كلا منهما أمامها أو خلفها؛ وتميل منذ البداية إلى خيانة الشعب والمساومة مع الممثل المتوج للمجتمع القديم، لأنها هي نفسها صارت تنتمي بالفعل إلى المجتمع القديم».
البرجوازية، كما يفسر ماركس، لم تأت إلى السلطة نتيجة لجهودها الثورية الخاصة، بل نتيجة للحركة الجماهيرية التي لم تلعب فيها أي دور:
«لقد ألقيت البرجوازية البروسية في قمة سلطة الدولة، لكن ليس بالطريقة التي كانت ترغب بها، من خلال صفقة سلمية مع التاج، بل بفعل ثورة».
حتى في عصر الثورة الديمقراطية البرجوازية في أوروبا، فضح ماركس وإنجلز بلا رحمة الدور الجبان والمعادي للثورة الذي لعبته البرجوازية، وأكدا على ضرورة أن يحافظ العمال على الاستقلالية الطبقية التامة، ليس فقط عن الليبراليين البرجوازيين، بل أيضا عن الديمقراطيين البرجوازيين الصغار المتذبذبين، كتب إنجلز:
«إن الحزب البروليتاري، أو الثوري حقا، لم ينجح إلا بطريقة تدريجية جدا في تخليص جماهير العمال من تأثير الديمقراطيين الذين هيمنوا عليهم في بداية الثورة. لكن وفي الوقت المناسب أدى تردد وضعف وجبن القادة الديمقراطيين إلى إتمام المهمة، ويمكن الآن أن يقال إن إحدى النتائج الرئيسية لانتفاضات السنوات الأخيرة، هي أنه أينما تمكنت الطبقة العاملة من التركز بحشود كبيرة، تتمكن من التحرر كليا من تأثير الديمقراطيين الذي أدى بهم إلى سلسلة لا نهاية لها من الأخطاء والهزائم خلال 1848 و1849».
في الواقع لم يكن ماركس محقا عندما تحدث عن الدور الثوري للبرجوازية، بما في ذلك عام 1789. لم تكن الثورة البرجوازية في فرنسا من إنجاز البرجوازية التي أرادت في الواقع التوصل إلى حل وسط مع النظام الملكي، بل كانت على يد البرجوازية الصغيرة الثورية، التي كان اليعاقبة ممثليها السياسيين، والجماهير شبه البروليتارية في باريس والمدن الكبرى الأخرى. وقد وصف كروبوتكين ببراعة دور الجماهير في الثورة الفرنسية في كتابه عن تاريخ الثورة، كما تم توثيقها بشكل واف في عصرنا من قبل مؤرخين مثل جورج رودي. لم تنجح الثورة الفرنسية العظمى، 1789-1793، إلا بقدر ما تمكنت من التخلص من ممثلي البورجوازية الكبيرة المحافظة في الجمعية الوطنية، وقامت بالاستناد على الجماهير بتنفيذ أكثر التدابير جذرية والتي، في فترة مد الثورة، بدأت حتى تتجاوز حدود المهام الديمقراطية البرجوازية وتهدد الملكية الخاصة. عند هذه النقطة توقفت الثورة ودفعت إلى الوراء من طرف الردة التيرميدورية ثم البونابارتية. تعرضت الجماهير للهزيمة ودفعت من مواقع لم تكن قادرة على الدفاع عنها، وذلك على وجه التحديد بسبب غياب الشروط الموضوعية للاشتراكية. لم يكن ممكنا تحقيق سوى تطور رأسمالي. وتحت راية الشعارات الثورية Liberté, Egalité, Fraternité ، (الحرية والمساواة والإخاء) التي في ظلها نهضت الجماهير لخوض معاركها، تسلق التجار الأثرياء والمالكون الكبار إلى السلطة ومن ثم أطلقوا رصاصة الرحمة على الطموحات الثورية لأولئك الذين بذلوا دماءهم لأجل الثورة.
نفس الشيء يمكن أن يقال عن الثورة البرجوازية التي حدثت في انجلترا خلال القرن السابع عشر. لقد قامت البورجوازية، ممثلة في البرلمان من قبل المشيخيين*، بكل ما في وسعها للتوصل إلى اتفاق مع تشارلز الأول. لم يتم هزم الردة الملكية الرجعية بفضل التجار الكبار في مدينة لندن، بل على يد الجيش النموذجي الجديد الذي قاده كرومويل، الذي استند على المزارعين الصغار في شرق أنجليا والعناصر البروليتارية الناشئة في لندن وبريستول والبلدات والمدن الأخرى التي قاتلت من أجل القضية البرلمانية. هنا أيضا أظهرت البرجوازية نفسها عاجزة عن إنجاز ثورتها. ومن أجل النجاح في إنجاز مهام الثورة كان على كرومويل أن يكنسهم جانبا و يعبئ البرجوازية الصغيرة والجماهير الكادحة من أجل النضال. صحيح أنه بمجرد تحطيم الردة الملكية الرجعية، انقلب كرومويل على الجناح الراديكالي ("المساواتيون" و"الحفارون") الذي كان، حتى في تلك المرحلة، يستخلص خلاصات شيوعية ويضع الملكية الخاصة موضع تساؤل. وبذلك لم يعمل كرومويل سوى على الإقرار بالطابع البرجوازي للثورة، وهو الشيء الذي لا شك فيه. في الواقع لم يكن من الممكن أن يكون للثورة أي طابع آخر في تلك المرحلة التاريخية، لكن ذلك لا يغير الحقيقة التي لا جدال فيها كذلك بأن انتصار الثورة البرجوازية في انكلترا، حتى في تلك الفترة المبكرة، لم كن بفضل البرجوازية، بل ضدها.
كانت حجج ماركس وإنجلز فيما يتعلق بألمانيا في عام 1848 أكثر قابلية للتطبيق على روسيا في مطلع القرن العشرين. كان التطور العاصف للصناعة قد حول وجه المجتمع الروسي إلى الأبد. لكن ذلك التطور اقتصر، في المقام الأول، على عدد قليل من المناطق، وهي المنطقة المحيطة بموسكو وسان بيترسبورغ وغرب روسيا (بما في ذلك بولندا) والأورال، ومنطقة باكو الغنية بالنفط. نمت البروليتاريا بسرعة وأصبحت القوة الحاسمة ابتداء من تسعينيات القرن التاسع عشر فصاعدا. لكن ذلك لم يغير من الطابع المتخلف عموما لروسيا، التي كانت لها العديد من ملامح بلد شبه إقطاعي، وإلى حد ما شبه مستعمر. لم يكن تطوير الصناعة بروسيا نتيجة طبيعية عضوية لتطور المجتمع الروسي، بل نتيجة للاستثمارات الأجنبية الضخمة من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وأمريكا. كانت البرجوازية الروسية، مثلها مثل البورجوازية الألمانية التي انتقدها بشدة ماركس وإنجلز في عام 1848، قد دخلت التاريخ متأخرة جدا، وكانت قاعدتها الاجتماعية ضعيفة جدا، وقبل كل شيء كان خوفها من البروليتاريا قويا جدا، مما جعلها عاجزة عن لعب أي دورا تقدمي. اندماج الرأسمال الصناعي مع الرأسمال العقاري واعتمادهما معا على البنوك والتبعية للرأسمال الأجنبي، هو بالضبط ما استبعد إمكانية وجود ثورة ديمقراطية برجوازية ناجحة في روسيا.
لقد أكد لينين مرارا وتكرارا في كل خطاباته وكتاباته على الدور المعادي للثورة لليبراليين البرجوازيين الديمقراطيين. لكنه حتى عام 1917 لم يكن يعتقد أنه بإمكان العمال الروس أن يصلوا إلى السلطة قبل اندلاع الثورة الاشتراكية في الغرب، وهو المنظور الذي كان تروتسكي هو الوحيد الذي دافع عنه قبل عام 1917، في نظريته الرائعة عن الثورة الدائمة. كانت تلك هي الإجابة الأكثر اكتمالا ضد الموقف الإصلاحي والتعاون الطبقي الذي تبناه الجناح اليميني داخل الحركة العمالية الروسية، أي المناشفة. كان المناشفة هم من طوروا نظرية الثورة عبر مرحلتين كمنظور للثورة الروسية. وهي نظرية تنص في الأساس على أنه نظرا لكون مهام الثورة مهام برجوازية ديمقراطية وطنية، فإن قيادة الثورة يجب أن تتسلمها البرجوازية الديمقراطية الوطنية.
غير أن تروتسكي أشار إلى أنه يمكن للبروليتاريا، من خلال وضع نفسها على رأس الأمة وقيادة الطبقات المضطهَدة في المجتمع (البرجوازية الصغيرة الحضرية والريفية)، أن تحسم السلطة ثم تنجز مهام الثورة البرجوازية الديمقراطية (وأساسا الإصلاح الزراعي وتوحيد البلاد وتحريرها من السيطرة الأجنبية). لكن بمجرد وصولها إلى السلطة، لن تتوقف البروليتاريا عند تلك الحدود، بل ستبدأ في تنفيذ التدابير الاشتراكية بنزع ملكية الرأسماليين. وبما أن هذه المهام لا يمكن حلها في بلد واحد لوحده، ولا سيما في بلد متخلف، فإن ذلك سيكون بداية الثورة العالمية. وبالتالي فإن الثورة "دائمة" بمعنيين: لأنها تبدأ بالمهام البرجوازية وتستمر مع المهام الاشتراكية، ولأنها تبدأ في بلد واحد وتستمر على المستوى الأممي.
اتفق لينين مع تروتسكي على أن الليبراليين الروس لا يمكنهم تنفيذ مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية، وأن هذه المهمة لا يمكن أن تقوم بها إلا البروليتاريا بالتحالف مع الفلاحين الفقراء. من 1905 حتى 1917، كان موقف لينين قريبا، بل متطابقا في الواقع مع موقف تروتسكي حول السؤال الأساسي المتعلق بالموقف من البرجوازية. وقد اعترف لينين بذلك علنا في المؤتمر الخامس (لندن)، كما سبق لنا أن رأينا. وسيرا على خطى ماركس، الذي وصف الحزب الديمقراطي البرجوازي بأنه "أكثر خطورة على العمال من الليبراليين السابقين"، أوضح لينين أن البرجوازية الروسية ليست حليفا للعمال وستنتقل حتما إلى صفوف الثورة المضادة.
كتب في عام 1905: «إن البورجوازية، في مجملها ستتحول حتما نحو الثورة المضادة وضد الشعب حالما يتم تحقيق مصالحها الأنانية الضيقة، سوف "ترتد" عن الديمقراطية الحازمة (وقد بدأت ترتد عنها بالفعل!)»
ما هي الطبقة التي يرى لينين أنه في مقدورها أن تقود الثورة البرجوازية الديمقراطية؟
«يبقى "الشعب"، أي البروليتاريا والفلاحون. وحدها البروليتاريا من يمكن الاعتماد عليها للسير حتى النهاية، لأن أفقها يتجاوز بكثير الثورة الديمقراطية. وهذا هو السبب الذي يجعل البروليتاريا تناضل في الطليعة من أجل الجمهورية وترفض بازدراء النصيحة الغبية والتافهة حول ضرورة أن تأخذ في الاعتبار احتمال نكوص البرجوازية».
الشيء الذي اختلف فيه لينين مع تروتسكي هو مسألة إمكانية وصول العمال الروس إلى السلطة قبل العمال في أوروبا الغربية. فحتى عام 1917، كان تروتسكي وحده من اعتقد بأن هذا سيحدث. حتى لينين نفسه رفض ذلك، مصرا على أن الثورة الروسية سيكون لها طابع برجوازي، وأن الطبقة العاملة، بالتحالف مع الفلاحين الفقراء، ستقوم بإسقاط الحكم المطلق وتعمل من تم على تنفيذ برنامج من التدابير الديمقراطية البرجوازية الأكثر جذرية. في صلب برنامج لينين كان الحل الجذري لمشكلة الأرض، على أساس مصادرة ممتلكات الملاكين العقاريين وتأميم الأراضي. ومع ذلك، كما أوضح لينين عدة مرات، فإن تأميم الأرض ليس إجراء اشتراكيا، بل مطلبا برجوازيا يستهدف الأرستقراطية العقارية. وقد كرر في مناسبات عديدة أنه على الثورة الروسية أن تستنكف عن الاضطلاع بالمهام الاشتراكية، على اعتبار أن الظروف الموضوعية لبناء الاشتراكية غائبة في روسيا، كما كان الجميع يتفق. لكن منظور لينين لم يتوقف عند تلك الحدود. لقد كان لينين دائما أمميا حازما، وكان منظوره كله يقوم على الثورة الأممية، التي كانت الثورة الروسية مجرد جزء صغيرا منها.
سيسقط العمال والفلاحون الروس النظام القيصري وسينفذون الثورة الديمقراطية البرجوازية بالطريقة الأكثر جذرية. ومن شأن ذلك أن يوفر زخما قويا لعمال أوروبا الغربية الذين سيقومون بالثورة الاشتراكية. بعد ذلك، ومن خلال توحيد جهودهم مع جهود العمال الفرنسيين والألمان والبريطانيين، سيصير من الممكن للعمال الروس تحويل ثورتهم البرجوازية الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية:
«لكنها بالطبع ستكون دكتاتورية ديمقراطية وليست اشتراكية. لن تكون قادرة (بدون سلسلة من المراحل الوسيطة للتطور الثوري) التأثير على أسس الرأسمالية. يمكنها، في أحسن الأحوال، أن تؤدي إلى إعادة توزيع جذري لملكية الأرض لصالح الفلاحين، وإرساء ديمقراطية ثابتة وكاملة، بما في ذلك تشكيل الجمهورية والقضاء على جميع السمات القمعية للعبودية الآسيوية... ووضع الأساس لتحسين شامل في ظروف عيش وعمل العمال وارتفاع في مستوى معيشتهم، وأخيرا وليس آخرا، حمل الصراع الثوري إلى أوروبا».
موقف لينين واضح تماما ولا لبس فيه: الثورة القادمة ستكون ثورة برجوازية، بقيادة البروليتاريا المتحالفة مع جماهير الفلاحين. وأفضل ما يمكن توقعه منها هو تحقيق المهام الديمقراطية البرجوازية الأساسية: توزيع الأراضي على الفلاحين، الجمهورية الديمقراطية، الخ. وهذا ضروري، حيث أن أي محاولة "للتأثير على أسس الرأسمالية" من شأنها أن تدخل البروليتاريا في صراع مع جماهير الفلاحين المالكين الصغار. ويؤكد لينين: «الثورة الديمقراطية ثورة برجوازية بطبيعتها. إن شعار التوزيع العام، أو "الأرض والحرية"... هو شعار برجوازي». بالنسبة إلى لينين لم يكن من الممكن التوصل إلى نتيجة أخرى في بلد متخلف شبه إقطاعي مثل روسيا. إن الحديث عن "تطور" الدكتاتورية الديمقراطية نحو الثورة الاشتراكية يتناقض مع تحليل لينين كله لعلاقات القوى الطبقية في الثورة. وقد أوضح لينين موقفه تجاه دور البروليتاريا في الثورة الديمقراطية البرجوازية في مئات المقالات.
«نحن بعيدون أكثر بما لا يقاس من رفاقنا الغربيين من الثورة الاشتراكية، لكننا أمام ثورة فلاحية ديمقراطية برجوازية ستؤدي فيها البروليتاريا الدور القيادي».
بأي معنى أشار لينين إلى إمكانية الثورة الاشتراكية في روسيا؟ في الاقتباس المذكور أعلاه من "خطتا الاشتراكية"، يؤكد لينين أن الثورة الروسية لن تكون قادرة على التأثير على أسس الرأسمالية "بدون سلسلة من المراحل الوسيطة للتطور الثوري".
من كل هذا يصير من الواضح أن لينين استبعد إمكانية وجود ثورة اشتراكية في روسيا قبل أن يستولي العمال في أوروبا الغربية على السلطة. وقد حافظ على هذا الرأي حتى فبراير 1917، عندما تخلى عنه وتبنى موقفا كان في الجوهر نفس موقف تروتسكي. ومع ذلك فإن لينين، حتى عندما كان يتبنى منظور ثورة برجوازية في روسيا (والتي ستلعب البروليتاريا الدور القيادي فيها) شرح العلاقة الجدلية بين الثورة الروسية والثورة الأممية. وكتب أن الثورة الديمقراطية البرجوازية في روسيا ستحمل:
«الصراع الثوري إلى أوروبا. إن ذلك الانتصار لن يحول بأي شكل من الأشكال ثورتنا البرجوازية إلى ثورة اشتراكية؛ الثورة الديمقراطية لن تتخطى على الفور حدود العلاقات الاجتماعية والاقتصادية البرجوازية؛ ومع ذلك فإن أهمية انتصار كهذا للتطور المستقبلي لروسيا والعالم أجمع ستكون هائلة. لا شيء سيلهب الطاقة الثورية للبروليتاريا العالمية، ولا شيء سيقصر الطريق المؤدي إلى انتصارها الكامل، أكثر من الانتصار الحاسم للثورة التي بدأت الآن في روسيا».
أممية لينين تبرز بجرأة في كل سطر هنا. بالنسبة للينين لم تكن الثورة الروسية عملا مكتفيا ذاتيا، ليست "طريقاً روسيّاً إلى الاشتراكية!"، بل كانت بداية الثورة البروليتارية العالمية. وفي هذا الواقع تحديدا تكمن إمكانية التحول المستقبلي للثورة البرجوازية الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية في روسيا. لم يتبن لينين، ولا أي ماركسي آخر، الوهم بإمكانية بناء "الاشتراكية في بلد واحد"، وخاصة في بلد متخلف آسيوي فلاحي مثل روسيا. وقد شرح لينين، في مكان آخر، أنه من بديهيات الماركسية القول بأن ظروف التحويل الاشتراكي للمجتمع غائبة في روسيا، على الرغم من أنها كانت قد نضجت تماما في أوروبا الغربية. وفي جداله مع المناشفة، في كتابه خطتا الاشتراكية، أكد على الموقف الماركسي الكلاسيكي بخصوص الأهمية الأممية للثورة الروسية:
«الفكرة الأساسية هنا هي فكرة صاغتها مرارا وتكرارا صحيفة فبريود [أي جريدة لينين]، التي أكدت أنه يجب ألا نخاف... من الانتصار الكامل للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية، أي الدكتاتورية الديمقراطية الثورية للبروليتاريا والفلاحين، لأن هذا الانتصار سيمكننا من استنهاض أوروبا؛ وبعد تخلصها من نير البورجوازية، ستساعدنا البروليتاريا الاشتراكية في أوروبا بدورها على تحقيق الثورة الاشتراكية».
هذا هو جوهر تصور لينين للثورة القادمة في روسيا: فالثورة لا يمكن أن تكون سوى برجوازية ديمقراطية (وليس اشتراكية)، لكن وفي الوقت نفسه، فلأن البرجوازية غير مؤهلة للقيام بدور ثوري، لا يمكن للثورة أن تتم إلا على يد الطبقة العاملة، بقيادة الاشتراكية الديمقراطية، والتي سوف تستنهض الجماهير الفلاحية لدعمها. إن الإطاحة بالقيصرية واقتلاع جميع آثار الإقطاع وإقامة الجمهورية، سيكون لها تأثير ثوري هائل على البروليتاريا في البلدان المتقدمة في أوروبا الغربية. لكن الثورة في الغرب لا يمكن أن تكون إلا ثورة اشتراكية، بفضل التطور الهائل للقوى الإنتاجية التي نشأت في ظل الرأسمالية نفسها، والقوة الهائلة للطبقة العاملة والحركة العمالية في تلك البلدان. وأخيرا سوف تخلق الثورة الاشتراكية في الغرب المزيد من النهوض الثوري في روسيا، وبمساعدة من البروليتاريا الاشتراكية في أوروبا، سيحول العمال الروس الثورة الديمقراطية، ضد معارضة البرجوازية والفلاحين المعادين للثورة، إلى ثورة اشتراكية.
«وهكذا، في هذه المرحلة [أي بعد الانتصار النهائي "للديكتاتورية الديمقراطية"]، ستعمل البرجوازية الليبرالية والفلاحون الميسورون، بالإضافة جزئيا إلى الفلاحين المتوسطين، على تنظيم الثورة المضادة، بينما ستقوم البروليتاريا الروسية إلى جانب البروليتاريا الأوروبية بتنظيم الثورة.
في مثل هذه الظروف، يمكن للبروليتاريا الروسية أن تحقق انتصارا ثانيا. إن القضية ليست ميؤوسا منها. والانتصار الثاني هو الثورة الاشتراكية في أوروبا.
سيبين لنا العمال الأوروبيون "كيف نفعل ذلك"، ومن ثم وبالتعاون معهم سنحقق الثورة الاشتراكية.»
هنا، وفي العشرات من المناسبات الأخرى، شرح لينين فكرته بأقصى درجة من الوضوح حول أن انتصار «ثورتنا البرجوازية العظيمة... سوف يستهل حقبة الثورة الاشتراكية في الغرب». وبغض النظر عن كيفية عرض المسألة، فإن لا شيء يمكنه أن يغير حقيقة أن لينين في عام 1905 لم يرفض فقط فكرة "بناء الاشتراكية في روسيا وحدها" (وهي الفكرة التي لم تكن حتى لتتبادر إلى ذهنه)، بل رفض حتى إمكانية إقامة العمال الروس لديكتاتورية البروليتاريا في روسيا قبل الثورة الاشتراكية في الغرب.
اعتبر تروتسكي دائما أن موقف لينين تقدمي بالمقارنة مع النظرية المنشفية للثورة عبر مرحلتين، لكنه أشار أيضا إلى أوجه القصور فيها. وقد كتب عام 1909:
«صحيح أن الفرق بينهما في هذه المسألة كبير جدا: في حين أن الجوانب الرجعية للنظرية المنشفية قد أصبحت واضحة تماما، فمن المحتمل أن تصبح النظرية البلشفية تهديدا خطيرا فقط في حالة الانتصار».
غالبا ما أخرج نقاد تروتسكي الستالينيون هذه الفكرة التنبئية من سياقها، إلا أنها في الواقع تعبر بدقة عما حدث في عام 1917، عندما دخل لينين في صراع مع الزعماء البلاشفة الآخرين بسبب شعار "الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين" على وجه التحديد، والذي تخلى عنه لينين لصالح سياسة متطابقة مع سياسة الثورة الدائمة. وعندما نشر ذلك الكتاب بعد الثورة، كتب تروتسكي في إحدى الحواشي:
«هذا التهديد، كما نعلم، لم يتحقق أبدا لأن البلاشفة، تحت قيادة الرفيق لينين، غيروا سياستهم بشأن هذه المسألة الأكثر أهمية (ليس من دون نضال داخلي) في ربيع عام 1917، أي قبل الاستيلاء على السلطة».
من وجهة النظر المادية، يعتبر المحك النهائي لجميع النظريات هو الممارسة العملية. فكل النظريات والبرامج والمنظورات التي تم طرحها والدفاع عنها بحماس من قبل مختلف التيارات داخل الحركة العمالية الروسية بخصوص طبيعة الثورة والقوى المحركة لها قد خضعت لاختبار قاس خلال أحداث عام 1917. عند تلك النقطة اختفى تماما الخط الذي كان يفصل تروتسكي عن لينين. فالأفكار التي عبر عنها لينين في رسائله من بعيد وموضوعات أبريل، لا يمكن أبدا تمييزها عن تلك التي نقرأها في مقالات تروتسكي في صحيفة "نوفي مير"، التي كتبت في الفترة نفسها لكن على بعد آلاف الأميال في أمريكا. وكما حذر تروتسكي في عام 1909، فإن الجانب المضاد للثورة لنظرية الدكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين لم يصبح واضحا إلا أثناء الثورة نفسها، عندما استخدمها كامينيف وزينوفيف وستالين ضد لينين لتبرير دعمهم للحكومة البرجوازية المؤقتة. وقد ظهر انقسام مفتوح بين لينين وزعماء الحزب الآخرين الذين اتهموه، في الواقع، بالتروتسكية.
في الحقيقة لقد أثبتت نظرية الثورة الدائمة صحتها بشكل باهر في ثورة أكتوبر نفسها. الطبقة العاملة الروسية وصلت، كما تنبأ تروتسكي في عام 1904، إلى السلطة قبل العمال في أوروبا الغربية. لقد قاموا بمهام الثورة البرجوازية الديمقراطية، وشرعوا على الفور في تأميم الصناعة والانتقال إلى إنجاز مهام الثورة الاشتراكية. لعبت البرجوازية بشكل واضح دورا معاديا للثورة، لكنها هزمت على يد العمال المتحالفين مع الفلاحين الفقراء. عندها وجه البلاشفة نداء ثوريا إلى عمال العالم ليحذوا حذوهم. عرف لينين جيدا أنه بدون انتصار الثورة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وخاصة ألمانيا، لن تتمكن الثورة من البقاء على قيد الحياة، وخاصة في بلد متخلف مثل روسيا. ما حدث لاحقا أظهر أن هذا الموقف كان صحيحا تماما. وقد كان إنشاء الأممية (الشيوعية) الثالثة، أي الحزب العالمي للثورة الاشتراكية، تجسيدا ملموسا لهذا المنظور.
صار الموقف أكثر راهنية اليوم. لقد دخلت البرجوازية الوطنية في البلدان المستعمَرة إلى مسرح التاريخ متأخرة جدا، عندما كان العالم قد انقسم بالفعل بين بعض القوى الإمبريالية. لم تكن قادرة على لعب أي دور تقدمي وقد وُلدت وهي تابعة بشكل كامل لسادتها الاستعماريين السابقين. إن البرجوازية الضعيفة والمنحطة في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا تابعة بشكل كامل للرأسمال الأجنبي والإمبريالية مما يجعلها عاجزة بشكل كلي عن دفع المجتمع إلى الأمام. إنها مرتبطة بآلاف الخيوط، ليس فقط إلى الرأسمال الأجنبي، بل أيضا إلى طبقة ملاك الأراضي، التي تشكل معها كتلة رجعية واحدة وعائقا ضد التقدم. ومهما كانت الاختلافات القائمة بين هذه الفئات فإنها تبقى ضئيلة بالمقارنة مع الخوف الذي يوحدهم ضد الجماهير. وحدها البروليتاريا، المتحالفة مع الفلاحين الفقراء وفقراء المدن، من يمكنها أن تحل مشاكل المجتمع من خلال أخذ السلطة بين يديها ومصادرة أملاك الإمبرياليين والبرجوازية، والشروع في مهمة تحويل المجتمع على أسس اشتراكية.
لو بقيت الأممية الشيوعية ثابتة على مواقف لينين وتروتسكي، لكان انتصار الثورة العالمية مضمونا. لكن، لسوء الحظ، تزامنت سنوات تشكل الكومنترن [الأممية الشيوعية] مع تصاعد الردة الستالينية الرجعية في روسيا، والتي كان لها تأثير كارثي على الأحزاب الشيوعية في العالم أجمع. بعد أن تمكنت البيروقراطية الستالينية من الاستيلاء على السلطة في الاتحاد السوفياتي، طورت نظرية محافظة جدا. إن النظرية القائلة بأن الاشتراكية يمكن أن تبنى في بلد واحد، وهي تشويه بشع لوجهة نظر ماركس ولينين، تعكس حقا عقلية البيروقراطية، التي كانت قد تعبت من عواصف وإجهاد الثورة وسعت إلى المضي قدما في مهمة "بناء الاشتراكية في روسيا"، وهو ما يعني أنها تريد حماية وتوسيع امتيازاتها وليس "إهدار" موارد البلاد في متابعة الثورة العالمية. ومن ناحية أخرى كانت تخشى أن تتطور الثورة في بلدان أخرى بشكل صحي وتشكل تهديدا لسيطرتها في روسيا، وبالتالي سعت بنشاط، في مرحلة معينة، لمنع الثورة في بلدان أخرى. وبدلا من إتباع سياسة ثورية تقوم على استقلالية الطبقة العاملة، كما دعا لينين دائما، اقترحت تحالفا للأحزاب الشيوعية مع "البرجوازية التقدمية الوطنية" (فإذا لم تجدها كانت مستعدة تماما لاختراعها) لإنجاز الثورة الديمقراطية، وبعد ذلك، في وقت لاحق، في المستقبل البعيد، عندما تكون البلد قد طورت اقتصادا رأسماليا كاملا، يبدأ النضال من أجل الاشتراكية. تمثل هذه السياسة قطيعة كاملة مع اللينينية وعودة إلى موقف المنشفية القديم: نظرية المرحلتين.