يقال إن أحلك ساعة في الليل هي تلك التي تكون قبيل الفجر مباشرة. عشية اندلاع الثورة الجديدة، كان موقف لينين يبدو ميؤوسا منه، فمن بين ثلاثة مراكز قيادية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، كان اثنان (وهما المكتب الخارجي للجنة المركزية واللجنة المركزية داخل روسيا) تحت سيطرة التوفيقيين (وكذلك التصفويين بالنسبة للجنة المركزية داخل روسيا). وكان الأعضاء البلاشفة في اللجنة المركزية (في الداخل) توفيقيين (في البداية دوبروفينسكي وغولدنبرغ، ثم بعد اعتقالهما نوغين وليتيزن)، في سعي دائم لعقد الاتفاقات مع التصفويين (إيسوف وبرونشتاين ويرمولايف). كان لينين غاضبا من تكتيكات رفاقه، وألح على التقارب مع المناشفة الموالين للحزب وخوض نضال حازم ضد "الكتلة غير المبدئية" التي نتجت عن جلسة يناير العامة. أما خصومه فقد اكتفوا بهز أكتافهم واتهموه بـ "العصبوية".
لم تكن الأمور أفضل بكثير داخل روسيا. فمباشرة قبل الانتفاضة الجديدة، كانت المنظمات البلشفية تعيش حالة شديدة من الضعف. وفي ربيع عام 1911، وصف لينين موقف الحزب على النحو التالي:
«إن الوضع الحقيقي للحزب، في الوقت الحاضر، هو أنه في كل مكان تقريبا هناك مجموعات وخلايا عمالية حزبية غير رسمية، صغيرة للغاية، وصغيرة جدا، تجتمع بشكل غير منتظم. إنهم في كل مكان يكافحون ضد التصفويين-الشرعيين في النقابات وفي النوادي، وما إلى ذلك. ليسوا مرتبطين مع بعضهم البعض، ونادرا جدا ما يرون أي أدبيات. إنهم يتمتعون بالاحترام بين العمال. في تلك المجموعات يتجمع البلاشفة وأنصار بليخانوف، وإلى حد ما "أنصار" فبريود، الذين قرأوا كتابات فبريود أو استمعوا لخطباء فبريوديين، لكنهم لم يتم سحبهم بعد إلى فصيل فبريود المعزول الذي أنشئ في الخارج»[1]
في دراسته للحركة العمالية بسان بيترسبورغ في ذلك الوقت، كتب روبرت ماكين ما يلي:
«بما أن كل المنظمات الثورية تمتنع عمدا عن الاحتفاظ باللوائح الصحيحة لأعضائها وحساباتها المالية، لأسباب الحفاظ على السرية، فإنه من المستحيل تماما رسم صورة دقيقة لحجم المنظمة السرية أو تكوينها الاجتماعي أو حالة مواردها المالية في بداية 1912. كان العدد الإجمالي للأعضاء قد تراجع كثيرا بلا شك وتغير باستمرار بسبب موجات متكررة من الاعتقالات. يجب التعامل بأكبر قدر من الحذر مع التقديرات التي نشرتها صحافة الحزب، على الرغم من أنه حتى هذه الأخيرة بدورها تشهد على قلة عدد الأعضاء. ادعى فصيل لينين أنه يضم نحو 300 عضو في صيف عام 1911، مثلما فعلت "المجموعة المركزية للعمال الاشتراكيين الديمقراطيين" في نهاية العام. وخلال الكونفرانس البلشفي الذي انعقد في براغ، في يناير 1912، قدم مندوب سان بيترسبورغ، ب. أ. زالوتسكي، الرقم الأقرب إلى الواقع الذي هو 109 من أنصار لينين [...]. كان هناك على أكثر تقدير حوالي 500 عضو فقط في الحزب الاشتراكي الديمقراطي. وفي جميع المناطق والمصانع لم يكن هناك سوى مجموعات صغيرة مكونة فقط من 10 أو20 أو30 عضوا يحملون بطاقة الحزب. ويجب وضع هذه الأرقام هذه الهزيلة مقابل إجمالي عدد العمال في سان بيترسبورغ البالغ عددهم 783.000، من بينهم 240.000 عامل صناعي، حسب إحصاء دجنبر 1910»[2]
كان وضعية الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وخاصة جناحه الثوري، تبدو مأساوية إلى أقصى الحدود. لكن تحت السطح كانت هناك قوى غير مرئية تعمل على تحويل الوضع برمته. يجب البحث عن مفتاح التغيير في القاعدة الاقتصادية التي تقف عليها البنية الفوقية للسياسة وكل الحياة الاجتماعية عموما. كان الكساد الاقتصادي، الذي اندلع مباشرة بعد هزيمة دجنبر، قد ضرب بقوة الطبقة العاملة التي كانت مستنزفة أصلا. كان تروتسكي، قد توقع بشكل بارع أن العمال الروس لن يعودوا إلى الحركة إلا بعد أن يبدأ الاقتصاد في الانتعاش مرة أخرى. وقد أكدت الأحداث صحة هذا التوقع. وبحلول أوائل عام 1910، بدأ الوضع الاقتصادي في التحسن، وبدأت الحركة العمالية أيضا في الانتعاش، وإن ببطء في البداية. كانت هناك زيادة في عدد الإضرابات، نجح بعضها، جزئيا على الأقل، في تحسين الأجور وظروف العمل. طرح ذلك الواقع على جدول الأعمال الحاجة الملحة لإعادة بناء الحزب. لكن كيف؟ وما هي الأساليب والسياسات؟ لم يكن هناك توافق في الآراء حول الإجابة عن هذه الأسئلة، بل على العكس من ذلك، كانت الخلافات أكثر شراسة من أي وقت مضى، وخاصة في المنفى، حيث كانت تتميز بطابع حاد بشكل خاص.
بمجرد أن بدأ العمال بالتحرك في اتجاه ثوري، بدأ الموقف بأكمله يتغير. هذا ما كان لينين يعول عليه، وأثبتت الأحداث أنه محق. ضخ نهوض الحركة العمالية نفس حياة جديد في حلقات الحزب السرية. فالعمال الذين كانوا يبحثون عن وسيلة للتعبير عن تطلعاتهم، انجذبوا بشكل طبيعي نحو الراية والاسم الذي كان مألوفا لهم في الفترة السابقة، أي: الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي. لم تكن لدى الفئات الجديدة دراية بالانقسامات والصراعات داخل الحزب. معظمهم لم يقرأ أبدا برنامج الحزب أو قوانينه، لكنهم عندما تحركوا لتغيير المجتمع، احتشدوا حول منظمتهم الجماهيرية التقليدية. وهنا أيضا تأكدت صحة تكتيكات لينين. لو أن البلاشفة استسلموا لتسرع بوغدانوف وانشقوا عن الحزب، لكانوا سيجدون أنفسهم معزولين. صحيح أنهم كانوا سيعرفون بعض النمو، لكن مقابل كل عامل كان سينضم إليهم، كان 100 عامل آخرين سينضمون إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي. لقد تحول الحزب جذريا بفضل تدفق العمال والشباب الجدد. بين عشية وضحاها ظهرت مجموعات في مناطق جديدة. وبحلول عام 1912، صارت منظمة تيفليس (تبليسي) تضم 100 عضو. كان للحزب في الأورال مجموعات تضم ما بين 40 و50 عضوا. وكان المستفيدون الرئيسيون من هذا النمو هم المجموعات الثورية السرية للبلاشفة والمناشفة الموالين للحزب. جلبت هذه الفئات الجديدة معها نسمة من الهواء النقي، واتجهت بشكل تلقائي تقريبا نحو الجناح اليساري، أي نحو اللينينيين، الذين كانوا أكثر نشاطا وأكثر كفاحية وأفضل تنظيما من التيارات الأخرى. ازدادت المشاركة النشطة داخل الحزب مع تزايد نهوض الجماهير إلى النضال مرة أخرى. تم كسب أعضاء جدد، وبمجرد انضمامهم تم كسبهم بسرعة من طرف الكوادر البلشفية. ومع تزايد متطلبات الوضع الثوري الجديد ازداد نفوذ وقوة البلاشفة، باعتبارهم الجناح اليساري داخل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، بخطوات عملاقة.
1: LCW, Material for the Meeting of CC Members of RSDLP, vol. 17, 202.
2: R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, 82–83.