في الربيع، نجح لينين أخيرا في تنظيم جامعة حزبية في منزل من غرفتين صغيرتين مستأجر من أحد عمال الدباغة في قرية لونجوميو بالقرب من باريس. كان الهدف من الجامعة التأكيد على الأهمية الحيوية للنظرية في تكوين الكوادر. كان لينين حريصا بشكل خاص على أن ترسل اللجان المحلية العمال والأشخاص الذين هم على اتصال مع الجماهير لحضور الجامعة. كانت هناك بالطبع جامعات حزبية أخرى في كابري وبولونيا، لكنها كانت تحت هيمنة أنصار بوغدانوف، ومن الواضح أن لينين كان يريد من تنظيم جامعة لونجوميو أن تكون موازنة لتلك الأخيرة. كرس لينين كل نشاطه لإنجاح الجامعة وأعد محاضراته بدقة مميزة. قدم ما مجموعه 45 محاضرة عن الاقتصاد السياسي والمسألة الزراعية والاشتراكية في النظرية والممارسة. كما حاضر زينوفييف وكامينيف عن تاريخ الحزب، وألقيت محاضرات أخرى من طرف شارل رابابورت وإينيسا أرماند. من بين الحضور في الجامعة كان هناك عامل شاب من كييف، لم يكن أحد يعرفه، يدعى أندري مالينوفسكي، الذي كان عميلا للشرطة القيصرية، والذي كان يبلغ عن كل أنشطة الجامعة لمكتب الأوخرانا بباريس. ومن المثير للدهشة أن مالينوفسكي هذالا علاقة له برومان مالينوفسكي الشهير.
على الرغم من أن الجامعة كانت نشاطا بلشفيا محضا، فقد كان هناك من بين المحاضرين بلاشفة وفبريوديون ومناشفة وبونديون وتوفيقيون، لكن لا وجود للتصفويين. وقد كانت هذه فكرة لينين، الذي كان يريد عزل التصفويين، وكسب أفضل العناصر من بين المناشفة (وخاصة المناشفة الموالين للحزب)، وإنقاذ من يمكن إنقاذه من "الوسطيين" والإصلاحيين اليساريين. لكن التاريخ يظهر أن معظم الإصلاحيين اليساريين يجدون أن التمسك بالإصلاحيين اليمينيين أسهل لهم من الانتقال إلى الاتجاه الثوري الصريح. ينطبق هذا القانون على القادة، لكن ليس على القواعد، كما اتضح من تجربة 1905- 1906 و1910- 1914، وكذلك عام 1917. لدينا هنا مرة أخرى مثال آخر على مرونة تكتيكات لينين، فعلى الرغم من أن هدفه الرئيسي كان هو بناء المنظمة البلشفية باعتبارها تيارا مستقلا واضح المعالم، فإنه كان من الضروري خوض نضال مستمر من أجل كسب أفضل العناصر داخل الحزب. لكن الشرط الأول كان هو بناء تيار منفصل.
لهذا السبب كان لينين سعيدا عندما تمكنوا من إصدار جريدة جديدة في بيترسبورغ: "زفيزدا" (النجم)، بهيئة تحرير تضم البلشفي ف. بونش برويفيتش، لكنها ضمت كذلك ن. يوردانسكي من مجموعة بليخانوف و إ. بوكروفسكي، وهو نائب في مجلس الدوما متعاطف مع البلاشفة. لكن لينين كان أكثر سعادة بصدور جريدة ميسل (الفكر) في موسكو، لأنها كانت جريدة بلشفية بحتة. وكتب إلى مكسيم غوركي قائلا: «هنئنا على إصدارنا جريدتنا الخاصة الصغيرة في موسكو، وهي جريدة ماركسية. لقد كان ذلك يوما سعيدا بالنسبة لنا»[1]
لكن وبشكل عام لم تكن هناك أيام سعيدة كثيرة في ذلك الوقت. كانت الأجواء المسمومة لحياة المنفيين بمشاحناتها الأبدية، معلقة مثل حجر رحى حول أعناقهم، كما يوضح لينين:
«إن العيش في خضم هذه الحالة "المتقلبة"، وسط هذه المشاحنات والفضائح، وهذا العفن الجهنمي القبيح، يتسبب في المرض. ومشاهدة كل ذلك تتسبب في المرض أيضا. لكن يجب على المرء ألا يتأثر بهذا الجو. حياة المنفيين الآن هي أسوأ مائة مرة مما كانت عليه قبل الثورة. حياة المنفيين والمشاحنات لا يمكن فصلهما عن بعضهما. لكن المشاحنات يمكن أن توضع جانبا، فتسعة أعشار تلك المشاحنات تحدث في الخارج؛ المشاحنات مجرد شيء ثانوي. الشيء الأساسي هو أن الحزب والحركة الاشتراكية الديمقراطية يتطوران ويتقدمان إلى الأمام في مواجهة جميع الصعوبات الجهنمية للحالة الراهنة. إن تطهير الحزب الاشتراكي الديموقراطي من "انحرافاته" الخطيرة، التصفوية والأوتزوفية، يمضي قدما بلا هوادة، وصار يتقدم إلى الأمام، في إطار الوحدة، أكثر من أي وقت مضى»[2]
لكنه في رسالة أخرى إلى شقيقته آنا، قال: «لا أعرف ما إذا كنت سأعيش حتى أرى النهوض التالي للحركة»[3]
مشكلة النزعة التوفيقية هي أنه لا يمكن ابتذال السياسة إلى حساب بسيط. لا يكون الحال دائما هو أن حاصل اثنين زائد اثنين يساوي أربعة. فاثنين من الركاب في قارب، كل واحد منهما يجذف في اتجاه معاكس، ليسا أفضل من راكب واحد يعرف بالضبط إلى حيث يتجه. كانت التيارات المختلفة داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي تجذف بالفعل في اتجاهات متعارضة، مع تكتيكات متناقضة تماما نابعة من وجهات نظر وأهداف مختلفة تماما. وقد أدت محاولة الجمع بين الاتجاهات المتناقضة إلى ظهور حالة مستحيلة، سرعان ما صارت جلية للجميع. صارت التوترات المتصاعدة داخل الحزب واضحة في كل مكان. بحلول شهر ماي 1911، قام البلاشفة بسحب ممثلهم (ن.أ.سيماشكو) من المكتب الخارجي للجنة المركزية. كما أن المكتب الروسي للجنة المركزية، الذي أصيب بالشلل بسبب الصراع الحزبي الداخلي، توقف عمليا عن الوجود. لقد كان ذلك أمر لا مفر منه.
كتبت كروبسكايا: «إن وحدة كل المجموعات، التي تحققت بصعوبة كبيرة في يناير 1910، بدأت تتفكك بسرعة. وعندما بدأت تطرح المشاكل العملية للعمل في روسيا، صار من الواضح أكثر فأكثر أن التعاون مستحيل»[4]
لم تحل جلسة يناير العامة شيئا. وطالب لينين بالدعوة على وجه السرعة إلى عقد كونفرانس جديد. لكن أقرب رفاقه كانوا يعارضون بعناد الانفصال عن الجناح الانتهازي للحزب. فريكوف وكامينيف وزينوفييف، وغيرهم من البلاشفة التوفيقيين الآخرين، استمروا يعلقون الأوهام على المصالحة. وقد أشار لينين بازدراء إلى: «[...] النوايا الحسنة والكلمات الحلوة والأفكار الطيبة، والعجز عن وضعها موضع التطبيق».[5] أخيرا، وبضغط من لينين، تم عقد اجتماع خاص لأعضاء اللجنة المركزية في باريس، من 28 ماي إلى 04 يونيو، 1911. حضر الاجتماع كل أعضاء اللجنة المركزية بالخارج (باستثناء البوندي يانوف). حضر لينين وريكوف وزينوفييف عن البلاشفة؛ وحضر تيشكا ودزرجينسكي عن الاشتراكيين الديمقراطيين البولنديين والليتوانيين؛ وحضر ليبر ممثلا للبوند؛ وحضر ب. إ. غورِر ممثلا عن هيئة تحرير غولوس، وم. ف. دزولين ممثلا عن اللاتيفيين. مما شكل خليطا متفجرا! وانطلق الاجتماع كما كان من المتوقع ببداية ساخنة.
طرح ممثلو التصفويين والبوند على الفور شرعية الاجتماع موضع تساؤل. وبعد نقاش حاد، وافق الاجتماع أخيرا على قرار لينين بأن يعتبر هذا اللقاء اجتماعا للجنة المركزية[6]. وتم الاتفاق على عقد كونفرانس وتشكيل لجنة بغرض التحضير لذلك. كان ذلك أكثر مما يمكن للمناشفة تحمله، فقام مارتوف ودان بالانسحاب من هيئة تحرير سوتسيال ديموكرات احتجاجا على ذلك. بعد ذلك لم يعد هناك جهاز تمثيلي للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي يضم البلاشفة والمناشفة معا. صار الانشقاق واقعا لا ينقص سوى تسميته باسمه. رفض المناشفة الاعتراف بشرعية اجتماع يونيو في باريس، الذي أطلقوا عليه اسم "الاجتماع الخاص". وكانوا يعارضون بشدة عقد الكونفرانس، الذي كانوا يخشون، بحق، أن يكونوا فيه أقلية. أما لينين، فعلى العكس من ذلك، وضع كل آماله في القواعد العمالية للحزب. وبحلول ذلك الوقت صار أي حل توفيقي آخر مستحيل، على الرغم من أن التوفيقيين استمروا يبطئون خطواتهم مرعوبين من أن يصيروا "معزولين". ومع ذلك فقد كان لينين، كما هو الحال دائما، مستعدا لاستخلاص جميع الخلاصات الضرورية من الوضع. وبمجرد أن قرر أن "الكيل قد طفح"، لم يعد من الممكن زحزحته. فشن نضالا حازما ومتواصلا ضد "التوفيقيين".
في تلك الفترة قرر لينين دفع الأمور إلى أقصى حدودها. ومع دخول الثورة مرحلة جديدة وحاسمة، صار من الواضح أن أي محاولة أخرى للمهادنة مع المناشفة ستكون موقفا غير مسؤول. كان البلاشفة قد بدأوا يحققون المكاسب على أرض الواقع داخل روسيا، وقد آتت الجبهة الموحدة مع المناشفة الموالين للحزب بثمارها مع انتقال عدد كبير من بين أفضل العمال المناشفة إلى صفوف البلاشفة. بدأ المد يتدفق لصالح لينين مرة أخرى. وأولئك الذين تخلفوا وقاوموا الخطوات اللازمة، توجب التخلي عنهم. صار الانشقاق الحازم مع تلك العناصر التي لا يمكن إصلاحها حتميا. لم يضطر لينين إلى خوض تجربة جلسة يناير العامة، التي سرعان ما تحولت إلى مهزلة، إلا من أجل إقناع رفاقه من خلال الممارسة باستحالة الاتحاد مع التصفويين. والآن صار من الضروري إنهاء تلك "التجربة"، حتى لا تتسبب في ضرر لا يمكن إصلاحه للحزب ولقضية الثورة. كانت الحاجة الأكثر إلحاحا آنذاك هي توحيد الجناح الثوري للحزب على أساس مبدئي، للاستفادة من الموجة الثورية المتصاعدة.
كان موقف لينين الحازم قائما على اعتبارات سياسية. صار من الواضح أن التطور السياسي للمنشفية يتجه نحو اليمين. كانت المنشفية تمثل النسخة الروسية للنزعة الانتهازية. وعلى الرغم من أنه بسبب الظروف الموضوعية في روسيا، والضغط من جانب الجناح الثوري، اضطر المناشفة إلى تبني مواقف أكثر "يسارية"، فإن المحتوى الرئيسي لنظريتهم وممارساتهم كان معاديا للثورة بشكل واضح: الاقتصار على النضال البرلماني والسعي المستمر للتحالف مع الليبراليين ومعارضة كل ما من شأنه تخويف الكاديت، والمطالبة بتصفية كل الأنشطة السرية وإخضاع أنشطة الحزب إلى الشرعية القيصرية. كيف يمكن التوفيق بين هذه السياسة وبين الماركسية؟ لكن وعلى الرغم من وضوح صحة حجج لينين، فإنها وقعت على آذان صماء. نظر العديد من موظفي الحزب البلاشفة إلى المسألة من الناحية العملية والتنظيمية البحتة. وقد كتب أحد هؤلاء "العمليين" عن موقف لينين في ذلك الوقت ما يلي:
«لقد سمعنا بالطبع عن "الزوبعة في الفنجان" التي حدثت في الخارج: كتلة لينين- بليخانوف، من جهة، وتروتسكي- مارتوف- بوغدانوف من جهة أخرى. إن موقف العمال من الكتلة الأولى، موقف إيجابي، على حد علمي. لكن العمال بشكل عام بدأوا ينظرون بازدراء إلى المهجر: "دعوهم يزحفون على الجدار قدر ما يشاؤون، أما بالنسبة لنا، المهتمون بمصالح الحركة/ العمل، فسوف نعتني بأنفسنا!" وهذا ما أعتقد أنه الأفضل»[7]
كان ستالين هو من كتب تلك الأسطر. وهي تنقل بدقة الازدراء الكبير تجاه النظرية والتجريبية المبتذلة التي ميزت، للأسف، العديد من أعضاء الحزب في روسيا. لقد كانوا يميلون، بصفة عامة، إلى موقف لينين لأنه يتناسب مع تصورهم لحزب مركزي منظم. لكن في حين كان الحزب، بالنسبة إلى لينين، مجرد أداة في خدمة الأفكار والنظرية الثورية، فإن أعضاء لجان الحزب، أو على الأقل جزء منهم، كانوا يميلون إلى النظر إليه من وجهة نظر تنظيمية بحتة. وحتى بعد الانشقاق النهائي، الذي حدث في عام 1912، استمر لينين يواجه مشاكل كثيرة مع أعضاء اللجان هؤلاء الذين كانوا، مثل ستالين، يعتبرون الانشقاق مجرد مشاحنات بين المنفيين، ومجرد إلهاء مزعج لهم عن المهام العملية. في أبريل 1912، أرسل لينين رسالة شديدة اللهجة إلى أوردجونيكيدزه وسباندريان وستاسوفا، لتوبيخهم على موقفهم الفاضح من النضال ضد التصفويين:
«لا تستهينوا بحملة التصفويين في الخارج. إنه خطأ عظيم أن يقوم المرء ببساطة بشطب ما يجري في الخارج بجرة قلم و"إرساله إلى الجحيم"»[8]
هوامش:
1: LCW, To Maxim Gorky, January 3, 1911, vol. 34, 437.
2: Krupskaya, Reminiscences of Lenin, 208.
3: S. Payne, Lenin, 247.
4: Krupskaya, Reminiscences of Lenin, 224.
5: Lenin, Collected Works, in Russian, vol. 48, 16.
6: KPSS v rezolyutsiyakh, vol. 1, 247.
7: Trotsky, Stalin, 131.
8: LCW, Letter to G.K. Ordzhonikidze, S.S. Spandaryan, and Yelena Stasova, April 1912, vol. 35, 33.