في سنوات الردة الرجعية كان على البلاشفة أن يتعلموا كيفية استخدام أي فرصة وكل ثغرة ممكنة للعمل الجماهيري الشرعي. وقد كانت النقابات إحدى المجالات الرئيسية لذلك العمل. كان المناشفة، بسبب ميلهم الانتهازي للتكيف مع أفكار الفئات الأكثر تخلفا بين صفوف الطبقة العاملة، دائما أقوى من البلاشفة داخل النقابات. تبنى المناشفة موقف الاقتصادويين بأن دافعوا عن أنه يجب أن تكون النقابات "محايدة سياسيا"، وهو أمر يتناقض بشكل كامل مع المبادئ الماركسية الأساسية. صحيح أنه يجب على النقابات، بوصفها الأجهزة القاعدية لتنظيم الطبقة العاملة، أن تسعى جاهدة لاحتواء أوسع فئات البروليتاريا. الفاشيون وحدهم من يجب استبعادهم، باعتبارهم الأعداء المباشرين للطبقة العاملة، فهم لا يسعون فقط إلى تدمير النقابات، وإنما يسعون كذلك إلى القضاء على كل الحقوق الديمقراطية الأخرى التي انتزعها العمال، وبالتالي تصفية براعم المجتمع الجديد الذي ينضج داخل القديم.
ومع ذلك، ففي حين أنه يجب على النقابات أن تسعى جاهدة لتنظيم جميع فئات الطبقة العاملة، بما فيها الفئات المتخلفة سياسيا، فإن هذا لا يعني على الإطلاق أنه يجب على الماركسيين ألا يكافحون من أجل كسب الأغلبية داخل النقابات إلى رايتهم، فبالأحرى أن يسعوا إلى أن تكون النقابات "محايدة" سياسيا. لا يمكن أن يقتصر النضال من أجل حقوق العمال على النضال الاقتصادي المحض، بل إنه ينتقل حتما إلى النضال السياسي. إن المطالبة بأن تمتنع النقابات عن النشاط السياسي (وهو مطلب يوحد، للمفارقة، بين الرجعيين والنقابيين اللاسلطويين) هو شعار يخدم مصالح الأحزاب البرجوازية. إن النقابة غير السياسية هي، كما أوضح لينين مرات عديدة، نقابة صفراء، نقابة برجوازية خبزية. كان ذلك واضحا إلى درجة أنه حتى مؤتمر شتوتغارت للأممية الثانية أكد على أنه يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين أن يسعوا إلى قيادة النقابات العمالية. لكن مارتوف عارض ذلك على أساس أنه لم يكن مناسبا للظروف الروسية.
بالنسبة للبلاشفة، كان الجمع بين العمل السري والعمل الشرعي يعني أن الاشتغال داخل المنظمات العمالية الجماهيرية مهمة إجبارية في ظل جميع الظروف. ليس من الممكن تصور نجاح الثورة الاشتراكية دون قيام الماركسيين بعمل طويل صبور لإرساء قاعدة متينة من الدعم داخل النقابات، بتطبيق تكتيكات ذكية ومرنة للنضال، ليس فقط ضد البوليس والدولة، بل أيضا ضد البيروقراطيين "البوليسيين"، الذين يسعون جاهدين لجعل النقابات آمنة لصالح الطبقة الحاكمة، من خلال تطهيرها من العناصر الثورية. نشرت جريدة "بروليتاري" في عددها رقم 21، الذي صدر في فبراير 1908، قرار اللجنة المركزية للحزب حول الموقف من النقابات العمالية. أوعز القرار إلى أعضاء الحزب بأن يشكلوا مجموعات حزبية داخل المنظمات النقابية والعمل فيها تحت إشراف الأجهزة الحزبية المحلية. وحيثما جعل اضطهاد البوليس من المستحيل تنظيم نقابات عمالية أو إعادة إنشاء النقابات التي تم تفكيكها، اقترحت اللجنة المركزية تنظيم أنوية للنقابات بشكل سري. أما بالنسبة للتنظيمات الشرعية مثل الجمعيات الخيرية وغيرها، فإن قرار اللجنة المركزية أوعز إلى المنظمات المحلية للحزب بأن تشكل داخلها «مجموعات متماسكة من الاشتراكيين الديمقراطيين للقيام بعمل الحزب بين أوسع جماهير البروليتاريا». ولإحباط أي محاولة من جانب المناشفة لتفسير هذا الجزء من القرار بطريقة انتهازية، أشار القرار إلى ضرورة توضيح أن: «النشاط المنظم للبروليتاريا لا يمكن أن يقتصر على هذه الجمعيات وحدها»، وأن الوجود القانوني للنقابات العمالية «ينبغي ألا يقلل من المهام النضالية لتنظيم البروليتاريا داخل النقابات العمالية».[1]
على الرغم من أن المناشفة حافظوا على موقعهم المتميز في غالبية النقابات حتى عام 1917، فإن البلاشفة حققوا تقدما مطردا، ففي نوفمبر 1907، كان هناك في بيترسبورغ 12 ناد وجمعية نقابية للعمال، لكن بحلول عام 1909 ارتفع العدد إلى 19. كانت هذه الجمعيات غالبا ما تضطر إلى العمل تحت أسماء مختلفة لتمويه طبيعتها الحقيقية، فعلى سبيل المثال كان البلاشفة في سان بيترسبورغ يسيرون جمعية تدعى "مصدر التنوير والمعرفة"؛ وكانت أخرى تدعى "التنوير"؛ وأخرى في فيبورغ كان اسمها "التعليم"، وهلم جرا. في كثير من الأحيان كانت هذه الجمعيات والنوادي تلعب دور المنظمات النقابية، في غياب النقابات الحقيقية.
إن الاختراق المنتظم حتى لأشد النقابات بيروقراطية ويمينية هو واجب كل تيار ثوري جدي يناضل من أجل النفوذ بين الجماهير. وقد قام البلاشفة بهذا العمل في أصعب ظروف الردة الرجعية، وكانوا ناجحين جدا في الاستيلاء على المواقع داخل النقابات الشرعية، إلى درجة أن السلطات صارت قلقة بشكل متزايد، كما يتجلى في تقارير الشرطة، مثل هذا التقرير الذي يعود إلى ماي 1907، والذي أخرج من أرشيف الأوخرانا بعد الثورة:
«لقد اتخذت النقابات العمالية بالفعل، وبشكل واضح تماما، مظهر منظمات اشتراكية ديمقراطية، وبالتالي صارت تشكل خطرا شديدا للغاية على القيادة».
وطالب قادة الشرطة المنزعجون باتخاذ تدابير صارمة ضد النقابات قبل أن تؤدي "أوكار المؤامرات الثورية" تلك إلى إشعال انتفاضات مسلحة مرة أخرى.[2]
لم يقتصر العمل في المنظمات الشرعية على النقابات. فقد استخدم البلاشفة كل نشاط قانوني دعت إليه الحكومة أو الليبراليون، مثل مؤتمر عموم روسيا للجامعات الشعبية في بيترسبورغ، في يناير 1908، حيث طرح البلاشفة اقتراحات ذات مضمون طبقي، مثل حق المنظمات العمالية في أن تكون ممثلة داخل مجالس الجامعات والحق في المشاركة في إعداد المناهج الدراسية واختيار الأساتذة المحاضرين المناسبين في العلوم الاجتماعية، والاعتراف لكل قومية بالتعليم بلغتها الخاصة. تم رفض المقترح، بطبيعة الحال، فقام ممثلو العمال بالانسحاب. كان هناك مجال آخر للتدخل هو التعاونيات، وقد كان لهذا الجانب أهمية عملية كبيرة، حيث لجأ العمال، في ظل ظروف الردة الرجعية القاسية، إلى تشكيل الجمعيات التعاونية لعدد من الأغراض (مثل التأمين، وما إلى ذلك). في أول مؤتمر للجمعيات التعاونية لعموم روسيا، الذي عقد في موسكو في أبريل 1908، شكل البلاشفة، ضد رغبات المناشفة، مجموعة لقيادة نضال النقابات والتعاونيات العمالية ضد الأعضاء البرجوازيين الذين كانوا يشكلون الأغلبية. وبعد أن تحدث عدد من البلاشفة قامت الشرطة بحظر جميع الخطابات التي تشير إلى الصراع الطبقي والنقابات العمالية ومساعدة العمال خلال الإضرابات والإغلاقات وأي مسائل أخرى قد يكون لها معنى كفاحي (بما في ذلك انتخاب المكتب المسير)، تحت طائلة الاعتقال. واحتجاجا على ذلك قام المؤتمرون بتعليق أشغال المؤتمر.
كما كان العمل بين النساء من المجالات الهامة الأخرى. كانت هناك العديد من المنظمات النسائية القانونية التي عقدت مؤتمرات تدخل فيها البلاشفة بشكل منهجي أيضا. خلال المؤتمر النسائي الأول لعموم روسيا، الذي عقد في دجنبر في بيترسبورغ، كانت هناك نساء كثيرات من بين المندوبين. ومن بين النقاط التي كانت على جدول الأعمال كان هناك مكافحة الإدمان على الكحول وحماية النساء والأطفال في أماكن العمل والمساواة في الحقوق لصالح اليهود وإعطاء الحقوق السياسية والقانونية للنساء. تقدمت النساء العاملات بمطلب الاقتراع العام السري المباشر والمتساوي، دون تمييز على أساس الجنس أو القومية أو الدين. رفضت لجنة الرئاسة قراءة المقترح وعوضته بمشروع قانون آخر بمضمون برجوازي ليبرالي، مما دفع بالعاملات إلى الانسحاب. كان هناك حدث مماثل في مؤتمر عموم روسيا الأول للمسؤولين في مصنع الأدوية وممثلي الصناعة التحويلية، الذين اجتمعوا في موسكو، في أبريل 1909، تحت شعار: "مهرجان المصالحة". لكن سرعان ما خفتت أنوار المصالحة بمجرد ما بدأ العمال الحاضرون في أخذ الكلمة للتنديد بأوضاع السلامة والنظافة المروعة في أماكن عملهم. وبعد أن أمرت الشرطة بعدم طرح أية أسئلة "من شأنها إثارة الصراع الطبقي" في المناقشات، انسحب جميع العمال وبعض الأطباء، وهو الحدث الذي أجبر هيئة الرئاسة على إنهاء أشغال المؤتمر.[3]
كثيرا ما كانت تلك المنظمات القانونية تضم فئات متخلفة وغير مسيَّسة، لكن حتى هنا، أي في أكثر الحقول صعوبة على ما يبدو، قام البلاشفة بعمل سياسي، واستخدموها لبناء وتعزيز روابطهم مع الجماهير. ومثلما يقوم متسلق الجبال بالبحث عن كل نتوء وكل صدع ليثبت قدمه ويرفع نفسه، كان البلاشفة يبحثون عن كل ثغرة قانونية ويستغلونها إلى أقصى حد. بل إنهم تدخلوا حتى في مؤتمر لمكافحة الكحول عقدته جمعية لمكافحة الإدمان في دجنبر 1909. وشيئا فشيئا وبتضحيات جسيمة، تمكن البلاشفة من إعادة تجميع قواهم وإعادة بناء الروابط مع الجماهير، التي كانت قد قطعتها بوحشية الثورة المضادة المنتصرة. ومع ذلك، فإن النضال كان ما يزال شاقا. كان الثوريون ما يزالون يسبحون ضد التيار. واستمر الوضع العام للطبقة العاملة كئيبا. رفض البلاشفة أي عمل من أعمال المغامرة التي من شأنها أن تعرض العمال للقمع. كانت الضرورة الأساسية هي الحفاظ على ما تبقى من القوات، والتقدم ببطء، خطوة خطوة، وانتظار حدوث تغير في الوضع. لم يبدأ المد مجددا إلا في عام 1911، مع مذبحة لينا. وكان الانتعاش، كما توقع تروتسكي، مرتبطا بانتعاش اقتصادي. حتى ذلك الوقت، كان الرسم البياني لحركة الإضرابات، الذي يوفر مؤشرا تقريبيا لحالة الحركة العمالية، يسجل انخفاضا مستمرا:
عدد العمال المضربين السنوات 740.000 1907 176.000 1908 64.000 1909 46.000 1910 (Istoriya KPSS, vol. 2, 322)
ثم في الفترة الممتدة ما بين عامي 1910 و1913 أعلنت طفرة اقتصادية نهاية الكساد الطويل الذي سيطر على السنوات الأولى من القرن 20. ارتفع إنتاج الحديد الزهر في الفترة ما بين 1909 و1913 من 175 مليون بود[4] إلى 283 مليون بود -وهو ما لا تخفى علاقته باستعدادات النظام القيصري للحرب-. وفي الفترة نفسها ارتفع إنتاج الفحم من 1.591 مليار طن إلى 2.214 مليار. وقد أعطى الانتعاش الاقتصادي دفعة قوية لإحياء الصراع الطبقي. بدأ العمال في تسخين عضلاتهم والشعور مجددا بقوتهم. في النصف الثاني من عام 1910، كان هناك بالفعل ارتفاع في عدد الإضرابات، بالتزامن مع الانتعاش الاقتصادي. وقد أدت زيادة الإنتاج وازدهار الأعمال إلى تغيير الأجواء داخل أماكن العمل، وزاد من ثقة الطبقة العاملة في نفسها. وبحلول منتصف عام 1910، انتقلت الطبقة العاملة مرة أخرى إلى الهجوم. أضرب 10.000 من عمال النسيج في موسكو في فصل الصيف. وفي وقت لاحق انتشرت موجة الإضرابات إلى ريغا وفلاديمير وكازان وساراتوف ووارسو وأوديسا وكوستروما، وغيرها من المراكز الصناعية. كانت الأسباب المباشرة للإضرابات هي انخفاض الأجور وظروف العمل السيئة والمشكلة القديمة المتمثلة في الغرامات التي تفرض على العمال داخل المصانع، لكن ذلك لم يكن سوى التعبير الفوري عن شعور عميق الجذور وواسع الانتشار من السخط. فالعمال الذين بدأوا الآن يشعرون من جديد بقوتهم انتقلوا إلى الانتقام. كان العمال قد عانوا من نتائج هزيمة ثورة 1905، فنهضوا للانتقام من سنوات القمع والتسريحات وتخفيض الأجور وآلاف أشكال الإذلال والظلم، بل أضربوا حتى احتجاجا على استخدام كلمة "تي" من قبل الإدارة عند التحدث مع العمال، وهي عبارة يستخدمها الكبار عند تحدثهم مع الأطفال الصغار.
سار ارتفاع الإنتاج جنبا إلى جنب مع تركيز رأس المال، مع حدوث اندماجات خلقت مصانع أكبر فأكبر. وبحلول عام 1914، صارت المصانع التي تضم أكثر من 500 عامل تشكل 56,5% من مجموع المصانع. كانت روسيا القيصرية في تلك الفترة واحدة من أكبر القوى العالمية من حيث تركيز رأس المال. استمرت روسيا اقتصادا متخلفا إلى حد ما، لكن مع تركيز هائل للصناعة ورأس المال المصرفي، إلى درجة أكبر في الواقع من معظم البلدان الرأسمالية المتقدمة. كان ذلك تجسيدا واضحا للقانون الماركسي حول التطور المركب وغير المتكافئ. تظهر سيرورة الاحتكار في واقع أنه بحلول عام 1913 أنتجت تسع شركات كبيرة 53,1% من إنتاج الحديد الزهر، وسبعة مصانع للساعات كانت تنتج 90% من الساعات، وست شركات للنفط في باكو أنتجت 65% من النفط، وهلم جرا. ولم يكن العدد الإجمالي للاحتكارات في روسيا أقل من 150 إلى 200 شركة احتكارية. كانت هيمنة المصانع الضخمة، التي تركز أعدادا كبيرة من العمال في ظروف مروعة، وخاصة في صناعة المعادن، عاملا قويا أعطى دفعة هائلة لحركة الإضرابات التي سبقت الحرب العالمية الأولى ووسمتها بطابع ثوري واضح.[5]
ومما له دلالة كبيرة أن العديد من تلك الإضرابات كان ناجحا، فمن بين 265 إضرابا، انتصر 140 (52,8%). والأهم من ذلك هو عدد الإضرابات السياسية، ففي عام 1909، ووفقا للأرقام الرسمية، كانت 7,7% من الإضرابات إضرابات سياسية؛ وفي عام 1910، صار الرقم هو 8,1%، لكن بحلول عام 1912، وصلت إلى الرقم المذهل 75,8%. توفر هذه الأرقام مقياسا لا يخطئ عن مزاج الجماهير. كما أن الحركة لم تقتصر على الإضرابات، حيث أثرت موجة التجذر على فئة المثقفين، وخاصة الشباب. عادت الحركة الطلابية إلى الحياة، وسرعان ما صارت تحت تأثير الأفكار الاشتراكية الديمقراطية الثورية. في يناير/ مارس 1911، كان البلاشفة في وضع يسمح لهم بالدعوة إلى إضرابات طلابية في سان بيترسبورغ وموسكو وكييف وخاركوف وتومسك ووارسو. وكانت هناك أيضا مظاهرات جماهيرية، بعضها ذات طابع سياسي واضح، مثل المظاهرات الجماهيرية الرائعة التي جرت أثناء تشييع تولستوي في نوفمبر 1910. كان ذلك الروائي الروسي العظيم قد استحق كراهية الرجعيين بسبب مواقفه التقدمية، بل لقد تعرض حتى للحرمان من طرف المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية. لكن وعلى الرغم من الرفض الرسمي، فقد كان من المستحيل منع الجماهير من المشاركة في جنازته، ليس فقط لتوديع ذلك الرجل العظيم، بل وقبل كل شيء للتعبير عن كراهيتها للنظام والحكم الاستبدادي.