نشر هذا المقال في الأصل باللغة الروسية يوم 23 أبريل 2019 على موقع www.1917.com ويتناول بالتحليل نظام بوتين في روسيا: كيف وصل إلى السلطة وما هي خصائصه الرئيسية وكيف يختلف من حيث الجوهر عن الأنظمة البرجوازية التقليدية كما نعرفها في الغرب.
[Source]
________________________________________
من المستحيل النضال ضد الرأسمالية الروسية الحديثة دون فهم هيكلها الداخلي وقواها الدافعة. إن فهمنا لنقاط ضعفها سيمكننا من تطوير تكتيكات تساعدنا على قيادة الطبقة العاملة إلى النصر.
الرأسمالية الروسية رأسمالية احتكارية. في تسعينيات القرن العشرين اندمج الرأسمال الصناعي والرأسمال البنكي ليصيرا رأسمالا ماليا، وقامت شركات ضخمة بالسيطرة على الاقتصاد الوطني. نفس الوضع بالضبط يوجد اليوم في جميع البلدان الرأسمالية المتقدمة. ومع ذلك فإنه إذا نظرنا عن كثب، سوف نرى أنه على الرغم من وجود قاعدة اقتصادية مماثلة في كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية وفرنسا وتركيا واليونان وألمانيا والصين، فإن البنية الفوقية (أي الأنظمة السياسية) فيها تختلف بشكل كبير.
يحاول علماء السياسة شرح هذه الاختلافات باستخدام مصطلحات لا معنى لها مثل “نضج الديمقراطية” أو إرجاع كل شيء إلى “الخصوصية الوطنية”. أما الماركسيون فإنهم يبحثون عن الإجابة في علاقات الإنتاج التي ينظرون إليها في تطورها التاريخي.
الدولة البورجوازية
عندما كانت الرأسمالية ما تزال في مرحلة شبابها، عندما كانت ما تزال تدخل مسرح التاريخ، كانت تعتمد في الغالب على ميليشيات طبقية منظمة ديمقراطيا -الحرس الوطني- للدفاع عن مصالحها. على المستوى المحلي كانت الوظائف القمعية في أيدي عمداء وقضاة منتخبين. وبعد اقصاء العناصر البروليتارية وشبه البروليتارية، بفرض شرط المِلكية وغيرها من الشروط المماثلة، أنشأت البرجوازية دولتها “غير المكلفة نسبيا”. يمكن الاستشهاد بالولايات المتحدة حتى نهاية القرن التاسع عشر كمثال نموذجي لذلك الشكل من أشكال الدولة. في مثل تلك الدولة لا يمكن تحقيق الاستقرار إلا بوجود قاعدة واسعة من البرجوازية الصغيرة والمتوسطة.
لكن تركيز الرأسمال يؤدي حتما إلى زيادة نسبة البروليتاريا والبروليتارية الرثة بين عموم السكان. ومن الواضح أن أعضاء هاتين الطبقتين ليسوا مهتمين مطلقا بحماية ممتلكات الرأسماليين سواء من الفقراء في الداخل أو من الرأسماليين الأجانب، أو على الأقل لن يقوموا بذلك طوعا أو مجانا. إن أي نظام استغلالي ناضج يحتاج ليس فقط إلى هيئات من الرجال المسلحين، بل يحتاج أيضا إلى السجون والسجانين ورجال شرطة والدرك والمحققين، ويحتاج كذلك إلى خدمة جبي الضرائب، التي تأخذ الأموال من المواطنين من جميع الطبقات لدعم الاقتصاد بأكمله. يصير الجيش بدوره محترفا، وسواء كان الجنود مأجورين أو متطوعين، فإن هيئة الضباط تتكون من محترفين.
المؤسسة
وهنا ينشأ لأول مرة موقف مرتبك، حيث تفوض البرجوازية سلطة حماية ممتلكاتها لفئة اجتماعية خاصة هي: الضباط والموظفون. لكن من أين يتم تجنيد هؤلاء الأشخاص؟ وكيف يتم ضمان ولائهم للرأسمالية؟ في البداية كانوا في معظمهم من الأرستقراطيين، الذين ينحدرون من طبقة الملاكين العقاريين المتحللة، لكن أيضا من أبناء الرأسماليين الذين رأوا في الانضمام إلى النخبة العسكرية وبيروقراطية الدولة شرفا لهم. كان انحدارهم من الطبقات المالكة يجعلهم مرتبطين بالرأسماليين من خلال أسلوب الحياة المشترك والتعليم والعلاقات الأسرية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الروابط التاريخية تتحطم تدريجيا مع تطور الرأسمالية، مما يفضح أكثر فأكثر طابعها الطفيلي. أبناء الرأسماليين الكبار ليسوا متحمسين جدا لأداء الخدمة العسكرية أو العمل في الوظائف العامة. وبالتدريج، ومن خلال عملية الانتقاء في الأكاديميات العسكرية وجامعات النخبة، يتغلغل عدد متزايد من أبناء الطبقات الدنيا والأقليات القومية إلى مؤسسات الدولة تلك، والذين يستوعبهم النظام بنجاح.
الديمقراطية البورجوازية
في مرحلة ما من التطور التاريخي يؤدي ضغط الطبقة العاملة إلى إجبار البرجوازية على الاعتراف بها للمشاركة في الانتخابات. وابتداء من هذه اللحظة فصاعدا، يصير غالبية الناخبين من البروليتاريين، أو البرجوازيين الصغار والفلاحين. عندها لا يبقى في مقدور المترشحين، في الانتخابات على جميع المستويات، الاعتماد فقط على أصوات البرجوازية. يصير الخداع المنهجي للناخبين عملا يتطلب الكثير من الوقت ولا يمكن المزاوجة بينه وبين القيام بالأعمال الأخرى. وهكذا تصبح السياسة مهنة وتبدأ العملية بتشكيل الأحزاب البرجوازية.
يأخذ السياسيون البورجوازيون الأموال بشكل فردي أو جماعي من عند الرأسماليين بطريقة منظمة من خلال صناديق الانتخابات، وإذا ما فازوا في الانتخابات فإنهم يعملون كجماعات ضغط لصالح فئة من الرأسماليين، وفي نفس الوقت لصالح الطبقة الرأسمالية ككل. يلعب الإعلام البورجوازي و”الخبراء السياسيون” الدور الرئيسي في تحويل أموال الرعاة الرأسماليين إلى أصوات. وبطبيعة الحال فإن السياسي الذي لا يحصل على ثقة رأس المال يحرم على الفور من التمويل، وبالتالي من الوصول إلى وسائل الإعلام.
إن الوضع المثالي للبرجوازية هو نظام الحزبين حيث يمكن للناخبين، الغاضبين من السياسات المناهضة للعمال التي طبقها أحد الحزبين البرجوازيين، التصويت لصالح الحزب الآخر، وبعد بضع سنوات يعودون ليصوتوا مرة أخرى للأول. وهو نفس النظام الذي يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا ما نشأ حزب عمالي في البلد، تصير البرجوازية مجبرة على العمل على دمج قادته في المؤسسة الرسمية. ويتم تسهيل ذلك من خلال نظام الديمقراطية البرجوازية الهرمي، حيث يتم عبر البرلمانات المحلية والإقليمية إفساد القادة العماليين السابقين بشكل تدريجي، مباشر وغير مباشر، وربطهم بالطبقة الحاكمة ومؤسستها.
روسيا
يجب أن نلاحظ أن المؤسسة، كظاهرة تاريخية واجتماعية وحتى ثقافية، غير موجودة في روسيا. لقد قام المسؤولون السابقون في الدولة بسرقة وبيع الممتلكات العمومية، لكن المشاركة المنتظمة لمسؤولي الدولة في الخصخصة لم تؤد إلى تشكيل مؤسسة بالمعنى الصحيح للمصطلح. فمن خلال خصخصتهم للشركات التي يديرونها، أصبح مسؤولو الدولة ببساطة رأسماليين، وصاروا يشكلون طبقة رأسمالية جديدة. وفي وقت لاحق باع الكثير منهم أصولهم في روسيا، سواء طوعا أو تحت ضغط الجيل الجديد من البيروقراطيين، وهاجروا إلى الغرب حيث انضموا إلى صفوف المستثمرين هناك.
هنا [في روسيا]، مثلما هو الحال في الغرب، توجد علاقة بين الرأسمالية وبين بيروقراطية الدولة، لكنها نوع مختلف من العلاقات، علاقة تحول مسؤولي الدولة إلى رأسماليين. والأهم هو أن هذه العملية غالبا ما تكون عنيفة، مصحوبة بمصادرة جزئية أو كاملة لممتلكات بعض الأفراد الرأسماليين. يكفي أن نطلع على أي عدد من أعداد جريدة Novaya Gazeta لكي نقرأ القصص المفجعة عن الحياة الصعبة التي يعيشها رجال الأعمال الجشعين القابعين في السجون الروسية ومعسكرات إعادة التأهيل. من الواضح أن السبب في ذلك هو أن الطبقة الحاكمة ليست لديها أية طريقة للسيطرة على كبار مسؤولي الدولة. لكن كيف نشأ هذا الوضع؟
الخصخصة
على عكس العديد من بلدان أوروبا الشرقية، حيث أدى الاستسلام للإمبريالية الغربية إلى خصخصة الصناعة لصالح الشركات الغربية، فإن المستفيدين الرئيسيين من الخصخصة في روسيا هم نفس مدراء تلك المؤسسات الحكومية والمسؤولون وكبار قادة الحزب. لقد قامت البيروقراطية الستالينية، أو النومينكلاتورا “nomenklatura” كما كانت تسمى، بخصخصة المصانع لمصلحتها، كما تم توزيع قسم هزيل من الملكية لصالح عمال تلك الشركات عبر بيع بعض الأسهم لهم.
لكن سرعان ما أصبح من الواضح أن التشرذم الشديد لرأس المال لا يتوافق على الإطلاق مع المستوى العالي للنمو الاقتصادي. فقد تم تقسيم شركة الطيران Aeroflot، على سبيل المثال، إلى عدة مئات من الشركات المحلية، التي كانت معظمها تمتلك طائرتان أو ثلاث. وبسبب غياب الرأسمال الاستثماري الحر ونظرا لتخلف النظام المصرفي، كانت قيمة الأصول تتراجع باستمرار. قام الأوليغارشيون المستقبليون بشراء الأصول بأموال حصلوا عليها من بيع الخردة المعدنية أو من خلال الشركات المالية. لكن مثل هذا النشاط مستحيل دون وجود علاقة بالبيروقراطية. وفي النهاية تمت خصخصة الأصول الرئيسية لصالح الأوليغارشيين من خلال المزادات العلنية وتم دفع ثمنها بالمال المقترض من الدولة.
“المصرفيون السبعة”
في السنوات الأخيرة من حكم يلتسين، كانت الشركات الكبرى قد بدأت تفرض سيطرتها على النظام السياسي في البلاد. وقد استخدم الأوليغارشيون أساليب مختلفة لتحقيق ذلك: جوسينسكي من خلال السيطرة على وسائل الإعلام، وخودوركوفسكي من خلال جماعات الضغط البرلمانية (العابرة لجميع الفرق البرلمانية)، وبيريزوفسكي من خلال السيطرة على “سيلوفيكي” (السياسيون من الجهاز العسكري) والنخب الإقليمية. وكان المصرفيون قد قاموا بنخر الدولة من الداخل حرفيا، وأجبروها على إصدار سندات قروض (GKO) بأسعار فائدة عالية جدا.
انتهى شهر غشت 1998 بإفلاس الحكومة. وبعد أن تسببوا في إفلاس بنوكهم، قام الأوليغارشيون بتحميل ديونهم للدولة، وأصبحوا أكثر ثراء. تأثرت الشركات متوسطة الحجم بسبب فقدان السيولة في الحسابات المصرفية وانهارت قيمة الروبل وانخفض الطلب، وأفلست الشركات الصغيرة. لقد قوض ذلك بشكل كامل دعم حكومة يلتسين، ليس فقط بين الطبقة العاملة بل وأيضا بين معظم فئات البرجوازية. فقام يلتسين، على مضض، بالاعتراف بحكومة التكنوقراطيين بريماكوف – ماسليوكوف. سيطر الأوليغارشيون على الرئيس الذي لم يكن يسيطر على الحكومة. وفي الوقت نفسه كان هؤلاء الأوليغارشيون في حاجة إلى حكومة ليبرالية تسمح لهم باتخاذ الخطوة الأخيرة على طريق التحول من قطاع طرق يمتلكون جيوشا خاصة وقتلة مأجورين إلى أصحاب مليارات محترمين، من أجل ضمان تبادل الأصول مع الشركات الغربية، وبالتالي ضمان سلامة ذمتهم.
نقل السلطة إلى بوتين
في تلك اللحظة وضع بيريزوفسكي وشركاؤه خطة لنقل السلطة إلى يد ليبرالي “قوي”. بيد أن بيريزوفسكي ارتكب خطأ، وهو أنه لم يقرأ أطروحات بوتين التي كان قد نشرها في العام السابق. كان بوتين قد تحول بالفعل إلى ليبرالي، لكنه ليس مثل بينوشيه، بل بالأحرى مثل تشونغ دو هوان [الجنرال السابق بالجيش الكوري الجنوبي الذي شغل منصب الرئيس من 1980 إلى 1988]. لم يكن ذلك مجرد صدفة، فبوتين، مثله مثل بقية ضباط المخابرات الروسية الآخرين، رأى أن علاقات المِلكية هشة في روسيا، لذا فقد أدرك أن بإمكانه أن يلعب دورا أكثر أهمية من دور خادم عند بيريزوفسكي.
ليس هذا هو المكان المناسب لكي نناقش كيف تمكن بيريزوفسكي وبوتين من إطلاق “حرب صغيرة منتصرة” في الشيشان، إلا أن تقوية جهاز الدولة كانت له عواقب مختلفة تماما عما كان الأوليغارشيون يتوقعونه. فأولئك الذين لم يوافقوا على قبول القواعد الجديدة للعبة، أي إما الانسحاب بالكامل من الحياة السياسية أو اتباع أوامر بوتين بحذافيرها، هُزموا وصودرت ممتلكاتهم. المثال الأكثر شهرة هو خودوركوفسكي وشركته Yukos، لكن هناك الكثير من الأوليغارشيين الآخرين الذين واجهوا نفس المصير.
القطاع العام و”إعادة التأميم”
معظم الشركات المرتبطة بإنتاج المحروقات أعيدت إلى سيطرة الدولة. وصارت الشركات الحكومية والشركات المساهمة بمشاركة الدولة (بحصة تخول السيطرة تعرف باسم “الحصة الذهبية”) تعمل في ظروف السوق. من المفترض من الناحية الرسمية أن تلك الشركات تشتغل لصالح المساهمين، لكنها في الواقع تشتغل لمصلحة الإدارة العليا، التي يتم تعيينها من جانب الدولة وليس من جانب المساهمين. ليس لهذا النوع من التأميم أي علاقة بالاقتصاد المخطط.
ملكية الدولة هذه تخدم الرأسمال الكبير في المقام الأول، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وليست إلا بشكل ثانوي أداة لإدارة الدولة للاقتصاد وتطوير المجالات ذات الأولوية بالنسبة لها، وما إلى ذلك.
البونابرتية
لقد سبق للتاريخ أن قدم أمثلة عديدة عن ذلك الموقف الذي تفقد فيه الطبقة السائدة السيطرة على الدولة وتصبح معتمدة عليها. طرح ماركس مفهوم البونابرتية البرجوازية في كتابه “الثامن عشر من برومير” لوصف نظام الإمبراطورية الثانية في فرنسا، حيث كان الإمبراطور هو من يعين المسؤولين وحكام الأقاليم، وحيث استمرت الطبقة الرأسمالية السائدة مالكة لوسائل الإنتاج، لكن للدفاع عن مصالحها كانت مضطرة إلى الاعتماد بالكامل على الإمبراطور.
كان سبب قيام النظام البونابرتي هو عدم قدرة البرجوازية على مواصلة السيطرة على البروليتاريا (وبالتالي ضمان حرمة الملكية الخاصة) بعد انتصار ثورة 1848 وانهيار الجمهورية الثانية ونظام الديمقراطية البرجوازية المحدودة الذي ساد في عهدها. وافقت البرجوازية على القيود المفروضة على حرية التعبير والتجمع والأندية، لأنها فهمت أن هذه هي الطريقة الوحيدة لمنع انتقال السلطة إلى أيدي البروليتاريا في باريس وليون حيث شكلت البروليتاريا غالبية السكان.
لويس بونابرت الذي كرس نفسه لحماية المجتمع الطبقي القائم، جمع بين القمع السياسي ضد الشيوعيين وبين السماح للنقابات بالعمل الشرعي (في النصف الثاني من فترة حكمه) وكذا الاعتراف بحق العمال في الإضراب (لأول مرة في العصر الحديث). وفي محاولة منه للظهور كسياسي قوي، اتبع الإمبراطور سياسة خارجية نشيطة، والتي كانت ذروتها تلك “الحرب الصغيرة” ضد بروسيا، والتي أدت إلى هزيمة الجيش الفرنسي وقيام كومونة باريس.
البنية التحتية والبنية الفوقية
الدولة أداة بيد الطبقة السائدة. إن هذا الموقف صحيح بشكل عام. لكننا إذا نظرنا إلى تاريخ المجتمعات الطبقية، سنجد عصورا كاملة تمكنت خلالها الدولة – أي البيروقراطية- من إخضاع الطبقة السائدة وشل إرادتها وحكم البلد دون مشاركتها الفعلية. وكمثال على ذلك نجد الإمبراطورية الرومانية خلال فتراتها المتأخرة، حيث كان مجلس الشيوخ -السلطة الديمقراطية لطبقة مالكي العبيد- مجرد دمية في يد الأباطرة، والذين كان حرسهم يعينونهم في السلطة ويطيحون بهم منها. كما أن ملوك الحكم المطلق الأوروبيين، الذين رفعتهم بيروقراطيتهم فوق الإقطاعيين حرموا هؤلاء الأخيرين ليس فقط من الحق في تحصيل الرسوم أو الحكم على المدانين، بل -ويا للعار- حرموهم حتى من لعبة المبارزات! وإذا انتقلنا إلى تاريخ القرن العشرين، يمكننا أن نشير إلى شيانغ كاي شيك، الذي جمع بين اقتصاد السوق الرأسمالي وبين نظام سياسي كانت فيه كل السلطة في أيدي بيروقراطية حزب الكومينتانغ.
قد تبدو الأنظمة البونابرتية مستقرة للغاية، لكن هناك تناقضات داخلية مستعصية في قاعدة الدعم السياسي التي تبدو قوية ظاهريا. فمن ناحية هناك الفساد المستشري والاحتكار المباشر للثروة من قبل مسؤولي الدولة، لأن البرجوازية ليست لديها أي طريقة للحد من استبدادهم إلا من خلال توجيه “الملتمسات إلى البونابرت”. ومن ناحية أخرى يقف “الزعيم البونابرتي” أمام الطبقات المضطهَدة باعتباره الشخصية السياسية المسؤولة عن كل شيء. وحتى إن لم يضمن الرئيس الرخاء فعليه أن يضمن على الأقل حدا أدنى من الحياة الاجتماعية. لكن إذا تعرض العرش لخطر الانهيار فإنه يلجأ إلى الجلوس على الحراب! في ظروف النمو الاقتصادي الطويل الأمد، قد تتحول الأنظمة البونابرتية بشكل سلمي إلى ديمقراطيات ليبرالية، لكن في ظل الأزمة يكون الانهيار هو الاحتمال الأكثر ترجيحا.
عن بوتين مرة أخرى
لقد رأينا كيف استندت الشركات الكبرى على بوتين. فهم بوتين أنه بعد الأزمة سيجد نفسه في عزلة سياسية كاملة محاصرا بالجماهير الغاضبة، لذا فإنه من خلال تحويل انتباه الجماهير إلى الشيشان، تمكن من تحقيق الاستقرار في الوضع السياسي، ومن ثم أدى انخفاض الأجور الحقيقية وتوفر الاستثمار في قطاع الإنتاج إلى تحقيق نمو اقتصادي. وقد ساعده في ذلك أيضا ارتفاع سعر النفط. لكن فترة النمو تلك توقفت بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، التي ضربت الاقتصاد الروسي كذلك.
أدت الأزمة، من جهة، إلى تنامي شكوك البرجوازية الصغيرة والمتوسطة وخيبة أملها تجاه بوتين، كما أدت، من جهة أخرى، إلى إدراك السلطات لمدى اعتماد الاقتصاد الروسي على السوق العالمية. وقد كانت نتيجة ذلك هو اندلاع الاحتجاجات الجماهيرية في 2011-2012 وبحث بوتين عن قاعدة اجتماعية جديدة وعن “حرب صغيرة منتصرة” أخرى.
شبه جزيرة القرم والعقوبات
من وجهة نظر الطبقة الرأسمالية الروسية الكبرى، التي فقدت الكثير من أصولها في أوكرانيا عام 2004، كان ضم شبه جزيرة القرم مغامرة مجنونة، أسفرت عن عقوبات اقتصادية تلاها ركود في الاقتصاد. ربما يكون بوتين قد توقع حدوث ذلك، وبالتالي سعى لتحقيق هدفين في نفس الآن: أولا كسب ذلك العدد الهائل من الروس الذين أخافتهم أحدات ساحة الميدان (Maidan) وتعاطفوا مع استفتاء القرم، وثانياً البدء في إعادة الرساميل إلى روسيا في ضوء العقوبات التي أدت إلى الحد من دخول الرأسمال الأجنبي الرخيص، والسيطرة على آخر الشركات الكبيرة المستقلة في قطاع التجارة بالمفرق (كشركة ماغنيت على سبيل المثال) وقطاع الاتصالات (كشركة Tele2).
أدى نمو القاعدة الاجتماعية للنظام إلى بروز عدد من الحركات الجماهيرية التي تدعم الرئيس، لكن من الواضح أنه لا يسعى إلى استخدام ولو 10% من قدرات هذه الحركات. بوتين لا يسعى إلى إنشاء فصائل مسلحة من أنصاره، مفضلا على ذلك تقوية جهاز الحرس الروسي.
البونابرتية والفاشية
تبدأ الفاشية، كما سبق لتروتسكي أن أشار، كحركة احتجاج جماهيرية للبرجوازية الصغيرة. عند احتداد الأزمة تقع البرجوازية الصغيرة بين البروليتاريا الثورية من جهة وبين الرأسمال الكبير من جهة أخرى، وتبحث عن حل جذري لمشاكلها من خلال إنشاء عصابات فاشية تتكون في غالبيتها من حثالة البروليتاريا. وبما أنهم غير قادرين على الوصول إلى السلطة من تلقاء أنفسهم، فإنهم يبحثون عن الفرصة لعقد صفقة مع الرأسمال الكبير. يعتبر ذلك بالنسبة لهذا الأخير تدبيرا متطرفا؛ فالرأسمال الكبير يفضل ما أمكن أن يبقى ضمن ذلك النوع الكلاسيكي “المعتدل” من البونابرتية، ولا يلجأ، سوى في حالات التهديد الشيوعي المباشر، إلى المخاطرة بأن يصير رهينا في يد العصابات الفاشية. وقد أوضح تروتسكي، في مقاله الأخير، أنه على الرغم من أن الفاشية لديها بعض مميزات البونابرتية، فإنهما ليستا شيئا واحدا.
إن الوسيلة التي يعتبرها بوتين اليوم صالحة لقمع أي حركة للطبقة العاملة ليست هي حركة التحرير الوطني اليمينية المتطرفة، بل الحرس الوطني (روسغارد) [والتي هي قوة عسكرية داخلية تقدم تقاريرها مباشرة إلى الرئيس بسبب سلطاته كقائد أعلى لمجلس الأمن الروسي]. إن نظامه يشبه نظاما بونابرتيا كلاسيكيا أكثر مما يشبه نظاما فاشيا. لم تصل الحركة الجماهيرية للطبقة العاملة بعد لطرح مسألة السلطة، وبالتالي فإن بوتين ما يزال في استطاعته الاعتماد بشكل كامل على جهاز الدولة البرجوازية.
العناكب في الجرة
إذن ما الذي يهدد النظام؟ بادئ ذي بدء “حروب الأجهزة” -أي الصراع بين الإدارات والمكونات الذي يشتد في سياق الأزمة المتصاعدة. هناك عدد أقل فأقل من المشاريع متوسطة الحجم مما يجعل من الصعب على نحو متزايد استخدام الرشوة. وكل محاولات “الاستفراد بالامتياز” تنتهي الآن في السجن. وكل عام يتم فتح معسكرات إعادة إصلاح جديدة لأولئك المتورطين في الفساد، لكن رغم ذلك لا توجد أماكن كافية. من الصعب في مثل هذه الظروف إعداد خليفة لبوتين والقيام بنقل السلطة.
يمكن أن تنشأ الحاجة إلى خليفة نتيجة لعدة أسباب: قد لا تؤدي “حرب صغيرة” أخرى إلى النصر، أو قد يحدث انهيار للاقتصاد، أو قد تعتل صحة بوتين. لذا فإن السياسيين الروس لا يركزون على بوتين، بل على من سيكون خليفته المحتمل. هذه هي الساحة التي تتم فيها حرب المساومات وحيث يتم إنشاء التحالفات.
الطبقة العاملة
يتحرك الاقتصاد العالمي نحو أزمة أخرى، والتي سرعان ما ستؤدي إلى انخفاض أسعار النفط وأزمة في الاقتصاد الروسي. سوف يؤدي ارتفاع البطالة وتدني مستويات المعيشة إلى إخراج سكان المناطق الريفية الروسية إلى الشوارع، وبعد ذلك ستصل الحركة إلى المراكز الصناعية. وبسبب افتقاد النظام لأي قاعدة دعم من الأسفل، سيضطر إلى الاعتماد على القوة الغاشمة، أي على الحرس الوطني.
عندها سوف يجد كل ضابط وكل جندي أنفسهم مجبرين على الاختيار. عند تلك اللحظة، سيصير ما ذكرناه أعلاه، أي غياب العلاقة بين سلك الضباط وبين البرجوازية في روسيا، واضحا. إن الشرط المسبق لتحقق ذلك هو نهوض الحركة العمالية، التي تعتبر الأقرب من الناحية الاجتماعية والثقافية من الجنود الكادحين الذين سيكونون على استعداد للانضمام إلى إخوانهم الطبقيين في الكفاح من أجل ثورة اجتماعية.