سنة 1949، تمكن جيش التحرير الشعبي من الاستيلاء على السلطة، بالرغم من الدعم المالي والعسكري الهائل الذي كانت قوات تشانغ كاي تشيك تحصل عليه. وبعد فترة قصيرة من الزمن بدأ في تصفية الرأسمالية والملكية العقارية الكبيرة. لقد دعم الماركسيون الثورة من كل قلوبهم، لكنهم في نفس الوقت حذروا من أنه وبسبب عدم لعب الطبقة العاملة للدور القيادي في هذه الثورة، فإن ما سوف ينجم عنها لن يكون سوى دولة عمالية مشوهة بيروقراطيا.
سقوط بيبين
مع حلول سنة 1948، تغير مسار الأحداث. حيث تمكن جيش التحرير الشعبي، بعد حملة صعبة، من الاستيلاء على المدن الشمالية. وبعد ستة أشهر من الحصار القاسي لشانغشون، والذي تسبب في مقتل أكثر من 300,000 مدني جوعا، تمكنوا من فرض الاستسلام على قوات الكومينتانغ الجيدة التدريب. وقد فشلت كل مخططات تشانغ كاي تشيك القيام بهجوم مضاد. لم يتمكن جيش التحرير الشعبي فقط من استرجاع أغلب الأراضي التي كان قد فقدها في الشمال الشرقي للصين، بل تمكن أيضا من توسيع جبهة المعركة إلى مناطق نفوذ الكومينتانغ شمال يانغتز ونهر ويشيو. فاحتلوا شيهشياشوانغ، ويونشينغ، وسيبنسغكاي، ولويانغ، وييشوان، وباوكي، وويهسيين، ولينفين وكايفينغ.
وسنة 1949، تقدم جيش التحرير الشعبي جنوب نهر يانغتز، وصارت نهاية الحرب قريبة. بعض التروتسكيين المزيفين بقوا ينكرون الوقائع الواضحة للعيان. ففي أمريكا، سخر ماكس شاتمان من فكرة كانون الذي قال إن ماو سيستسلم لتشانغ كاي تشيك. قال: «نعم، إن ماو يريد الاستسلام لتشانغ، لكن لديه مشكلة، إنه لا يستطيع اللحاق به!»
مع حلول نهاية عام 1948، كان موقف الوطنيين قد صار ميئوسا منه. والآن وبعد أن صار ظهره إلى الحائط، بدأ تشانغ في اقتراح السلام. قبل ثلاث سنوات فقط كان شانغ يتفاخر بأنه سوف يبيد الشيوعيين. وكانت قواته تطبق بحماس سياسته: "انهب واحرق واقتل". أما الآن وبعد أن صارت الهزيمة محدقة به، بدأ يغني نشيد السلام. إنه تحول غريب جدا!
وقد كان الإمبرياليون الأمريكيون، المدعومين بكل من نظرائهم البريطانيين والفرنسيين، هم من يقف وراء دعوة تشانغ إلى "السلام"، بعد أن استوعبوا جميعا أن الحرب قد خسرت. وبعد أن فشلوا في سحق جيش التحرير الشعبي بالقوة، صاروا يأملون في أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه بواسطة المناورات السياسية. إلا أن تلك المناورات لم تخدع أحدا، وخاصة ماو تسي تونغ.
في معظم الحالات كانت البوادي والبلدات الصغيرة تحت نفوذ جيش التحرير الشعبي قبل فترة طويلة من سيطرته على المدن، الشيء الذي شكل جزءا من إستراتيجية الحرب الشعبية. وفي يناير 1949، سقطت بيبين في يدي جيش التحرير الشعبي دون قتال، فأعيد تغيير اسمها إلى بكين. بين شهري أبريل ونوفمبر، سقطت المزيد من المدن الكبرى الأخرى بدون مقاومة تذكر. يوم 21 ابريل، عبرت قوات ماو اليانغتزى واستولت على نانجينغ، عاصمة حزب الكومينتانغ. وفي غضون فترة قصيرة من الوقت، كان جيش التحرير الشعبي يدفع ما تبقى من قوات الكومينتانغ الغير المنظمة والمحبطة إلى الجنوب.
وفي النهاية، انسحب تشانغ كاي تشيك، وحوالي 2 مليون من الوطنيين، والذين أغلبهم كانوا من بيروقراطيي الحكومة السابقة ورجال الأعمال، وغادروا الصين إلى جزيرة تايوان (التي كانت تعرف آنذاك بفورموزا). وقد أعلن تشانغ مدينة تايبي عاصمة مؤقتة للصين، لكنه حرص قبل أن يفر على نهب الخزينة العامة، حيث سرق 300 مليون دولار لملئ جيوبه وجيوب أتباعه.
وتوج كل هذا يوم 1 أكتوبر، من عام 1949، مع إعلان ماو تسي تونغ عن قيام جمهورية الصين الشعبية. ليتم قلب صفحة جديدة في تاريخ العالم.
الجيش الأحمر والعمال
قبل الحرب، أشار تروتسكي إلى أن المسألة الحاسمة هي ما الذي سيحدث عندما يدخل الجيش الأحمر إلى البلدات والمدن. إن الدولة العمالية الحقيقية تعتمد على الطبقة العاملة وعلى أجهزة سلطتها أي: السوفيات. إن هذه الدولة ستشجع التنظيم الذاتي للعمال، واقامة نقابات عمالية حقيقية، ومستقلة عن الدولة.
لكن ثورة 1949 الصينية أنجزت من طرف قيادة بونابارتية من فوق، وبدل أن تعتمد تلك القيادة على الطبقة العاملة لإسقاط الدولة البرجوازية، عملت على تشكيل حكومة ائتلافية مكونة من مختلف مكونات حكومة الكومينتانغ السابقة. وعوض تشجيع الحركة المستقلة للجماهير، قامت تلك القيادة بقمع أي مظهر من مظاهر العمل المستقل من جانب العمال.
في البداية بدأ ماو ببرنامج لا يتجاوز أبدا حدود الرأسمالية. بل إنه في فترة معينة كان لديه الوهم في إمكانية الوصول إلى اتفاق مع الأمريكيين، مثلما يشير ستيوارت شاتمان:
«أغدقت افتتاحية صحيفة Liberation Daily، ليوم 4 يوليو 1944، المديح على التقاليد الديمقراطية الأميركية، وعملت على تشبيه نضال أمريكا من أجل الديمقراطية والاستقلال الوطني في القرن الثامن عشر، بكفاح الصين في القرن العشرين، قائلة:
«لقد عثرت الديمقراطية الأمريكية على رفيق لها، كما عثرت قضية صين يات صن على خلف لها في الحزب الشيوعي الصيني وسائر القوى الديمقراطية الأخرى... إن العمل الذي ننجزه اليوم، نحن الشيوعيون، هو نفس العمل الذي أنجزه، في الولايات المتحدة في الماضي، واشنطن، وجيفرسون، ولينكولن؛ وسوف يحصل هذا العمل بالتأكيد، بل لقد حصل بالفعل، على تعاطف أمريكا الديمقراطية.» (مقتبس من Stuart Schram, Mao Tse-Tung, pp.225-6).
ينبع هذا الحديث عن الديمقراطية البرجوازية من مفهوم ماو عن الثورة الصينية. لقد تذبذب ماو بين البرجوازية والعمال والفلاحين لكي يرسخ أسس الدولة الجديدة ويركز السلطات بين يديه. خلال المراحل الأولى بذل كل مجهوداته لمنع العمال من حسم السلطة وسحق كل مؤشرات استقلالية الحركة العمالية. وكما كان الحال عليه في اسبانيا، لم يشكل ماو ائتلافا مع البرجوازية، بل مع شبح البرجوازية فقط. لكن بينما سمح في إسبانيا للشبح بأن يتجسد، فإنه في الصين لم يسمح له بذلك. وعندما دخل الجيش الأحمر المدن، أمر العمال بألا ينظموا الإضرابات أو يتظاهروا. وقد شكلت النقاط الثمانية التالية أساس دعايته:
«1) ستتم حماية أرواح الناس وملكيتهم. حافظوا على النظام ولا تنصتوا إلى الإشاعات. النهب والقتل أعمال ممنوعة بشكل مطلق.
«2) الملكية الخاصة التجارية والصناعية الصينية ستتم حمايتها. لن يتم المس بالمصانع الخاصة والأبناك والمستودعات، الخ، وبإمكانها الاستمرار في العمل.
«3) سيستولي جيش التحرير على الرأسمال البيروقراطي، بما في ذلك المصانع، والمحلات التجارية، والأبناك، والمستودعات، والسكك الحديدية، ومكاتب البريد، وتجهيزات الهاتف والتلغراف، وشركات إنتاج الكهرباء، الخ، على الرغم من أن أسهم القطاع الخاص فيها سيتم احترامها. على هؤلاء الذين يعملون في هذه المؤسسات أن يعملوا في سلام وينتظروا عملية المصادرة. سيتم إعطاء جوائز لهؤلاء الذين سيحمون الممتلكات والوثائق؛ أما هؤلاء الذين ينظمون الإضراب أو يخربون فسيعاقبون. وسيتم توظيف هؤلاء الذين يريدون الاستمرار في الخدمة.
«4) ستتم حماية المدارس والمستشفيات والمؤسسات العمومية. على الطلاب والمعلمين وجميع العمال أن يحموا سجلاتهم. سيتم تشغيل جميع من يستطيعون العمل.
«5) باستثناء بعض مجرمي الحرب والرجعيين السيئي السمعة، فإن جميع مسئولي الكومينتانغ والبوليس وقوات الباو شيا[1] في المقاطعات والبلدات، والحكومات المحلية (Hsien)، سيتم العفو عنهم، إذا لم يقوموا بالمقاومة المسلحة. ينبغي عليهم أن يحموا سجلاتهم. سيتم تشغيل جميع من يستطيعون العمل.
«6) بمجرد ما يتم تحرير مدينة ما، يجب على الجنود الفارين أن يسلموا أنفسهم فورا لقيادة الحامية العسكرية الجديدة، أو مكاتب الشرطة، أو السلطات العسكرية. لن تتم متابعة كل من يسلم سلاحه. أما هؤلاء الذين يختبئون فسيعاقبون.
«7) ستتم حماية أرواح وممتلكات كل الأجانب. ويجب عليهم أن يحترموا قوانين جيش التحرير والحكومة الديمقراطية. لن يتم التساهل مع أية أنشطة تجسسية أو غير شرعية. يجب ألا تتم حماية أي مجرم حرب. وستتم متابعتهم أمام المحاكم العسكرية أو المدنية بسبب الانتهاكات.
«8) يجب على الشعب عموما أن يحمي جميع الممتلكات العامة ويحافظ على النظام.» (A. Doak Barnett, China on the Eve of Communist takeover, pp. 327-8)
وسيرا على نهج ستالينيي روسيا، قام الستالينيون الصينيون بتحويل النقابات إلى "مدارس للإنتاج، تشجع الإنتاجية والطبيعة الإيجابية عند البروليتاريا". منعوا حق الإضراب وفرضوا نظام التحكيم الإجباري. وتمت إدانة كل الإضرابات، والنضالات الأخرى من أجل الدفاع عن مصالح العمال، باعتبارها: "مغامراتية يسراوية".
في البداية، لم يعمل الستالينيون الصينيون على المس بالشركات الرأسمالية الخاصة. ولم يتم تأميم سوى ملكية "الرأسمال البيروقراطي". لكن في هذه الشركات كانت السلطة ممركزة في يد لجنة الرقابة، حيث مدير المصنع بمثابة رئيس، وتتشكل من ممثلين عن المالكين السابقين، وممثلين عن المراقبين وممثلين عن العمال. لم يكن للعمال سوى رأي استشاري، بينما كان المدير هو صاحب الكلمة العليا في جميع القرارات.
في البداية كان منظور ماو يتأسس على أنه على الصين المرور من خمسين سنة أو مائة سنة من الرأسمالية. لقد أكد على أنه لن يصادر سوى "الرأسمال البيروقراطي". لكن بعد حسمه للسلطة، سرعان ما تبين له أن البرجوازية الصينية، المتعفنة والفاسدة، عاجزة عن لعب أي دور تقدمي. وهكذا، عمل على الاستناد إلى الطبقة العاملة وشرع في تأميم الأبناك والصناعات الكبرى ومصادرة ممتلكات كبار الملاكين العقاريين والرأسماليين. لم يكن هذا صعبا جدا. إذ كما سبق لتروتسكي أن أشار، لكي تقتل نمرا تحتاج إلى رصاصة، لكنك لا تحتاج إلا إلى ضغطة أصبع لكي تقتل ذبابة.
شبح البرجوازية
كانت فكرة ماو الأصلية هي تشكيل حكومة ائتلافية بمشاركة ممثلين عن العمال والفلاحين والمثقفين والبرجوازية الوطنية، بل وحتى الإقطاعيين التقدميين. إلا أنه بالرغم من ذلك، واجه مشكلة صغيرة. فالبرجوازية فرت إلى فورموزا (تايوان) مع تشانغ كاي تشيك. من الناحية الرسمية كانت تلك حكومة جبهة شعبية. لكن كان هناك اختلاف جوهري بين هذه الحكومة وحكومة الجبهة الشعبية في إسبانيا سنة 1936.
كانت القوة المسلحة الوحيدة في الصين هي جيش التحرير الشعبي، أي جيش الفلاحين بقيادة الستالينيين الصينيين. سبق للينين أن شرح أن الدولة هي، في آخر التحليل، فرق من الرجال المسلحين. وسنة 1949 أعلن الحزب الشيوعي الصيني أن عدد أعضائه يصل إلى 4,5 مليون شخص، 90 % منهم فلاحون. كان ماو رئيس الحزب وكان يسيطر فعلا على الأمور بين يديه، بالرغم من أن الحكومة كانت من الناحية الرسمية برئاسة يده اليمنى شو إن لاي. لقد كانت قوات الجيش والشرطة والبوليس السري كلها تحت أيديهم. إن هذه فقط طريقة أخرى لكي نقول: إنهم يسيطرون على سلطة الدولة. كانت هذه هي قاعدة سلطتهم الحقيقية، وكانت هي العنصر الحاسم في المعادلة.
من الناحية النظرية، كانت حكومة الجمهورية الشعبية ائتلافا بين أحزاب مختلفة، لكن، باستثناء الحزب الشيوعي الصيني، لم يكن جميع الآخرين سوى عصب صغيرة، بعضها لم يكن يوجد سوى على الورق فقط. يوم فاتح ماي، أصدر الحزب الشيوعي الصيني نداءا من أجل جبهة موحدة واسعة ضد الوطنيين:
«أيها الشعب الكادح في جميع ربوع البلد، اتحد، تحالف مع المثقفين والبرجوازية اللبرالية وجميع الأحزاب والمجموعات الديمقراطية، والمتنورين وغيرهم من العناصر الوطنية؛ رسخ ووسع الجبهة المتحدة ضد الإمبرياليين والإقطاعيين والبيروقراطيين وقوى الرأسماليين البيروقراطيين؛ ناضلوا جميعا من أجل تدمير رجعيي الكومينتانغ وبناء صين جديدة. على جميع الأحزاب والمجموعات الديمقراطية والمنظمات الشعبية والمتنورين، الإسراع بتشكيل مؤتمر استشاري سياسي، للنقاش والدعوة إلى تشكيل جمعية ممثلي الشعب لإقامة حكومة ائتلافية ديمقراطية!»
ماذا كان الرد؟ قبلت مجموعة صغيرة من اللاجئين السياسيين الصينيين، الذين كانوا في المنفى الاختياري بجزيرة هونغ كونغ، بالدعوة. وبغرور أعلنوا في البرقية التي أرسلوها إلى ماو تسي تونغ، يوم 05 ماي: «نحن هنا نعرب عن استجابتنا ودعمنا لدعوتكم، ونتمنى أن نتمكن بتحقيقها تحقيق نهضتنا الوطنية.»
كانت البرقية موقعة من طرف قادة لجنة الكومينتانغ الثورية، والرابطة الديمقراطية، وحزب الفلاحين والعمال الديمقراطي، وجمعية الإنقاذ الوطني، وجمعية التقدم الديمقراطي الصيني، وجمعية رفاق صان مين شو إي، وجمعية الكومينتانغ للتقدم الديمقراطي، وشيه كونغ تانغ.
وقد علق دوك بارنيت على ذلك قائلا: «عدد هائل من هؤلاء الناس كانوا في السابق أعضاء محترمين داخل الكوميتانغ، والعديد منهم كانوا يحتلون مواقع سامية في ظله، لكنهم الآن انشقوا عنه جميعا لأسباب شخصية أو أيديولوجية» (A. Doak Barnett, China on the Eve of Communist takeover, pp.85-6)
وهكذا، نظم الحزب الشيوعي الصيني القوي ائتلافا، ليس مع البرجوازية الصينية، بل فقط مع شبحها. لم تكن تلك "الأحزاب" سوى مجموعات هامشية في هونغ كونغ. وقد تم إخراج أسمائهم من غياهب الظلمة إلى النور بفضل الهدية الكريمة من جانب الستالينيين. وقد أدى هذا الاجراء الى خلق تكهنات محمومة. بل كانت هناك شائعة مفادها أن قائدي الكومينتانغ الكبيرين، لى تشى شين وفنغ يو هسيانغ (قبل وفاته)، سيصبحان، على التوالي، قائدين سياسيين وعسكريين، إلى جانب القادة الشيوعيين ماو تسي تونغ وشو تيه!
طبعا لم يكن لهذه الإشاعات العجيبة أي أساس من الصحة في الواقع، فماو قد استولى على السلطة، "من خلال فوهة البندقية"، إذا ما استعملنا عبارته الشهيرة، ولم يكن يفكر في إعطاء سلطة حقيقية للبرجوازية الصينية، فبالأحرى إلى أشخاص لا يمثلون سوى أنفسهم.
«في الوقت الراهن، يعمل ممثلون عن هذه الجماعات المتواجدة بهونغ كونغ، المجتمعة مع الشيوعيين في هاربين (Harbin)، على المساعدة في تنظيم المؤتمر الاستشارى السياسى، الذي سيقام برعاية الشيوعيين، والذي من المقرر أن ينعقد في بداية السنة القادمة، على الارجح في بيبين، إذا ما سمح الوضع العسكري بذلك، "للتحضير لجمعية تمثيلية شعبية من أجل تشكيل حكومة ائتلاف ديمقراطي"- كما قال لي لي تشى شين مؤخرا-. من ابرز هؤلاء الممثلين كان هناك الجنرال تساي تينغ كاي (من الكومينتانغ)، ----وشين تشون جو، وتشانغ بو شون (على التوالي زعيمي جمعية الإنقاذ الوطني وحزب الفلاحين والعمال الديمقراطي، لكن كلاهما يمثلان الرابطة الديمقراطية فى هاربين). إضافة إلى عدة أنواع من الـ"مستنيرين" المؤيدين للشيوعيين، بمن فيهم السيدة فنغ يو هسيانغ، كلهم اجتمعوا في مدينة هاربين حيث تنظم هذه الاجتماعات، وهناك المزيد من الممثلين عن المجموعات الأخرى الموجودة في هونج كونج هي الآن في طريقها إلى هاربين، ربما عن طريق البحر عبر شمال كوريا.» (A. Doak Barnett, China on the Eve of Communist takeover, pp.83-4)
وقد وصف الصحفي الأمريكي، دوك بارنيت، الذي كان متواجدا في الصين آنذاك، الوضع بشكل جيد، قائلا:
«قبل أن نعمل على وصف كل تلك المجموعات التي تشتغل في الوقت الحالي في هونغ كونغ، يمكننا تقديم بعض الإشارات العامة بخصوصها، لأنها تمتلك الكثير من أوجه التشابه. أولا، لا أحد منها يشكل في الواقع حزبا سياسيا في الوقت الحاضر، بالرغم من أن بعضها يتمنى أن يصير كذلك. إنها في الواقع مجرد مجموعات سياسية صغيرة، كل واحدة منها مشكلة من بضعة مئات إلى بضعة آلاف من الأعضاء. ثم ليس من بينها ولا منظمة واحدة تمتلك أتباعا كثيرين أومنظمة سياسية قوية. كما أنها لا تمتلك جيشا، وهو ما يشكل الشرط المسبق للقوة السياسية في الصين طيلة العقود الأخيرة. باختصار، ولا واحدة من بينها تمتلك المؤهلات الضرورية لكي تلعب دورا مستقلا في خضم الحياة السياسية الصعبة والمضطربة الصينية المعاصرة. إنها لا تستطيع تحقيق أية نتائج فيما يتعلق بصراع القوى.
«جميع تلك المجموعات المتواجدة في هونغ كونغ تطلق على نفسها اسم ‘لبرالية’، وغالبا ما يطلق عليها ببساطة اسم ’المجموعات الديمقراطية الصينية‘. توجد من بينها، بدون شك، من يمكن أن تدعي بحق كونها لبرالية (بالرغم من أنه من الصعب تحديد المعنى الدقيق للكلمة)، لكن الآخرين ليسو سوى سياسيين انتهازيين. وفيما يتعلق ببعض قادتها السياسيين، من الصعب اكتشاف نقاط اختلاف جوهرية تميزهم عن زعماء الحكومة المركزية، باستثناء أنهم يوجدون الآن على الجانب الآخر من متراس الحرب الأهلية.» (A. Doak Barnett, China on the Eve of Communist takeover, p.85، التشديد من عندي: آ. و)
الدولة الجديدة
أقام ماو أسس دولة جديدة، ليس بالاستناد مباشرة على الطبقة العاملة، بل من خلال التذبذب بين الطبقات، وبواسطة هذه الدولة قام بمصادرة أملاك الملاكين العقاريين الكبار والرأسماليين. وبالرغم من الطريقة المشوهة التي تم بها ذلك، فإن إقامة اقتصاد مؤمم ومخطط شكل إجراءا تقدميا وخطوة هائلة إلى الأمام بالنسبة للصين. إلا أنها لم تكن ثورة بروليتارية بالمعنى الذي حدده ماركس ولينين. لقد عمل الستالينيون الصينيون، باسم البروليتاريا، على إنجاز المهام الاقتصادية الأساسية للثورة الاشتراكية، إلا أن العمال الصينين لم يلعبوا دورا نشيطا خلال الحرب الأهلية، ولم يلعبوا دورا مستقلا في السيرورة بأسرها.
نتيجة لذلك، أنجزت الثورة بطريقة بونابرتية، من فوق، بدون مشاركة العمال ورقابتهم الديمقراطية. أقامت البيروقراطية نظاما ديكتاتوريا كليانيا أحادي الحزب، على شاكلة روسيا الستالينية. وقد كانت هذه النتيجة متوقعة بشكل كامل بالنظر إلى الطريقة التي أنجزت بها الثورة، وبالنظر إلى وجود نظام ستاليني قوي على حدود الصين.
استخدم ماو جيش الفلاحين قوة ضاربة لإسقاط الدولة القديمة. لكن طبقة الفلاحين هي الطبقة الأقل قدرة على امتلاك وعي اشتراكي. يمكن للفلاحين، في البلدان المتخلفة المستعمرة والشبه مستعمرة، أن يلعبوا بطبيعة الحال، دورا هاما جدا، لكنه لا يمكن أن يكون سوى دور مساعد، ورهين بالحركة الثورية للعمال في المدن.
يجب علينا أن نتذكر أنه إلى حدود الثورة الروسية، حتى لينين نفسه كان ينفي إمكانية "انتصار الثورة الاشتراكية في بلد متخلف". وحده تروتسكي من طرح مسبقا منظور قدرة الطبقة العاملة الروسية على الوصول إلى السلطة قبل بروليتاريا أوروبا الغربية. وقد كان هذا ما حصل بالضبط سنة 1917. حيث قاد الحزب البلشفي، تحت قيادة لينين وتروتسكي، العمال إلى حسم السلطة في روسيا، التي كانت، مثلها مثل الصين سنة 1949، بلدا جد متخلف وشبه إقطاعي. قامت الطبقة العاملة، التي كانت أقلية صغيرة في المجتمع، (فالأغلبية كانت للفلاحين)، بوضع نفسها على رأس المجتمع وأنجزت ثورة اشتراكية كلاسيكية في أكتوبر 1917.
قامت البروليتاريا، في ظل قيادة لينين وتروتسكي، بإنجاز فوري لمهام الثورة البرجوازية الديمقراطية، ثم عملت على مصادرة ملكيات الرأسماليين وأقامت نظام الديمقراطية العمالية. كان من الممكن للثورة الصينية أن تتطور في نفس المسار الذي سارت عليه ثورة أكتوبر في روسيا. لكن ما كان ينقص هو العامل الذاتي، أي: حزب لينين وتروتسكي البلشفي.
شكل النظام الذي أقيم في الصين انحرافا عن القاعدة الكلاسيكية، لكن في واقع الحياة، لا تسير الأحداث دائما بشكل مطابق للمعايير المثالية. فجميع أنواع التشوهات والمتغيرات الخاصة ممكنة. وقد كان تيد غرانت المنظر الماركسي الوحيد الذي شرح دور النظام البونابارتي البروليتاري بوصفه تنويعة خاصة لنظرية الثورة الدائمة لتروتسكي. عندما كان ماو ما يزال يدافع عن منظور مرحلة طويلة من الرأسمالية، شرح تيد حتمية انتصار ماو وإقامة دولة عمالية مشوهة. كما أنه توقع مسبقا أن البيروقراطية الصينية سوف تدخل في صراع مع موسكو. (انظر: Reply to David James، ربيع 1949)
خطوة عظيمة إلى الأمام
لقد شكلت الثورة الصينية خطوة عظيمة إلى الأمام. لو أنها لم تنتصر، لكان البلد قد تحول بالتأكيد إلى شبه مستعمرة للإمبريالية الأمريكية في ظل دكتاتورية تشانغ كاي تشيك. لكن بدل ذلك، تمكن الشعب الصيني، سنة 1949، من أن يحقق، للمرة الأولى في تاريخه، تحرره الكامل من نير الهيمنة الأجنبية. لقد كانت الثورة ضربة هائلة للإمبريالية على الصعيد العالمي. لقد أعطت دفعة هائلة لتمرد الشعوب المستعمرة المستعبدة. وقد شكل هذا، في حد ذاته، سببا كافيا للترحيب بها ودعمها.
لكن هذا لم يكن كل شيء. فالثورة انتهت بإسقاط الملكية العقارية الكبرى والرأسمالية. إن القضاء على الملكية العقارية الكبرى حرر الصين من عبئ العلاقات الشبه الإقطاعية، كما أن القضاء على الملكية الخاصة للصناعات وتطبيق احتكار الدولة للتجارة الخارجية أعطيا دفعة جبارة لتطور الصناعة الصينية. إلا أن تأميم وسائل الإنتاج ليس بعد اشتراكية، بالرغم من أنه الشرط المسبق لها.
إن السير نحو الاشتراكية يفترض الرقابة والتسيير والمشاركة الديمقراطية للبروليتاريا. إن حكم أقلية محظوظة منفلتة من أية رقابة يتناقض تماما مع الاشتراكية الحقيقية. حيث سيؤدي ذلك إلى خلق كل أنواع التناقضات الجديدة. الرقابة البيروقراطية تعني الفساد والمحسوبية والتبذير وسوء الإدارة والفوضى، الشيء الذي يقوض في النهاية مكتسبات الاقتصاد المؤمم والمخطط. ولدينا في التجربة الروسية والصينية دليل على هذا.
إن السبب الحقيقي وراء التنويعات الخاصة والتشوهات التي حدثت للثورات في البلدان المستعمرة سابقا، طيلة مرحلة كاملة، كان هو تأخر الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية المتقدمة. إلا أن هذا الوضع قد بدأ يتغير بسرعة. جميع الظروف الموضوعية للثورة الاشتراكية صارت تنضج الآن على الصعيد العالمي. لكن ضعف القوى الماركسية الحقيقية يعني أن هذا السيرورة ستأخذ مدة طويلة.
لولا ثورة 1949، لما كانت الصين قادرة على تحقيق التقدم الهائل الذي حققته. يمكن لعمال العالم أن يشيروا إلى التقدم العظيم الذي حققته الصين بعد الثورة باعتباره دليلا على إمكانيات الاقتصاد المؤمم والمخطط. لقد صار من الشائع في أيامنا هاته شجب التأميم والاقتصاد المخطط، لكن المزاعم بخصوص تفوق ”اقتصاديات السوق“ قد انفضحت باعتبارها مجرد أكاذيب على ضوء الأزمة الاقتصادية الحالية، التي تعتبر أعمق أزمة يعرفها العالم الرأسمالي منذ 1929.
لقد شكلت منجزات الاقتصاد المؤمم والمخطط القاعدة التي قامت على أساسها الصين باعتبارها بلدا مصنعا جبارا. يكفينا أن نقارن الصين مع الهند لكي نرى الفرق. كلا البلدين انطلقا من مستوى متشابه خلال أواخر الأربعينات، لكن الصين تطورت بمعدل أسرع.
لكن، وبعد ستين سنة على إسقاط الرأسمالية والملكية العقارية الكبرى في الصين، ها هي الفئة الحاكمة في الصين قد أخذت طريقها لإعادة الرأسمالية (انظر: road back to capitalism). لقد كانت هذه الإمكانية متظمنة في ثنايا الوضع الذي رفعت فيه البيروقراطية نفسها فوق المجتمع. وقد بدأت بتطبيق الأساليب الرأسمالية كإجراءات لتشجيع النمو الاقتصادي في ظل النظام المخطط، لتصل إلى تبني تلك الأساليب. لكن، وبالرغم من النمو الاقتصادي، فإن تطبيق ”اقتصاد السوق“ في الصين لا يخدم مصالح العمال والفلاحين الصينيين. إنه يخلق تناقضات جديدة ورهيبة، لا سواء في المدن أو في القرى، الشيء الذي سوف يؤدي، عند نقطة معينة، إلى اندلاع نهوض ثوري جديد.
سوف يتمكن العمال والفلاحون والطلاب والمثقفون الصينيون، من خلال التجربة، إلى إعادة اكتشاف تقاليد الماضي الثورية العظيمة. وسوف يعانق الجيل الجديد أفكار ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي وشين دوكسيو، مؤسس الحزب الشيوعي الصيني وزعيمه الحقيقي. سبق لنابليون أن قال مرة عن الصين: "عندما سيستيقظ العملاق، سيهتز العالم". ونحن بدورنا سنردد هذه المقولة، مع إجراء تعديل عليها: إن العملاق الذي سيهز العالم ليس سوى البروليتاريا الصينية الجبارة. إننا نتطلع بفارغ الصبر إلى اليوم الذي ستستيقظ فيه.
لندن 01-02 أكتوبر2009
[1]: Pao-Chia ميليشيات من المرتزقة الرجعيين- المترجم