تتوارد الأحداث من تونس بسرعة هائلة، يوم أمس ألقى الدكتاتور العجوز آخر خطاباته، حيث قدم العديد من الوعود، وألقى مجموعة من التهديدات المبطنة. بعد ذلك توالت التقارير التي أكدت أن الجماهير لم تولي أية ثقة لتلك الوعود وواصلت الاحتجاجات بشكل أكثر كفاحية، في هذا الصباح أكدت تقارير لرويترز حدوث إطلاق للنار قرب مقر وزارة الداخلية التونسية. وإطلاق القنابل المسلة للدموع على المتظاهرين في تونس العاصمة.وبالرغم من ادعاء الدكتاتور أمس أنه سيوقف إطلاق النار ضد المتظاهرين فإن التقتيل لم يتوقف طيلة الليل وصباح اليوم مما تسبب في سقوط ثلاثة عشر شهيدا الليلة الماضية في تونس وضواحيها، كما أكدت الجزيرة نقلا عن مصدر طبي.
لكن كل تلك الوعود وكل ذلك القمع لم يؤد إلى إخماد الثورة الشعبية. فلجأ الدكتاتور إلى لعب آخر أوراقه حيث أعلن عن إقالة الحكومة ودعا إلى انتخابات مبكرة (بعد ستة أشهر). إلا أن الجماهير واصلت نضالها مما أدى إلى حدوث انقلاب عسكري حيث انتشرت قوات الجيش في كل مكان وأعلنت حالة طوارئ في كل أنحاء تونس ويسيطر على المطار ويغلق المجال الجوي التونسي، بعد أن سهل عملية فرار الدكتاتور وبعض أفراد أسرته من الانتقام الشعبي.
هنا قام محمد الغنوشي بنصب نفسه رئيسا لتونس وأعلن اجتماعه مع ممثلي الأحزاب السياسية لتشكيل حكومة جديدة. البيروقراطيات النقابية وقيادات الأحزاب الإصلاحية مرعوبة أكثر من رعب أسيادها البرجوازيين، وبدل أن يعملوا على نهج سياسة طبقية مستقلة بشعارات سياسية مستقلة وبراية مستقلة، ها هم يركبون قطار البرجوازية ويغنون بصوت واحد نشيد "الحكومة الوطنية"، حكومة البرجوازية والقتلة.
وما تزال قوات البوليس السري والميلشيات الفاشستية تعيث فسادا في البلد، حيث تهاجم الجماهير وتنهب منازل العمال، لتؤكد أن البديل عن الدكتاتورية هو الفوضى. لكن هذه المحاولات اليائسة لم ترهب الجماهير بل كانت ضرورية لها لكي تسارع إلى تشكيل لجان شعبية للدفاع عن الأحياء، وقد أكد الأمين العام للاتحاد العام لطلبة تونس لقناة الجزيرة شاكر العواضي أن هناك لجان شعبية تشكل في كل الأحياء. ألم يقل ماركس أن الثورة تحتاج إلى سوط الثورة المضادة لكي تسير إلى الأمام!
أما الدكتاتور بن علي فإنه وبمجرد سقوطه تخلت القوى الإمبريالية عنه كحيوان أجرب وتركته يسقط. الولايات المتحدة أعلنت أنه "للشعب التونسي الحق في اختيار زعمائه"!! بل لقد أعلن أوباما "إشادته لشجاعة وكرامة الشعب التونسي"، بينما رفضت فرنسا استقبال طائرته!! وقد قامت قوات البوليس التونسي باعتقال بعض الأفراد من أسرة الطرابلسي قبيل مغادرتهم مطار تونس!!
لا بد أن هذه السرعة في توالي الأحداث تصيب رؤوس البعض بالدوار، وهذا طبيعي لأنه خلال مرحلة الثورات الأحداث التي لم تقع طيلة عقود وعقود من الزمن تتكثف في لحظات قصيرة جدا. كما أن المنظرين البرجوازيين جميعهم أثبتوا أنهم أعجز من أن يتوقعوا أي شي على الإطلاق سواء في السياسة أو الاقتصاد، حيث لم يمض وقت طويل منذ أن كانوا يزعمون أن تونس هي البلد الأكثر استقرارا وهدوءا في شمال إفريقيا.
وحدهم الماركسيون من تمكنوا من توقع هذه الأحداث قبل وقت طويل عن حدوثها، ووحدهم من تمكنوا من فهمها وتحديد آفاق تطورها، لقد توقعنا في مقالنا "الربيع التونسي" أن:
«هذه الحركة قد دقت، من وجهة نظرنا، ساعة نهاية مرحلة كانت تتميز بهدوء ظاهري شهد تراكم عوامل الانفجار، وبداية مرحلة أخرى من التحركات الجماهيرية التي ستنتهي، عاجلا أو آجلا، إلى القضاء على نظام الطغيان والاستغلال في تونس إلى الأبد».
وهذا ليس طبعا لأننا نمتلك كرة بلورية، بل لأننا نمتلك نظرية علمية، بوصلة أثبتت الأحداث منذ أكثر من 150 سنة صلاحيتها لتفسير الواقع وتقديم البديل لتغييره.
الاصلاحيون، كما هي العادة، في خدمة النظام
بمجرد ما سقط الدكتاتور العجوز بن علي قام الإصلاحيون بنفس العهر المعهود فيهم بالانبطاح للسادة الجدد، بنفس الطريقة التي كانوا ينبطحون بها للسادة القدامى. وسارعوا لعرض خدماتهم على الطبقة السائدة من أجل مساعدتها في إنقاذ نظامها مقابل بعض الفتات من كعكة السلطة والامتيازات. ولعل حركة الاشتراكيين الديمقراطيين أكثر تلك الأحزاب الإصلاحية عهرا ونتانة. إذ لم يمر وقت بعيد منذ أن كان الحزب يحيي "احتفال الشعب التونسي في كنف النخوة والاعتزاز بالذكرى الثالثة والعشرون لتحول السابع من نوفمبر الذي قاده الرئيس زين العابدين بن علي"!! ويصرح على موقعه الالكتروني أنه بهذه:
«المناسبة الوطنية تنشر "المستقبل الالكتروني" ملفات خاصة تبرز قيمة الأشواط الكبيرة التي حققتها بلادنا بفضل التوجهات الإستراتيجية للقيادة وذلك على جميع أصعدة التنمية مما جعل تونس تقتحم كوكبة الدول الصاعدة بكل اقتدار وتفتح أمامها الآفاق المستقبلية في ظل القيادة الحكيمة للرئيس زين العابدين بن علي واسعة ملؤها التفاؤل»!!!
كما لم يمر وقت طويل منذ أن كانوا يحثون "أهالي الشبان دعوة الجميع للهدوء والحوار" ويعتبرون أن خطاب الرئيس بن علي، الذي جرم فيه الاحتجاجات ووصف فيه الجماهير بالإرهابيين ودعا صراحة إلى تقتيلهم الخ، قد:
«حسم... الموقف النابض بالإحساس والشعور بالعطف والمسؤولية والتأثر لأعلى هرم السلطة المنشغل بقضايا مواطنيه وشباب بلاده وبمسائل التشغيل والملفات الاجتماعية الشائكة وهو المدرك لحقائق الأمور ومجرياتها»
وأضافوا أن:
«رئيس الدولة تكلم لغة الصدق والواقع والحقيقة وشكل خطابه منعرج في ثنايا هذه الأحداث ليسحب البساط من تحت أرجل المهرولين للتهريج والفوضى وينزع عنهم غطاء "التضامن المغشوش" ويكشف حقيقة نواياهم المتربصة بالبلاد وسعيهم لارتمائها في أتون أزمة مفتعلة من خيالهم... لكن لن يمر سيناريو التدجيل...لأن للدولة قوانين مؤسسات تحميها في كنف مسارها الديمقراطي التعددي وسياستها الاجتماعية التنموية التي يحرص رئيس الدولة على إعطاءها دفعا جديدا لفائدة الجهات ذات الأولوية».
ودعوا الجماهير إلى ضرورة:
«فهم المقاربة التنموية للرئيس بن علي من جهة أخرى الذي يؤكد باستمرار على ضرورة مناعة البلاد وعدم ارتهانها للخارج وإعاقتها بمديونية مرتفعة...»
ها هم الآن يدعون في بيان المجلس الوطني الطارئ الاستثنائي الذي اجتمع يوم الجمعة 13 يناير انحنائهم:
«بكل إكبار أمام أرواح الضحايا الأبرياء... وقراره تتبع كل من تورط في أعمال الفساد والرشوة ونهب مال المجموعة الوطنية.»
وطالبوا بتكوين:
«حكومة ائتلاف وطني تعمل على تهيئة المناخ المناسب وملائمة النصوص القانونية مع المعايير الدولية بإجراء انتخابات تشريعية مبكرة قبل نهاية السنة الجارية».
ونحن إذ نسوق هذه المقتطفات الطويلة نريد أن نوثق للتاريخ مواقف هؤلاء المجرمين الذين يحاولون الآن سرقة الثورة من أبنائها وتحويلها إلى وسيلة لاكتساب مواقع في السلطة والامتيازات.
نفس الشيء نجده عند حزب حركة التجديد الذي لم يعرف عنه أية معارضة جدية للنظام الدكتاتوري، لكنه بمجرد ما رأى الدكتاتور يفر من البلد أصدر بيانا، يوم الجمعة 14 يناير 2011 يطالب فيه بحقه في السلطة والمشاركة في فتات الكعكة، حيث وبالرغم من أن رئيس الوزراء محمد الغنوشي شخص من رجالات العهد القديم وبالرغم من التظاهرات الجماهيرية الحاشدة المطالبة برحيله، فإن حزب حركة التجديد يضفي عليه الشرعية ويطالبه بـ:
«التشاور مع أطراف المعارضة الجدية والاتحاد العام التونسي للشغل ومكونات المجتمع المدني المستقلة قصد التوافق على تشكيل هيئة عليا لها كامل الصلاحيات لإدارة عملية الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي».
وكان "الحزب الديمقراطي التقدمي" في وقت سابق قد فتح ما أسماه "نافذة لبداية حل سياسي" من خلال "مجموعة أفكار تشكل خريطة طريق للخروج من الأزمة" ودعا إلى حكومة إنقاذ وطني يمكن أن تواكب خطة الحكم لإيجاد 300 ألف وظيفة للعاطلين عن العمل مع إقامة حوار مع مختلف فئات الشعب ولاسيما الشباب.
«وقالت الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي مية الجريبي في بيان إن تونس بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إصلاح شامل وتشكيل حكومة وحدة وطنية، مشيرة إلى أن الحكومة الجديدة ستكافح الفساد وضمان الاستقلال القضائي وتمهيد الطريق لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة تشرف عليها هيئة انتخابية مستقلة. كما دعت لإجراء تعديل دستوري لضمان الانتقال السلمي للسلطة، وإعادة فرض الأمن في البلاد لتجنب الفوضى».
هؤلاء أعدائكم أيها العمال/ العاملات فكلهم يريدون قسطهم من الغنيمة، هؤلاء أعدائكم أيها العمال/ العاملات، جميعهم يريدون إخماد الثورة والانزواء وراء الأبواب الموصدة لتقاسم السلطة والامتيازات.
إن إفلاس الإصلاحية واضح بكل المقاييس، ليس فقط لأنهم تعودوا الركوع حتى نسوا كيفية رفع الهامة، فكلما كان هناك دكتاتور إلا ووضعوا أنفسهم في خدمته، إضافة إلى كونهم دائما في خدمة النظام الرأسمالي، بل أيضا لأنهم قضوا عقودا يبشرون بمحاسن السلم الاجتماعي والمفاوضات، وينددون بالنضال الثوري الذي تخوضه الجماهير، لكنهم لم يحققوا أي شيء جدي على الإطلاق، فلا هم حققوا الديمقراطية ولا الخبز ولا أي شيء. بينما كانت شهر واحد من التحركات الجماهيرية الثورية كافيا لإسقاط الدكتاتور، وتحقيق المكاسب ليس فقط في تونس بل خارج الحدود أيضا!والآن وبعد أن فر الدكتاتور ها هم يرتمون على المكاسب لكي يأخذوها لأنفسهم ويمنحوا النظام القائم وجلاديه فرصة جديدة.
يا أيتها الطبقة العاملة التونسية، يا أيها الثوار والثائرات، علينا ألا نترك أعدائنا يسرقون منا ثورتنا، علينا ألا ندعهم يحولونها إلى رصيد في أبناكهم. لقد قدمنا عشرات الشهداء وكل التضحيات، لذا علينا أن نواصل الثورة حتى القضاء على نظام الاستغلال والقتلة، ولكي يصير الوطن وخيراته للجميع!
لا ثقة في عملاء النظام البائد، لا ثقة في دولته ولا محاكمه ولا قانونه! لقد كانت وما تزال جهاز لقمعنا وتقتيلنا واعتقال حريتنا، لا يمكنها أبدا أن تصير في خدمتنا. علينا أن نؤسس دولتنا الخاصة ومحاكمنا وقانوننا، علينا أن نعمل على انتخاب ممثلين عنا إلى مجالس عمالية وشعبية ديمقراطية، في الأحياء الفقيرة والمصانع والنقابات والجامعات والقرى، من بين الطلائع المكافحة التي برزت خلال مجرى الثورة.
دور الجيش
كما سبق لنا أن توقعنا في مقال سابق، قام الجيش بتنظيم انقلاب لإنقاذ النظام من السقوط. والبلد الآن توجد تحت سيطرة مطلقة للجزمة العسكرية. كانت هذه نتيجة موضوعية لنقص الوعي والتنظيم بين صفوف الطبقة العاملة. إن الجيش مؤسسة حاسمة في مصير كل الثورات، وله دور حاسم في الثورة الحالية أيضا، مما يجعل نقاش الموقف منها الآن موضوعا ذا أهمية فائقة لتحديد منظورات الثورة والموقف الذي علينا نحن العمال اتخاذه.
عندما أمر الدكتاتور السابق جيشه بالتدخل لسحق الشعب، رفضت قيادة الجيش ذلك، وهو ما دفعه إلى إقالة رئيس الأركان الجنرال رشيد عمار، كما وردت التقارير الموثقة عن تآخي الجيش مع المحتجين، بل وحمايتهم من بطش قوات البوليس. وهو ما قدم لهذه المؤسسة شعبية كبيرة بين صفوف المحتجين.
لكن علينا ألا ننسى أبدا أن مؤسسة الجيش ليست مؤسسة فوق الطبقات، علينا ألا ننسى أنها كانت دائما وسيلة في يد الطبقة السائدة لقمع احتجاجات العمال وعموم الفقراء. بل إن بن علي نفسه ابن شرعي لهذه المؤسسة القمعية. والقيادات العليا في هذه المؤسسة تنتمي إلى الطبقة السائدة.
وبالتالي لا ثقة أبدا في مؤسسة الجيش كما هي الآن، بنفس هرميتها وبنفس قياداتها وبنفس هياكلها. لا ثقة إلا في قوتنا الخاصة. علينا ألا نسمح للطغمة العسكرية بأن تجهض ثورتنا وتغيير جنرال بجنرال (واضح أو مستتر).
ولدينا من جهة أخرى، في تلك المؤسسة إخواننا وأبنائنا الجنود العاديون، الذين ينحدرون من صفوفنا ويتقاسمون معنا واقع الاضطهاد والفقر، وإليهم يجب أن نتوجه بدعوات التآخي إليهم لكي يطالبوا هم أيضا بانتخاب ضباطهم وتطهير المؤسسة من كل الفاشستيين وأعداء الشعب، ولكي يلتحقوا بصفوف الثورة ويساعدوا في تشكيل ميليشات الجيش الشعبي المسلح والمراقب من طرف النقابات العمالية والمجالس الشعبية.
علينا الآن أن ننجز الثورة حتى النهاية. فنصف ثورة خطأ كامل! علينا ألا نقبل بأقل من مصادرة ملكيات مغتصبي الملكية، وعلى رأسهم أسرة بن علي والطرابلسي والعصابة المحيطة بهم. علينا ألا نقبل بأقل من مصادرة ملكيات القوى الإمبريالية التي طالما دعمت النظام الدكتاتوري وتعاونت معه في نهب ثروات البلد، ووضعها تحت رقابة الشعب الكادح.
Source: Marxy.com