تعتبر الفترة الحالية هي الأكثر انفجارا وتشنجا في التاريخ. تعلن العولمة الآن عن نفسها بكونها أزمة عالمية للرأسمالية. وبالنظر إلى عمق الأزمة وتدهور الأوضاع، صارت الأحداث تتطور بسرعة كبيرة. لقد تحضرت الشروط لحدوث نهوض عام للصراع الطبقي، وقد بدأ بالفعل في النهوض.
من أكثر مظاهر تغير الوضع لفتا للأنظار ظهور حركة احتجاجية معادية للرأسمالية ولجميع جرائمها في جميع أنحاء العالم. وهناك عدد متزايد من الناس ينهضون ضد الظلم الفادح الذي يسببه النظام القائم: ضد البطالة التي تحكم على ملايين البشر بالخمول القسري؛ وضد التفاوتات الصارخة التي تركز الثروة الفاحشة في يد الأقلية، وتحكم بالفقر على الغالبية العظمى من سكان العالم؛ وضد الحروب التي لا نهاية لها؛ والعنصرية؛ وفرض القيود على "الحياة والحرية، والبحث عن السعادة".
يمتلك 1٪ من أغنى أغنياء الولايات المتحدة الأمريكية 34,6٪ من صافي الثروة الوطنية الإجمالية؛ ويمتلك 19٪ الباقون 50,5٪؛ بينما لا يمتلك 80٪ ممن يوجدون أسفل السلم سوى 15٪ فقط من صافي الثروة الوطنية الإجمالية. أما بالثروة المالية فإن الأرقام أكثر فداحة: حيث يمتلك هؤلاء 1٪، 42,7٪ من الثروة المالية، بينما يمتلك 19٪، 50,3٪، أما 80٪ فيمتلكون 7,0٪ فقط. تعود هذه الإحصائيات إلى عام 2007، لكن أحدث البيانات الكاملة تبين أن الركود يعني انخفاضا هائلا بـ 36,1٪ في ثروة الأسر المتوسطة، مقارنة مع 11,1٪ بالنسبة لهؤلاء 1٪، والمزيد من اتساع الهوة بين الغنى الفاحش وبيننا نحن: 99٪.
يعني ركود 2008-2009 زيادة أكبر في عدم المساواة: المزيد من إغناء الأثرياء والمزيد من الفقر لأشد الناس فقرا. وقد أدى المشهد المقزز للمصرفيين الأثرياء وهم يخرجون من الأزمة بمليارات الدولارات من المال العام، في حين يغرق في الأزمة أكثر من عشرة ملايين من ضحايا قروض الرهن العقاري، ومشهد وقوف العاطلين عن العمل في صفوف المساعدات الغذائية، إلى إذكاء نيران السخط الجماهيري.
الناس العاديون لا يميلون في ظل الظروف "العادية" إلى الاحتجاج. إنهم يبقوا مجرد متفرجين غير فاعلين في الدراما التاريخية التي تجري أمام أنظارهم، حيث لا يلعبون أي دور، لكنها تحدد مصير حياتهم. لكن في كل مرة تنتزع الأحداث الكبرى، مثل الحروب أو الأزمات الاقتصادية، هؤلاء الناس من لامبالاتهم الظاهرية. إنهم يبدؤون في اتخاذ الإجراءات اللازمة، والاهتمام بالسياسة ومحاولة استعادة السيطرة على حياتهم.
لمثل هذه اللحظات في التاريخ اسم: إنها تسمى الثورات. هكذا كانت الثورة الأميركية عام 1776؛ والثورة الفرنسية ما بين 1789-1793؛ والحركات الثورية في أوروبا عام 1848؛ وكومونة باريس عام 1871؛ والثورة الروسية عام 1905 وعام 1917؛ والثورة الاسبانية ما بين 1931-1937؛ ومؤخرا: الثورتين المصرية والتونسية.
للأحداث التي تتكشف أمام أعيننا العديد من ميزات المرحلة الأولى للوضع ثوري. كثير من الناس الذين لم يكن لهم حتى الآن سوى اهتمام ضئيل أو معدوم بالسياسة يجدون أنفسهم اليوم في الشوارع يحتجون ويتظاهرون ضد نظام اجتماعي وسياسي صار لا يطاق.
هناك مقولة مأثورة مفادها: "الحياة تعلم". هذا صحيح جدا. فالعمال والطلاب في ميدان التحرير تعلموا خلال 24 ساعة من النضال أكثر مما تعلموه خلال عشرين عاما من الحياة "العادية". وبالمثل، فإن تجربة المشاركين في حركة الاحتلالات في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من البلدان تتكثف من ناحية الوقت. لن يستغرقوا عشرين عاما لكي يستوعبوا الدروس. إن الناس يتعلمون بسرعة.
في ظل هذه الظروف، تعرف أفكار التحررية واللاسلطوية والاشتراكية رواجا كبيرا مع بحث الشباب والعمال عن تفسير للأزمة وعن طريق إلى الأمام. وفي أذهان كثير من الشباب في العالم يجري إحياء الأيام المجيدة لنضال العمال الصناعيين من أجل تشكيل النقابات في المعامل. ويجري اكتشاف الكتاب اللاسلطويين من قبيل برودون، وكروبوتكين، وباكونين ودوروتي، من طرف جيل جديد من الشباب. كما تعرف كتابات مؤلفين من قبيل زين هوارد، وألبرت مايكل، ونعوم تشومسكي، الذين يفضحون شرور الإمبريالية والرأسمالية، إقبالا هائلا من طرف الجيل الجديد.
إن الاهتمام المتزايد بأفكارهم مسألة إيجابية للغاية بقدر ما تعمل تلك الأفكار على فتح أعين الناس على الطبيعة اللاديمقراطية والاستغلالية للمجتمع الرأسمالي. إن الأفكار الفوضوية جذابة لكثير من الشباب بفعل بساطتها: رفض أي شيء وكل شيء له علاقة مع الوضع الراهن. لكن عند إجراء فحص أعمق لهذه الأفكار تجد هناك نقصا مهولا من حيث المضمون وعمق التحليل فيها. وقبل كل شيء ليس فيها أي حل فعلي قابل للتطبيق للأزمة الرأسمالية. فبعد قراءة أدبياتهم يبقى المرء حائرا أمام السؤال التالي: "بماذا نستبدل الرأسمالية، وكيف يمكننا أن نجعل ذلك حقيقة واقعة، انطلاقا من الظروف القائمة فعلا اليوم؟".
إن قناعة مؤلف هذه المقالة هي أن الأفكار الماركسية وحدها القادرة على أن توفر دليلا نظريا للعمل يمكن أن يوجه في الواقع طاقة الحركة نحو التحويل الثوري للمجتمع. ليست الستالينية - ذلك المسخ الكاريكاتوري البيروقراطي وغير الديمقراطي، الاستبدادي، للاشتراكية؛ وليست "ماركسية" الأوساط الأكاديمية الحتمية الميكانيكية القطعية الميتة- بل الماركسية الحقيقية: أداة التحليل الاجتماعي الأكثر حداثة ودينامية وشمولية التي وضعتها الإنسانية حتى الآن. وحدها هذه الأفكار القادرة ليس فقط على تقديم تحليل، بل أيضا تقديم حل اشتراكي ثوري للأزمة التي تواجه الطبقة العاملة العالمية.
نشر هذا الكتاب يمثل خطوة هامة في اتجاه التسليح النظري لجيل جديد من المناضلين/ات الطبقيين في الولايات المتحدة لقد تم التطرق منذ وقت طويل إلى موقف الماركسية من اللاسلطوية. وليس من قبيل الصدفة أنه بمجرد عودة الصراع الطبقي إلى الغليان مرة أخرى، عاد إلى الحياة كل ذلك الجدل القديم. يتصور الكثير من الناس الذين استفاقوا حديثا على الحياة السياسية أنهم يساهمون في شيء جديد وأصيل تماما؛ لكن وكما يقول الإنجيل: لا يوجد شيء جديد تحت الشمس. وعلى الرغم من أنهم لا يعرفون ذلك، فإن العديد من تلك المناقشات قد دارت بالفعل في الماضي.
هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة حول تاريخ وتشكل كلا النظريتين الماركسية واللاسلطوية ومحتواهما الحقيقي. يمكننا ويجب علينا أن نتعلم من الخبرة الجماعية لطبقتنا؛ نتعلم من الصواب والأخطاء. ستمكننا هذه المجموعة من الكتابات من أن نقطع شوطا طويلا نحو توضيح وجهة نظر الماركسية حول حدود اللاسلطوية، والحاجة إلى الحزب، والنظرية، والبرنامج، والمنظورات، والتنظيم، والديمقراطية الداخلية والمحاسبة.
حدود العفوية
إن الملايين من الناس الذين خرجوا إلى الشوارع والساحات في اسبانيا واليونان لمعارضة سياسة التقشف والتخفيضات لا يثقون في الساسة والقادة النقابيين. من يستطيع أن يلومهم على ذلك؟ فالحكومات التي نفذت الهجمات في كل من اليونان وإسبانيا هي حكومات من المفترض أنها "اشتراكية". لقد وضعت الجماهير ثقتها فيهم، فتعرضت للخيانة. وخلصت إلى أنه من أجل الدفاع عن مصالحها يجب عليها ألا تترك الأمور للسياسيين، بل تأخذ زمام الأمور بأيديها.
هذا يدل على فطرة ثورية سليمة. أولئك الذين يسخرون من الحركة بكونها "عفوية محضة" يظهرون جهلهم بجوهر الثورة، والتي هي على وجه التحديد التدخل المباشر للجماهير في السياسة. هذه العفوية هي قوة هائلة، لكنها سوف تصبح، عند نقطة معينة، نقطة ضعف قاتلة للحركة.
أولئك الذين ينتقدون الحركة الاحتجاجية، لأنها تفتقد إلى برنامج واضح، يظهرون جهلهم بماهية الثورة. هذا النوع من الموقف جدير بالمتحذلقين، وليس بالثوريين. الثورة، بطبيعتها تحرك المجتمع من أعماقه، وتنهض حتى أكثر الفئات تخلفا و"لامبالاة" إلى العمل المباشر. إن مطالبة الجماهير بتقديم بديل متكامل، هو مطالبتها بالمستحيل.
بطبيعة الحال، سوف تعاني الحركة الجماهيرية بالضرورة في مراحلها الأولى من الارتباك. ستتمكن الجماهير من التغلب على أوجه القصور هذه فقط من خلال تجربتها المباشرة في خضم الصراع. لكن إذا أردنا أن ننجح، فمن الضروري علينا أن نتجاوز الارتباك والسذاجة، علينا أن ننمو وننضج، ونستخلص الخلاصات الصحيحة.
هؤلاء القادة "اللاسلطويين" - نعم حتى اللاسلطويون لديهم أيضا قادتهم، أو أشخاص يطمحون للقيادة- الذين يعتقدون أن الارتباك، وانعدام التنظيم، وعدم وجود إيديولوجية محددة، مسائل إيجابية وضرورية، يلعبون دورا خبيثا في الحركة. إن ما يقومون به مشابه لمحاولة الحفاظ على طفل في مرحلة الطفولة، بحيث يبقى إلى الأبد غير قادر على الكلام والمشي، والتفكير.
في تاريخ الحروب كثيرا ما تعرضت جيوش كبيرة، مؤلفة من جنود شجعان لكن غير مدربين، للهزيمة على يد قوة صغيرة من الجنود المحترفين والمنضبطين والمدربين تدريبا جيدا، وتحت قيادة ضباط ذوي خبرة ومهارة. إن احتلال الساحات وسيلة لتعبئة الجماهير في العمل. لكنها غير كافية في حد ذاتها. قد لا تكون الطبقة الحاكمة قادرة في البداية على طرد المتظاهرين بالقوة ، لكنها تستطيع أن تنتظر حتى تبدأ الحركة في التراجع، ثم تتصرف بشكل حاسم لوضع حد للـ"الاضطرابات".
من النافل القول إن الماركسيين سيكونون دائما في أول صف لأية معركة لتحسين أوضاع الطبقة العاملة. سنناضل من أجل أي مكتسب، مهما كان صغيرا، لأن النضال من أجل الاشتراكية غير ممكن دون النضال اليومي من أجل الإصلاحات في ظل الرأسمالية. فقط من خلال سلسلة من النضالات الجزئية، ذات الطابع الدفاعي والهجومي، حيث يمكن للجماهير اكتشاف قوتها الخاصة واكتساب الثقة اللازمة لخوض النضال حتى النهاية. هناك ظروف معينة حيث يمكن للإضرابات والمظاهرات الجماهيرية أن تجبر الطبقة الحاكمة على تقديم تنازلات. لكن هذا غير ممكن في ظل الظروف السائدة اليوم.
من أجل تحقيق النجاح لا بد من قيادة الحركة إلى مستوى أعلى. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال ربطها بشكل وثيق بحركة العمال في المصانع والنقابات العمالية. لقد رفع شعار الإضراب العام بالفعل في شكله الجنيني. لكن حتى الإضراب العام غير كاف في حد ذاته ليحل مشاكل المجتمع. إذ يجب أن يرتبط في نهاية المطاف بالحاجة إلى إضراب عام مفتوح، مما سيطرح مباشرة مسألة السلطة السياسية.
لا يمكن للقادة العاجزين والمتذبذبين سوى إنتاج الهزائم وانهيار الروح المعنوية. إن نضال العمال والشباب سيكون أسهل بشكل أكبر إذا ما تمت قيادته من قبل أناس شجعان ويمتلكون بعد النظر. لكن مثل هؤلاء القادة لا يسقطون من السماء. في مسار الصراع، سوف تضع الجماهير كل التيارات وكل القادة على المحك. وسرعان ما ستكتشف أوجه القصور في تلك الشخصيات العرضية الذي ظهرت خلال المراحل البدائية للحركة الثورية، مثل الزبد الذي يظهر على قمة الموجة، والتي سوف تتلاشى عند تحطم الأمواج على الشاطئ، تماما مثل ذلك الزبد.
إن هذه الحركات العفوية هي نتيجة لعقود من الانحطاط البيروقراطي والإصلاحي للأحزاب والنقابات التقليدية. إنها تمثل جزئيا رد فعل صحي، كما كتب لينين في كتابه الدولة والثورة، عندما أشار إلى اللاسلطويين. إن حركات مثل حركة الساخطين (indignados) في اسبانيا نشأت لأن معظم العمال والشباب يشعرون بأنه لا يوجد من يمثلهم. إنهم ليسو لاسلطويين. إنهم يكشفون عن وجود بلبلة وافتقار إلى برنامج واضح. لكن من أين يمكنهم أن يحصلون على أفكار واضحة؟
هذه الحركات الجديدة هي من جهة، تعبير عن الأزمة العميقة للنظام الرأسمالي، وهي من جهة أخرى حركات لم تدرك جدية الوضع. وبالرغم من كل طاقتها وشجاعتها، فإن لهذه الحركات أوجه قصور سرعان ما ستظهر. فاحتلال الساحات والحدائق العامة، على الرغم من أنه يمكن أن يشكل بيانا قويا، لا يؤدي في النهاية إلى أي شيء. هناك حاجة إلى تدابير أكثر جذرية لإحداث التحول الجذري في المجتمع.
ما لم يتم نقل الحركة إلى مستوى أعلى، فإنها في مرحلة معينة، سوف تخمد، ويسقط الناس في خيبة الأمل وإحباط الروح المعنوية. وعند التأمل في تجربتهم، سيتوصل عدد متزايد من المناضلين/ات لرؤية الحاجة إلى برنامج ثوري حازم. إن قناعة كاتب هذا المقال هي أن الماركسية وحدها من يمكنها أن توفر مثل ذلك البرنامج.
هل نحتاج إلى قيادة؟
إن الفكرة القائلة بأننا لسنا في حاجة إلى الأحزاب والقادة خاطئة حتى النخاع. بل إنها في واقع الأمر ليست منطقية حتى. لا يكفيك أن ترفض شيء لا تحبه. بل يجب عليك أن تقدم البديل.
إذا كان حذائي يسبب لي ألما في قدمي، فإن الحل ليس في السير حافي القدمين، بل في الحصول على حذاء مناسب. إذا كان طعامنا سيئا، فإن الاستنتاج ليس هو البقاء بدون طعام تماما، بل هو أننا بحاجة إلى طعام لذيذ لائق وصحي. إذا لم أكن مقتنعا بطبيبي، فإني أبحث عن طبيب آخر أفضل. لماذا ينبغي أن يكون الوضع مختلفا عندما يتعلق الأمر بالحزب أو القيادة؟
إن القيادة الحالية للطبقة العاملة سيئة للغاية. نحن نتفق مع اللاسلطويين في هذا الشأن. لكن الخلاصة ليست هي أننا لا تحتاج إلى أية قيادة. إن الخلاصة الصحيحة هي أنه يجب علينا أن نناضل لاستبدال القيادة الحالية بقيادة تمثل حقا مصالح وتطلعات الطبقة العاملة. إننا ندافع عن التحويل الثوري للمجتمع. إن الشروط الموضوعية لمثل هذا التحول أكثر من ناضجة. نحن نؤمن إيمانا راسخا بأن الطبقة العاملة مستعدة تماما لهذه المهمة. كيف يمكننا إذن أن نشك في قدرة العمال على تحويل منظماتهم إلى وسائل كفاحية لتغيير المجتمع؟ فإذا لم يكونوا قادرين حتى على تحقيق هذه المهمة، كيف سيمكنهم أن يسقطوا النظام الرأسمالي كله؟
يصاب كثير من الشباب بالنفور عندما ينظرون إلى المنظمات العمالية الموجودة والنقابات وخاصة الأحزاب العمالية الجماهيرية، بسبب هياكلها البيروقراطية وممارسات قادتها الذين يساومون باستمرار مع أصحاب الأبناك والرأسماليين. يبدون مجرد جزء من النظام القائم. لا يوجد في الولايات المتحدة بعد حتى حزب عمالي جماهيري. لذلك فليس من المستغرب أن العديد من الناس يرفضون جميع الأحزاب بل ويعلنون رفض السياسة تماما.
ومع ذلك، فإن هذا الإعلان متناقض في ذاته. فحركة احتلال الساحات حركة سياسية إلى حد بعيد. وبرفضهم الأحزاب السياسية القائمة، يضعون أنفسهم على الفور كبديل عنها. لكن أي بديل؟ لا يكفي أن نقول: "نحن ضد النظام الحالي لأنه غير عادل، وقمعي ولاإنساني". بل من الضروري أن نقترح نظاما بديلا من شأنه أن يكون إنسانيا ويحقق العدل والمساواة.
إن التيارات اللاسلطوية، على الرغم من أنها ما تزال ضعيفة جدا، قد بدأت تتطور مؤخرا نتيجة لإفلاس القادة الإصلاحيين للمنظمات العمالية الجماهيرية. تتسبب انتهازية القادة العماليين في انتشار الأمزجة اليسارية المتطرفة واللاسلطوية بين فئات من الشباب. وكما قال لينين ذات مرة، إن التطرف اليساري هو الثمن الذي تدفعه الحركة بسبب الانتهازية.
للوهلة الأولى تبدو الفكرة جذابة: "انظروا إلى القيادات العمالية! أنهم مجرد طغمة من البيروقراطيين والوصوليين الذين يبيعوننا دائما. نحن لسنا بحاجة إلى القادة! نحن لسنا بحاجة إلى التنظيم!". لكن مع الأسف لا يمكننا تحقيق أي شيء من دون تنظيم. قد تكون النقابات بعيدة عن الكمال، لكنها كل ما يمتلكه العمال لمنع الرأسماليين من سحقهم.
يعرف أرباب العمل الخطر الذي تمثله لهم النقابات. هذا هو السبب الذي يجعلهم يحاولون دائما تقويضها، وتقييد الحقوق النقابية، بل وسحقها تماما. يمكننا أن نرى هذا في القوانين المعادية للنقابات، التي تقيد بشدة حق العمال في الإضراب. وقد طبق سكوت ووكر حاكم ويسكونسن الجمهوري، تشريعات ضد النقابات لنزع سلاح العمال في مواجهة التخفيضات الوحشية. وفي ولاية أوهايو، هزم الشعب محاولة مماثلة في استفتاء، حيث فهموا الحاجة للدفاع عن النقابات.
"لكن زعماء النقابات بيروقراطيون! إنهم يسعون دائما لإبرام الصفقات مع أرباب العمل!". قد يكون الأمر كذلك، ولكن ما هو البديل الذي نقترحونه؟ هل يمكننا أن نناضل بدون النقابات؟ بدون النقابات ستتحول الطبقة العاملة إلى مجموعة من الذرات المنعزلة تحت رحمة أرباب العمل. وقد أشار ماركس منذ زمن بعيد أن الطبقة العاملة دون تنظيم مجرد مادة خام للاستغلال. ليست المهمة هي رمي الطفل مع مياه الاستحمام، بل هي تحويل النقابات إلى منظمات كفاحية مناضلة، إلى منظمات للصراع الطبقي.
لقد استسلمت قيادة منظمات العمال اليوم، أكثر من أي وقت مضى في التاريخ، لضغط البرجوازية. لقد تخلوا عن الأفكار التي تأسست عليها الحركة وصاروا منفصلين عن الطبقة التي من المفترض أنهم يمثلونها. إنهم يمثلون الماضي وليس الحاضر أو المستقبل. إن الجماهير ستدفعهم إلى اليسار أو سترمي بهم جانبا خلال الفترة العاصفة التي تنفتح أمامنا الآن.
بدون مساعدة الإصلاحيين والستالينيين وقادة النقابات العمالية العملاء، لن يكون من الممكن الحفاظ على النظام الرأسمالي ولو لفترة قصيرة من الزمن. هذه فكرة هامة علينا أن نؤكدها باستمرار. يمتلك قادة النقابات العمالية والأحزاب الإصلاحية في جميع البلدان قوة هائلة بين أيديهم، قوة أكبر بكثير مما كانت عليه في أي وقت آخر في التاريخ.
إن البيروقراطية العمالية، في آخر التحليل، هي القوة الأكثر محافظة داخل المجتمع. إنها تستخدم سلطتها لدعم النظام الرأسمالي. هذا هو السبب الذي جعل تروتسكي يقول إن أزمة الإنسانية تختزل في أزمة قيادة البروليتاريا. ومصير البشرية يتوقف على حل هذه المشكلة. لكن الحركة اللاسلطوية عاجزة عن حل هذه المشكلة، لأنها لا تعترف حتى بأن المشكلة موجودة.
لا بد من النضال من أجل عزل البيروقراطيين والوصوليين من مناصبهم، لتطهير المنظمات العمالية من العناصر البرجوازية واستبدالهم برجال ونساء على استعداد حقا للنضال من أجل الطبقة العاملة. إن الدعوة إلى التخلف عن هذا النضال، إلى رفض النضال من أجل تغيير القيادة، هي دعوة إلى تكريس سيادة البيروقراطية، أي إلى تأبيد نظام العبودية الرأسمالي. وكما أوضح تروتسكي، فإن رفض النضال من أجل السلطة سياسية أو النقابية يعني ترك هذه السلطة بين أيدي أولئك الذين يتحكمون فيها الآن.
"نقابة واحدة كبيرة؟"
قامت المنظمة العالمية لعمال الصناعة** بعمل رائع قبل الحرب العالمية الأولى بتنظيمها للفئات غير المنظمة للطبقة العاملة: العمال الزراعيين والعمال غير المهرة، وعمال الموانئ، والحطابين والمهاجرين. وقد خدم شعار "نقابة واحدة كبيرة" باعتباره نقطة تجميع ملهمة في معارضة العمل النقابي الحرفي المحافظ الذي كانت تقوم به نقابة الفدرالية الأمريكية للعمل القديمة.
قاد الـ “wobblies”كما كانوا يسمون إضرابات هامة، بدءا من إضراب مناجم الذهب، في نيفادا عام 1906 وإضراب عمال حديد السيارات عام 1909 بمصنع ماك كيز روكس، في بنسلفانيا، وإضراب عمال مصنع لاورنس للنسيج سنة 1912، وإضراب مصنع باترسون للحرير عام 1913. كثيرا ما واجهوا القمع الوحشي والضرب والقتل. جو هيل (جويل هاغلوند)، شاعر الـ “wobblies” الذي كتب أبياتا شعرية وأغاني ملهمة، اتهم بالقتل وأعدم من طرف ولاية يوتاه عام 1915 اعتمادا على أدلة واهية.
في المؤتمر التأسيسي للمنظمة العالمية لعمال الصناعة ، قال بيل هايوود، الأمين العام للفدرالية الغربية لعمال المناجم: «هذا هو المؤتمر القاري للطبقة العاملة. نحن هنا لندمج عمال هذا البلد في حركة عمالية هدفها تحرير الطبقة العاملة من عبودية الرأسمالية.» (مقتطفات من الاتفاقية الأولى للمنظمة العالمية لعمال الصناعة).
كانت المنظمة العالمية لعمال الصناعة نقابة ثورية واعتمدت على أكثر مذاهب الصراع الطبقي حزما. لم تكن أبدا منظمة لاسلطوية، لكنها كانت تفتقر إلى أيديولوجية متماسكة ومتسقة. يمكن للمرء أن يقول إن أيديولوجيتها كانت خليطا غريبا من اللاسلطوية النقابية والماركسية. وقد ظهر هذا التناقض سريعا في نقاش مبكر. كان دانيال دي ليون، المناضل الماركسي الأمريكي البارز، عضوا مؤسسا للمنظمة العالمية لعمال الصناعة في عام 1905. لكنه اختلف مع قادة المنظمة العالمية لعمال الصناعة بسبب معارضتهم للعمل السياسي.
بينما كان دي ليون يطالب بالحصول على دعم العمل السياسي من خلال حزب العمل الاشتراكي، كان القادة الآخرون، بمن فيهم بيغ بيل هايوود، يؤكدون على العمل المباشر. كتلة هايوود هي التي كسبت، ونتيجة لذلك تم تغيير الديباجة لمنع "الانتساب الى اي حزب سياسي". عندها غادر أتباع دي ليون المنظمة العالمية لعمال الصناعة احتجاجا. كان ذلك خطأ من طرفهم، لأن الحياة نفسها تجعل الناس من أمثال بيغ بيل هايوود يغيرون رأيهم.
في الواقع، استمدت المنظمة العالمية لعمال الصناعة الكثير من الماركسية. فالفكرتان الرئيسيتان في برنامجها: مفهوم الصراع الطبقي وفكرة أن تحرر العمال يجب أن يكون من صنع العمال أنفسهم، اقتبستا مباشرة من ماركس. والحقيقة هي أن المنظمة العالمية لعمال الصناعة كانت أكثر من مجرد نقابة. لقد كانت في الوقت نفسه نقابة كفاحية ومنظمة ثورية – كانت جنين حزب ثوري. وسرعان ما اتضح هذه خلال الأحداث العاصفة التي صاحبت الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية.
كانت المنظمة العالمية لعمال الصناعة أممية حتى النخاع. لقد عارضت الحرب العالمية الأولى، كما فعل البلاشفة الروس. قبيل إعلان الولايات المتحدة المشاركة في الحرب، كتبت إحدى جرائدها، the Industrial Worker (العامل الصناعي): «يا رأسماليي أمريكا، سوف نقاتل ضدكم، وليس من أجلكم! ليست هناك قوة في العالم يمكنها أن تجبر الطبقة العاملة على خوض الحرب إن هي رفضت ذلك!». تبنت المنظمة قرارا ضد الحرب في مؤتمرها في نوفمبر 1916. ولهذا السبب أساسا أبدى لينين اهتماما كبيرا بها.
أظهرت الحرب والثورة الروسية أن العمل السياسي ليس مجرد مسألة برلمان وانتخابات، بل هو أسمى تعبير عن الصراع الطبقي. لم يكن في إمكان المنظمة العالمية لعمال الصناعة أن تتجاهل السياسة. فقد أثبت دخول أميركا في الحرب عام 1917، والذي أطلق العنان لموجة شرسة من قمع الدولة ضد المنظمة العالمية لعمال الصناعة وضد جميع الذين عارضوا الحرب، الحاجة للنضال ضد السلطة الممركزة للطبقة الحاكمة. وأظهرت الثورة البلشفية كيف يمكن الإطاحة بسلطة الدولة القديمة والاستعاضة عنها بنظام ديمقراطي للعمال أنفسهم.
عندما أخذ العمال الروس سلطة الدولة بأيديهم واستخدموا هذه السلطة لمصادرة الرأسماليين، كان لذلك أثر عميق في صفوف "wobblies". حيث بدأ بعض أبرز قادتهم، مثل بيغ بيل هايوود، وجيمس كانون وجون ريد، يشككون في العديد من تصوراتهم القديمة. وبعد أن فهموا الحاجة إلى تنظيم سياسي ثوري، انتقلوا إلى جانب البلشفية.
انضمت أفضل عناصر المنظمة إلى الحزب الشيوعي الأمريكي الحديث التأسيس. في أبريل، 1921 قال هايوود في مقابلة مع ايستمان ماكس، نشر في صحيفة The Liberator (المحرر): «أشعر كما لو أني كنت دائما هناك، تتذكر أنني كنت أقول إن كل ما يلزم هو 50.000 عضو حقيقي في المنظمة، ومن ثم مليون عضو آخرون لدعمهم؟ حسنا، أليست هذه فكرة مماثلة؟ على الأقل أدركت دائما أن الشيء الأساسي هو أن يكون هناك تنظيم لأولئك الذين يعرفون».
لكن الانحطاط الستاليني للثورة الروسية لاحقا شوه تطور الحزب الشيوعي الذي لم يكسب شيئا من هؤلاء الرواد الشجعان الذين بدأوا مهمة تنظيم الطليعة الثورية في الولايات المتحدة الأمريكية في ظل ظروف قمع رهيبة.
أولئك الذين رفضوا الانتقال إلى الماركسية دفعوا بالمنظمة إلى طريق مسدود لم تتمكن من الخروج منه. فالعقيدة الدغمائية العقيمة: معاداة السياسة، عزلت المنظمة عن الأحداث التاريخية العظيمة التي كانت تجري على الصعيد العالمي. ومع حلول ذكرى تأسيسها الخامسة عشرة عام 1920 كانت المنظمة قد دخلت في انحطاط لا رجعة فيه. وفي عام 2005، خلال الذكرى 100 لتأسيسها، بقيت تضم حوالي 5.000 عضوا فقط، مقارنة بـ 13 مليون عضو في نقابة الفدرالية الأمريكية للعمل/مؤتمر المنظمات الصناعية (AFL / CIO)
ما تزال فكرة تأسيس "نقابة واحدة كبيرة" تجد لها صدى بين العديد من الناس. يشعر العمال الشباب خصوصا بالإحباط أمام الانقسامات التي لا نهاية لها والاقتتال الداخلي داخل النقابات الرئيسية اليوم، أو أنهم لا ينتمون إلى أي نقابة على الإطلاق. ومع ذلك، فعلى الرغم من الجهود البطولية للـ Wobblies لتنظيم حفنة من عمال المقاهي ومطاعم الوجبات السريعة، فإن بناء مثل هذه النقابة على قاعدة عضو واحد لن تؤدي أبدا إلى تحقيق أهدافها. لهذا هناك الحاجة إلى القوى الهائلة التي تمتلكها النقابات الرئيسية. من أجل تغيير سياسة القيادة الحالية داخل النقابات يتطلب العمل خوض صراع سياسي داخلها، وليس على هامشها. علاوة على ذلك، فإن الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي من خلال وصول الطبقة العاملة الى السلطة السياسية، ونزع ملكية الرأسماليين، وإصدار قوانين تضمن الحقوق النقابية لكل العمال وتضمن لهم الأجور والمكاسب. هذا ما من شأنه أن يرسي الأساس لتحقيق "نقابة واحدة كبيرة"، حيث سيتم تنظيم مئات الملايين من العمال في فدرالية نقابية متحدة.
حتى في مرحلة هبوطها، لعبت المنظمة العالمية لعمال الصناعة دورا رئيسيا في إلهام وتطوير العمل النقابي الحديث، والتي أسفرت عن تأسيس نقابة مؤتمر المنظمات الصناعية خلال الثلاثينات. كان ذلك إنجازا هائلا. إن المنظمة العالمية لعمال الصناعة، على رغم من أنها ما تزال تضم في صفوفها بعض العمال الكفاحيين جدا، لم تعد في الوقت الحاضر سوى صورة باهتة لما كانت عليه سابقا.
إن التاريخ المنظمة العالمية لعمال الصناعة هو مصدر إلهام لا ينضب بالنسبة لشباب اليوم. ونحن ندرك تماما الدور الرائد الذي قامت به المنظمة في السنوات الأولى ونحيي بكل إخلاص وعيها الطبقي الكفاحي وتقاليدها الثورية. إننا ندرك أن "اللاسلطوية النقابية" داخلها كانت مجرد مظهر سطحي، مجرد غلاف خارجي لنزعة بلشفية جنينية داخلها. نحن فخورون باعتبار المنظمة العالمية لعمال الصناعة جزءا هاما من تراثنا التاريخي.
لا قادة؟
للوهلة الأولى تبدو هذه الفكرة جذابة. فإذا كان كل القادة خونة، فلماذا نحن بحاجة إلى قادة أصلا؟ لكن هذه الفكرة لا تتحمل أدنى تحليل نقدي. فحتى خلال إضراب من نصف ساعة في مصنع هناك قيادة. على شخص ما الذهاب إلى مكتب رب العمل لطرح مطالب العمال عليه. من سيختاره العمال للقيام بهذا الدور؟ هل سيتركون ذلك للصدفة، أو ربما سيسحبون اسما من القبعة؟
كلا، إن هذه مهمة أخطر من أن تترك للصدفة. سوف ينتخب العمال الشخص الذي يعرفون أنه سيدافع عن مصالحهم: رجل أو امرأة لديه/ها ما يلزم من الخبرة والذكاء والشجاعة لتمثيل الناس الذين انتخبوه أو انتخبوها. هؤلاء هم القيادات الطبيعية للطبقة العاملة، وهم موجودون في كل أماكن العمل. وإنكار هذا هو إنكار لحقائق الحياة، المعروفة عند كل عامل.
على الرغم من أنه لم تكن هناك الكثير من الإضرابات الناجحة الواسعة النطاق في الفترة الأخيرة بالولايات المتحدة، فإن العديد من العمال شاركوا في إضراب واحد على الأقل. لكن كم من العمال مروا من خلال تجربة إضراب عام ثوري أو انتفاضة جماهيرية؟ عدد قليل جدا من العمال مروا من هذه التجربة، وبالتالي فهم غير قادرين على استخلاص أي خلاصات أو تعلم أي دروس. هذا ممكن فقط بالاعتماد على النظرية وعلى التجربة التاريخية لطبقتنا.
في عالم الحيوان، يتم تمرير خبرات الأجيال الماضية المتراكمة عن طريق آلية الانتقال الوراثي. الحيوان يعرف بالغريزة كيفية التصرف في حالة معينة. لكن المجتمع البشري يختلف عن أي تجمع حيواني آخر. ففي المجتمع البشري تلعب الثقافة والتعليم دورا أكثر أهمية من الوراثة. كيف تنتقل الدروس المستفادة من الأجيال السابقة إلى الأجيال الجديدة؟ ليست هناك آلية تلقائية للقيام بذلك. يجب إجراء الانتقال من خلال آلية التعلم. وهذا يستغرق وقتا.
وما هو صحيح بالنسبة للمجتمع بصفة عامة ينطبق أيضا على الطبقة العاملة والنضال من أجل الاشتراكية. إن الحزب الثوري هو الآلية التي يتم من خلالها نقل دروس الماضي إلى الجيل الجديد في شكل معمم (النظرية). وهذا هو ما يعادل المعلومات الجينية. إذا كانت المعلومات الوراثية صحيحة وكاملة، فسوف تؤدي إلى تشكيل إنسان سليم. أما إذا كانت خاطئة ومشوهة، فسيحدث الإجهاض.
نفس الشيء يقال عن النظرية. يمكن لنظرية تلخص بشكل صحيح تجارب الماضي أن تكون عونا كبيرا في تمكين الجيل الجديد من تجنب أخطاء الماضي. لكن نظرية خاطئة ستتسبب فقط في نشر الارتباك واللبس، أو في ما هو أسوء من ذلك. إذا كنا جادين بخصوص الثورة، فيجب علينا أن نتعامل معها بمنتهى الجدية، وليس بطريقة سطحية وهاوية. يجب أن تحتل مسائل الاستراتيجيا والتكتيكات مكانا مركزيا في اعتبارات الماركسيين. فبدون تكتيكات، يصير كل حديث عن بناء الحركة الثورية مجرد ثرثرة فارغة: إنه مثل سكين دون نصل.
ينبع مفهوم الإستراتيجية الثورية من تأثير المصطلحات العسكرية. هناك العديد من أوجه التشابه بين الصراع الطبقي وبين الحرب بين الدول. من أجل إسقاط البرجوازية، يجب على الطبقة العاملة وطليعتها امتلاك منظمة قوية ومركزية ومنضبطة. يجب على كوادرها القيادية أن تمتلك المعرفة اللازمة لفن الهجوم والتراجع، ومعرفة متى تخوض المعركة ومتى تتجنبها.
تفترض مثل هذه المعرفة، بالإضافة إلى الخبرة، دراسة متأنية ومفصلة للمعارك الماضية، والانتصارات، والهزائم. إنها بعبارة أخرى تفترض معرفة نظرية. إن موقف الرفض للنظرية أو الاستخفاف بها خطأ جسيم، لأن النظرية هي، في جزء منها، تعميم للتجربة التاريخية للطبقة العاملة في جميع البلدان.
لكن أليس من الممكن ارتجال أفكار جديدة وتشكيلها على أساس الخبرة التي نعيشها في الصراع الطبقي؟ نعم، هذا ممكن بالطبع. لكن سيكون هناك ثمن يجب دفعه. في خضم الثورة تتحرك الأحداث بسرعة كبيرة جدا. لا يوجد وقت للارتجال والتخبط مثل رجل أعمى في غرفة مظلمة. أي خطأ نرتكبه سندفع ثمنه، ويمكن أن يكلفنا غاليا جدا.
إن اللاسلطويين من خلال إنكارهم لأهمية التنظيم والقيادة، يرغبون في إبقاء الحركة في حالة جنينية، غير منظمة وعفوية. لكن الصراع الطبقي ليس لعبة أطفال ويجب ألا يتم التعامل معه بشكل طفولي. قال الفيلسوف الأمريكي جورج سانتيانا ذات مرة بحكمة بالغة: «إن أولئك الذين لا يتعلمون من أخطاء التاريخ محكوم عليهم بتكرارها». يقدم لنا تاريخ الحركات الثورية عددا هائلا من الأمثلة على ذلك، تستحق دراسة متأنية إذا كنا نرغب في عدم تكرار أخطاء وهزائم الماضي المأساوية.
هوامش:
[*]:]:ملاحظة من المترجم: هناك اختلاف في ترجمة المصطلح الانجليزي "Anarchism" إلى العربية، حيث يترجمه البعض بكلمة "فوضوية"، ويميل الآخرون إلى نقله حرفيا إلى العربية: "أناركية"، وهناك من يترجمه بكلمة "اللاسلطوية" وهو المصطلح الذي سنستعمله نحن أيضا في هذا المقال، تلافيا للغموض الذي يمكن أن يخلقه المصطلحان الآخران.
[**]:نقابة عالمية تأسست في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1905، مبدؤها الأساس هو توحيد العمال داخل نقابة واحدة كبيرة، وكان أعضاؤها يسمون wobblies. المترجم
Translation: Marxy.com (Morocco)