مرت سنتان على اندلاع الثورة المصرية وقد شهدنا سقوط العديد من القتلى في شوارع القاهرة خلال اشتباكات بين الشباب والعمال الثوريين وبين الإسلاميين الحاكمين. هذا مؤشر عن حقيقة الوضع اليوم في العالم العربي. لقد أسقطت الثورة حكمي مبارك وبن علي، لكنها لم تحل أيا من المشاكل الاجتماعية التي كانت السبب الأساسي للثورة. [بيان على أساس نقاش داخل اللجنة التنفيذية الأممية للتيار الماركسي الأممي خلال اجتماعها الأخير شهر يناير].
ما قلناه في الماضي
لم تشكل الثورة العربية حدثا مفاجئا للماركسيين. لقد كنا نتابع التطورات هناك طيلة مدة من الزمن. وعلى سبيل المثال نشرنا مقالا عن الثورة العربية سنة 2007 تحت عنوان: "Class Struggle Brewing in the Middle East" (الصراع الطبقي ينضج في الشرق الأوسط) إلى جانب العديد من المقالات الأخرى. هذا في وقت كانت فيه الرأسمالية في أوروبا وأمريكا الشمالية ما تزال تعيش ازدهارا اقتصاديا وكانت أمريكا اللاتينية في الطليعة. لقد أكدنا على دور فنزويلا وأمريكا اللاتينية ككل، باعتبارها مركز التطورات الثورية على الصعيد العالمي.
في الوقت الذي كنا نؤكد فيه الإمكانيات الثورية التي يتضمنها الوضع في أمريكا اللاتينية، ونوضح أنه كان استشرافا لما سيحدث قريبا على نطاق عالمي، كانت العديد من التيارات اليسارية تشكك في ما نقول. إن هؤلاء الناس يحتقرون دائما الإمكانيات الثورية للجماهير. وقد كانوا في ذلك الوقت يزعمون أن الشرق الأوسط يسير في الاتجاه المعاكس لما يحدث في أمريكا اللاتينية. زعموا أن ما يسيطر في الشرق الأوسط هو الردة الرجعية، وحتى بعض "الماركسيين" قالوا إن قيادة التيار الماركسي الأممي تبالغ في التفاؤل بخصوص الثورة العالمية.
إلا أن الحقيقة هي أننا نبني منظوراتنا المتفائلة ليس على قاعدة المتمنيات الذاتية، بل على واقع الشروط الموضوعية، على قاعدة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والإمكانيات الحقيقية للثورة التي تنجم عن هذه الظروف. إن تفاؤلنا ليس تفاؤلا فارغا مجردا.
بالعودة إلى عام 2007 شرحنا أن إسرائيل، مع الهزيمة في الحرب في لبنان، ستشهد صعود التناقضات الطبقية إلى السطح. وسرعان ما تأكدت هذه المنظورات من خلال سلسلة من الإضرابات التي قام بها عمال الموانئ وغيرها من القطاعات. وفي إيران أشرنا إلى الانقسامات التي بدأت تظهر في قمة النظام وتزايد السخط الاجتماعي. بعد عامين على ذلك شهدنا اندلاع الحركة الثورية الرائعة التي هزت النظام من أساسه، والتي لم تفشل في الإطاحة به إلا بسبب عدم وجود قيادة ثورية حازمة.
وفي فلسطين شرحنا كيف أن كلا من فتح وحماس على حد سواء يفقدان شرعيتهما في أعين الجماهير، لكونهما يسيران الأراضي الفلسطينية في خدمة الإمبريالية.
أما بشأن الوضع في مصر، فقد كتبنا العديد من المقالات حول العاصفة المقبلة، فعلى الرغم من الازدهار كانت البلاد تعاني في ذلك الوقت. إذا كان المرء يتبنى نظرة سطحية وغير جدلية للأوضاع فإن كل شيء سيبدو له على ما يرام، إلا أننا كنا قادرين على أن نرى التقاطبات الاجتماعية الهائلة التي كانت تحدث. لقد فهمنا أن نمو الاقتصاد من شأنه أن يؤدي إلى تعزيز الطبقة العاملة؛ كما أننا أبرزنا دور النساء والدور الثوري الذي سيلعبنه. وقد كانت إضرابات عمال النسيج بالمحلة، حيث فتحت نساء يرتدين الحجاب الطريق أمام انخراط الرجال بدورهم في الإضراب، مؤشرا لما كان يوشك على الحدوث. كما قمنا بالتركيز على دور الشباب المتعلمين ذوي الشواهد العليا لكن العاطلين عن العمل وبدون أفق. لقد كان برميل بارود ينتظر مجرد شرارة ليشتعل.
الشرارة التونسية تشعل الثورة
جاءت تلك الشرارة في نهاية عام 2010 في تونس، عندما قام شاب فقير ويائس بإضرام النار في جسده احتجاجا على الطريقة التي تم التعامل بها معه من قبل الشرطة. كان لهذا صدى فوري بين أوسع فئات الجماهير التي تماهت مع حالته، وانطلقت الثورة التونسية. وكانت الثورة التونسية الشرارة الأكبر التي انتشرت بعد ذلك إلى مصر، ثم إلى كل العالم العربي بعد ذلك.
كان تحليلنا للثورة المصرية فريدا من نوعه، كان تحليلا يوميا في ذروة النضال ضد مبارك. لقد قمنا بتحليل كل تغير في الوضع، وتوقعنا الخطوة التالية للجماهير الثورية. وقد تابعنا المراحل الرئيسية منذ ذلك الحين.
إن السمة الرئيسية للثورة العربية هي عدم وجود قيادة ثورية للطبقة العاملة. إذا لم نفهم هذا الواقع لا يمكننا أن نفسر الأحداث اللاحقة. إن الأحداث لا تقف في انتظار "نضج العامل الذاتي"، في انتظار بناء الحزب الثوري. في مثل هذه الظروف يحدث فراغ، وهذا الفراغ يجب أن يتم ملئه. في تونس ومصر، تم ملئ هذا الفراغ من قبل الإسلاميين. وقد كان هذا هو الحال أيضا في ليبيا وسورية وغيرهما.
عندما تحدث مثل هذه التغيرات السريعة، مع التقلبات التي تشهدها من الثورة إلى الثورة المضادة، يبدأ الكثير من اليساريين في الشكوى مرة أخرى، ويعودون إلى شعارهم السابق حول "الأصولية الإسلامية"، تقريبا كما لو أنها قوة غير مرئية لا يمكن وقفها. لكن هذا خاطئ كليا.
إن صعود هذه القوى هو نتيجة لعدم وجود قيادة ثورية. الثورة سيرورة وليست مسرحية من فصل واحد. إن الثورة والثورة المضادة يسيران معا وفي لحظات مختلفة من السيرورة يمكن لإحداهما أن تهيمن على الأخرى. والأساسي هو أن الحياة خير معلم. لقد سيطر الإسلاميون على السلطة في مصر وتونس، وملؤوا الفراغ، لكنهم الآن بعد أن وصلوا إلى السلطة بدأوا ينفضحون باعتبارهم قوة رجعية. إن مهمتهم هي الوقوف في وجه الثورة، وتحويل الجماهير إلى طريق الأصولية الإسلامية، بالتظاهر بأنهم "معادون للامبريالية" بينما هم يتعاملون سرا مع "الشيطان الأكبر"، ويطبقون السياسات الرأسمالية: التقشف، خفض الدعم، وما إلى ذلك. إنهم يقولون بديماغوجية إنهم يدافعون عن الثورة، بينما هم في الواقع يعملون على تقويضها. النقطة المهمة هي أن الجماهير الآن ترى هذا الواقع بأعينها وهذا ما يفسر التحول الأخير في الأحداث في هذين البلدين.
التحضير لموجة جديدة من الثورة
إن الثورة لم تنته بعد. بل على العكس من ذلك هناك موجة جديدة من الثورة تتحضر. ستكون هناك العديد من الموجات، وذلك تحديدا لعدة أسباب: 1) غياب العامل الذاتي، 2) الضعف النسبي للطبقة الحاكمة، و3) القوة الهائلة للطبقة العاملة. هذا يعني أن الطبقة الحاكمة أضعف من أن تقدم فورا على تنفيذ هجمة رجعية ساحقة، وبالتالي هي مضطرة إلى المناورة باستمرار والاعتماد على ضعف قيادة الطبقة العاملة.
سنة 2011 كانت كل العيون مركزة على الثورة في العالم العربي، لكن في غضون فترة قصيرة جدا تحول التركيز إلى أوروبا. إن هذا تطور مهم، فكما أوضحنا دائما إن مفتاح الثورة العالمية يوجد في البلدان الرأسمالية المتقدمة. في الماضي اندلعت الثورات ضد الاستعمار (في الستينات والسبعينات)، بينما كان الجزء الأكبر من البلدان الرأسمالية المتقدمة يعيش فترة ازدهار طويلة. كانت الظروف في البلدان المستعمرة سابقا ناضجة للثورة، لكن الثورة في البلدان الرأسمالية المتقدمة كانت مؤجلة. يوضح هذا التطورات الخاصة التي شهدتها تلك البلدان.
لم تكن الجماهير في تلك البلدان تستطيع أن تنتظر اندلاع الثورة في البلدان المتقدمة لتشرع هي في الثورة، لكن وفي ظل الظروف المعطاة، وبوجود قيادات ستالينية أساسا لتلك الثورات، كان أفضل ما يمكن تحقيقه هو شكل من أشكال الستالينية. هذا ما يفسر ظاهرة البونابارتية البروليتارية التي انبثقت عن حروب العصابات، والانقلابات العسكرية وما إلى ذلك.
الوضع مختلف جدا الآن. لدينا أوضاع ثورية وقبل- ثورية في جميع أنحاء العالم، في كل من البلدان المستعمرة سابقا والبلدان الرأسمالية المتقدمة. الجماهير العربية ترى الآن ثورتها كجزء من حركة إقليمية وعالمية. إنها تتطلع إلى إسبانيا، واليونان، وغيرها من أجل استلهام الدروس، وفي المقابل تستلهم الجماهير في أوروبا الدروس من الثورات في الشرق الأوسط. ونرى هذا أيضا في الولايات المتحدة. انظروا، على سبيل المثال، إلى النضال ضد حاكم ولاية ويسكونسن ووكر سكوت في نفس الفترة التي شهدت سقوط مبارك. ومن العناصر الهامة الأخرى أن الجماهير العربية ترى أيضا سلطة الإمبريالية الأمريكية والإسرائيلية تتراجع كما تتراجع قدرتها على سحق الثورات، الخ، وهذا يعطي ثقة أكبر للجماهير.
مصر
في البداية كان في مصر جزء من الشعب لديه أوهام حول جماعة الإخوان المسلمين. لكن وفي فترة قصيرة جدا من الزمن بدأ الناس يعرفون طبيعتها. الآن الرئيس مرسي، يحاول تشييد شكل من أشكال الأنظمة البونابارتية، من خلال تركيز صلاحيات أكبر بين يديه. لكن الجماهير ردت بخروج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع ومهاجمة مقرات الإخوان، والدعوة إلى سقوط النظام.
كانت رد النظام على جميع هذه التحركات وحشيا. ومن خلال هذه التجارب ترى الجماهير أنه لم يتغير أي شيء. الإخوان المسلمون الآن يفقدون قاعدة الدعم بسرعة. وذلك لأن الجماهير قامت بالثورة ليس فقط لإسقاط مبارك، بل من أجل حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الملحة التي تواجهها. والآن بعد أن تمت الإطاحة بمبارك فإن شيئا لم يتغير من حيث الجوهر بالنسبة للجماهير. بل على العكس من ذلك ازدادت الأمور سوءا في الواقع بالنسبة لهم.
تراجع الناتج الداخلي الإجمالي في مصر من أكثر من 6٪ قبل الثورة إلى 1.8٪ الآن. وقد شهد الاقتصاد تباطؤا حادا. وارتفع معدل البطالة وتراجع الاستثمار الأجنبي إلى 10٪ فقط عما كان عليه في السابق.
في ظل هذه الظروف يعمل الشباب والعمال على استخلاص الدروس. لقد انفضح الإسلاميون، وهناك تحول في الحياة السياسة. وهذا ما يفسر صعود نجم جبهة الإنقاذ الوطني، التي تتألف من قوى مختلفة، بمن في ذلك الناصريون مثل صباحي، الذي يعلن نفسه اشتراكيا (إنه في الواقع أقرب إلى الاشتراكية الديمقراطية. هذا تطور مهم، بالنظر إلى أن عبد الناصر كان يسير في اتجاه البونابارتية البروليتارية ونفذ العديد من عمليات التأميم والإصلاحات الاجتماعية، وعارض الإمبريالية، الخ. إن الطبقة العاملة المصرية تحمل ذكرى ايجابية عن عبد الناصر).
لكن جبهة الإنقاذ الوطني تشمل أيضا الليبراليين البرجوازيين مثل البرادعي، وموسى من نظام مبارك القديم. إنها نوع من جبهة شعبية تتشكل من قوى لديها جذور بين صفوف الجماهير العاملة وبين القوى التي تمثل نفس الطبقة الحاكمة التي ساندت مبارك. لقد جمعت هذه الجبهة الكثير من الدعم بين الجماهير، وخاصة الشباب في الفترة الأخيرة، وهذا مؤشر على وجود مزيد من التجذر.
سوف تشهد الفترة المقبلة تعرض الحكومة المصرية الحالية لضغوط قاسية. فبالنسة للبرجوازية والإمبريالية تتمثل المهمة الرئيسية لهذه الحكومة في تنفيذ إجراءات تقشف قاسية. وفي هذه المرحلة بدأ مرسي للتو في تنفيذ سياسات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. لقد أجبر على التراجع مؤقتا في وجه الاحتجاجات الجماهيرية. مشكلته هي أنه حتى الآن لم يرق إلى مستوى المهام التي تطلبها منه البرجوازية والإمبرياليون. وبالتالي فإنه يجب على الإخوان المسلمين المضي قدما في الهجمات - وهذا ما سوف يؤدي إلى المزيد من انفضاحهم في عيون الجماهير.
الأصولية الإسلامية - ظاهرة رجعية
إن الإخوان المسلمين كانوا دائما قوة رجعية. وقد اتخذنا موقفا مبدئيا من جماعة الإخوان المسلمين عندما حاولوا تقديم أنفسهم بأنهم جزء من الثورة. لقد شرحنا طبيعتهم وأهدافهم. بعض اليساريين الآخرين للأسف، مثل الاشتراكيين الثوريين (المجموعة المصرية المرتبطة بحزب العمال الاشتراكي البريطاني) دعموا الإخوان المسلمين بحجة أنهم "جزء من الثورة"، وإن كانوا على يمينها! لقد كان هذا موقفا مخزيا بالنسبة لمجموعة تدعي أنها اشتراكية.
ما نسيته جماعة الاشتراكيين الثوريين هو أن دور الماركسيين ليست السير خلف الجماهير، بل هو قول الحقيقة للعمال والشباب. في بعض الأحيان يمكن أن يجعلك قول الحقيقة تفقد شعبيتك مؤقتا. وفي بعض الأحيان يمكن أن يكون من الصعب تحديد الاتجاه الصحيح، وإذا لم يكن المرء مستندا على الأفكار الأساسية للماركسية يمكن له أن يسقط في أخطاء في غاية الخطورة. لقد قال التيار الماركسي الأممي الحقيقة، وشرح الطبيعة الحقيقية لجماعة الإخوان المسلمين. والآن لدينا الشرعية للدخول في حوار مع العناصر الأكثر تقدما بين صفوف اليسار في مصر، في حين ضربت شرعية أولئك الذين زرعوا الأوهام بشكل كبير.
هذا مثال واضح عن كيف تجعلك مناقشة وفهم نظري لظاهرة ما، والموقف الذي تأخذه منها، قادرا على البناء أم عاجزا عنه. لا يمكنك البناء بموقف خاطئ، حتى لو كنت قادرا مؤقتا على جمع الدعم. لأنه عاجلا أم آجلا ستظهر الحقيقة.
نرى وضعا مماثلا في تونس، حيث عادت الآن الاحتجاجات الكبيرة وموجات الإضراب إلى السطح. في نهاية العام الماضي كانت هناك سلسلة من الإضرابات المحلية والجهوية، مع إضراب عام تمت الدعوة له في منتصف شهر دجنبر، لكنه ألغي في اللحظة الأخيرة من قبل قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل. صدر قرار إلغاء الإضراب بهامش أصوات صغير جدا في اللجنة التنفيذية الوطنية للاتحاد. هناك في الواقع جناح يساري قوي داخل الاتحاد. لو لم يكن قرار الإلغاء هذا لكان هناك إضراب عام جماهيري كان يمكنه أن يسقط الحكومة الأصولية. [ومنذ ذلك الحين شهدنا حركة جماهيرية قوية، بما في ذلك الإضراب العام، بعد اغتيال زعيم المعارضة شكري بلعيد. حيث خرج آلاف إلى الشوارع، وهاجموا مكاتب حزب النهضة الحاكم، الذي اعتبروه مسؤولا عن عملية الاغتيال].
سواء في تونس أو مصر كشفت الحكومة الإسلامية بالفعل عن طبيعتها الحقيقية، ونتيجة لذلك بدأت الجماهير تتجذر أكثر فأكثر. من يمكنه أن يشكك في أنه إذا كانت هناك قوة اشتراكية حقيقية، كانت ستشهد نموا سريعا في ظل هذه الظروف؟ وبدلا من "الردة الإسلامية الرجعية" التي تسيطر على المشهد، لدينا جماهير تتعلم من تجربتها وتنتقل إلى مستوى أعلى في تطورها. هذا هو الحال في كل من مصر وتونس.
ليبيا
لقد أثارت الثورتان المصرية والتونسية سيرورة واسعة ذهبت إلى أبعد من حدود هذين البلدين. وقد رأينا كيف قامت الجماهير في ليبيا بتتبع خطوات جيرانها وانخرطت في طريق الثورة. لكن ليبيا تختلف كثيرا عن جيرانها. لديها تاريخ مختلف، ونظام مختلف، وطبقة عاملة أضعف بكثير، الخ. لذلك حدث أن العملية كانت أكثر تشوها، وليست واضحة كما هو الحال في مصر وتونس.
إن ما يسمى بعملية التحرير - التي تحققت بمساعدة من القنابل الإمبريالية- أدت بحكم الأمر الواقع إلى تفكك البلد. ظهرت ميليشيات مختلفة وأمراء حرب محليين، والبرجوازية الدولية تشعر بقلق عميق حول كيفية تطور الأمور. فبدلا من حصولها على نظام لطيف وودي ومستقر وموال للغرب، حصلت على حالة من الفوضى، مع الانقسام بين طرابلس وبنغازي، وسيطرة العديد من أمراء الحرب المحليين على أجزاء مختلفة من البلاد.
لقد فوجئ القذافي حقا عندما هوجم من قبل الغرب. كرر لهم عدة مرات " أنا صديقكم!"، وأعرب عن صدمته لتعرضه للهجوم من البلدان الامبريالية التي كان يقوم معها بصفقات مربحة حتى وقت قريب جدا. كان قد تعاون مع الغرب في "الحرب على الإرهاب"، وكان يلعب دور شرطي الساحل الشمال إفريقي حيث يمنع تدفق موجة اليائسين الذين يحاولون الهجرة بطريقة غير شرعية إلى أوروبا. إلا أن الإمبرياليين، وخاصة الفرنسيون، رأوا في ليبيا فرصة للتدخل في مسار الثورة العربية، ووقف العملية برمتها ودفعها في اتجاه رجعي.
إنهم الآن يواجهون وضعا مضطربا للغاية، امتد إلى مالي، ويهدد بالوصول إلى ما هو أبعد من ذلك. صحيح أن تنظيم القاعدة قد وجد لنفسه ملجئا وصار يتدخل في الأحداث، لكنه سيكون من قبيل المبالغة تركيز كل الاهتمام على عناصر تنظيم القاعدة. إنهم موجودون هناك، بطبيعة الحال، لكن هذا ليس كل ما في الأمر. لقد بنى القذافي شبكة معقدة من التحالفات القبلية، وعمل على شراء من يسمون بقادة القبائل، ودفع بعضهم ضد بعض، الخ. لكن الآن ودون القوة المركزية للقذافي، كل هذا هو على وشك الانهيار، والبلاد مهددة بالتفكك.
ومع ذلك، ففي ليبيا أيضا، وكما هو الحال في مصر وتونس المجاورتان، هناك تيار قوي معاد للأصوليين. وعلى سبيل المثال فبعد مقتل السفير الأمريكي في بنغازي، هاجم الآلاف من الليبيين مقرات الميليشيات السلفية وأحرقوها، وقتلوا عددا منهم، وطالبوا بحل تنظيماتهم، ونزع سلاحهم، الخ.
الصراع في مالي
إن ما حققه الإمبرياليون من خلال تفجير البلد هو زعزعة استقرار ليبيا مما سمح للجماعات الإسلامية بالعمل هناك، وقد ارتبط هذا بالنزاع الداخلي في مالي، الذي هو من بقايا الحقبة الاستعمارية. إن حدود مالي مصطنعة؛ إنها تقطع أوصال مجتمعات، كما تجمع قسريا بين شعوب تتكلم لغات مختلفة ولها ديانات مختلفة. وقد خلق هذا وضعا قوميا معقدا، عمل الإسلاميون على استغلاله. إن الوضع يخرج أكثر فأكثر عن نطاق سيطرة الامبريالية- وهي تتعثر من خطأ إلى آخر.
كان الفرنسيون هم الأكثر حماسا في الدعوة إلى التدخل العسكري في ليبيا. لكنهم لم يحسبوا ما سيكون له من آثار في مالي، وها هم الآن مضطرون للتدخل هناك أيضا.
مالي في الواقع بلد دمرته الحرب الأهلية لأكثر من عام. لدى شعب الطوارق تاريخ من النضالات من أجل التحرر الوطني. على مدى عقود ناضلت الحركة الوطنية لتحرير أزاود ضد السلطة المركزية في باماكو. وفي نهاية عام 2011، تم تشكيل تحالف من ثلاث مجموعات أصولية: تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي؛ أنصار الدين، والحركة من أجل التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا. في أبريل احتل هذا التحالف شمال مالي والمدن الكبرى: كيدال وغاو وتومبوكتو ونيافنك. مكن اتفاق مؤقت وقع بين ميليشيات الطوارق وبين الحكومة المركزية من تحقيق هدنة مؤقتة، لكن سرعان ما تعرض "الرجال الزرق" للاكتساح من قبل الجهاديين في تنظيم القاعدة. التهديد الذي مثله أربعة آلاف من المقاتلين الجهاديين، المسلحين بشكل جيد والأكثر حزما وعدوانية من الجيش المالي، جعل الوضع غير مستقر للغاية ولا يمكن تحمله من وجهة نظر المصالح الفرنسية.
مالي بلد رئيسي في وسط غرب أفريقيا، ويعتبر طريقا هاما للنيجر المورد الرئيسي للاورانيوم لمحطات الطاقة النووية الفرنسية. لذلك، وبعيدا عن الذريعة الرسمية بخصوص التصدي "لصعود الأصولية الإسلامية"، هناك مصالح إستراتيجية واقتصادية هامة على المحك.
تزعم فرنسا أن التدخل العسكري هو من أجل "الدفاع عن الديمقراطية". لكن لا توجد أصلا أي "ديمقراطية" في مالي، ولا حتى من نوع الديمقراطية البرجوازية المحدودة. في مارس 2012 حدث انقلاب أطاح بالحكومة السابقة وأقام ديكتاتورية عسكرية تحت سيطرة القائد أمادو هيا سانوجو، الذي علق العمل بالدستور ومنع الحقوق الديمقراطية، وقام بتعيين الرؤساء وعزلهم. تم تدريب سانوجو في الولايات المتحدة، وبالتالي حصل على درجة من الثقة للسيطرة على مالي. لكنه لم يكن قادرا على وقف تقدم المتمردين. هنا دقت ساعة فرنسا الديمقراطية للتدخل "المنزه عن الأغراض".
والحقيقة هي أنه لا يوجد حل سهل لهذا الوضع، سواء في ليبيا أو مالي. إن الحل الحقيقي الوحيد أمام العمال في مصر وتونس هو الاستيلاء على السلطة. عند ذلك سيجد الوضع في ليبيا حلا سريعا.
لا يمكن للمرء أن يناقش المنظورات داخل الحدود الضيقة لهذا البلد أو ذاك، وخصوصا عندما نتعامل مع دول متخلفة تماما مثل مالي. ستحدد الأحداث في البلدان الرأسمالية المتقدمة، على المدى الطويل، ما يحدث في البلدان الأقل نموا. وبهذا المعنى فان الثورة الأوروبية هي أيضا مفتاح لفهم ما ستؤول إليه الأمور في هذا الوضع. في الواقع، إن العالم كله مترابط. لقد ألهمت الثورة العربية الجماهير الأوروبية والآن ها هي الجماهير الأوروبية تقدم الإلهام والأمل للجماهير العربية.
Translation: Marxy.com