سُجل انتصــار سيريزا كنقطة تحول لا في وضعية اليونان فقط بل في جل أوروبا، وبعد أسبوع من الانتخابات قمنا باستجواب الرفيق إلياس كيروسيس عضو التيار الشيوعي وقيادي شبيبة سيريزا، فها هو ذا يقدم لنا تحليله للانتخـابات ومنظورات حكومة سيريزا.
[على الرغم من أن هذا المقال حُرِّرَ منذ شهر، إلا أن أحداث أيام هذا الشهر أكدت على النقاط الرئيسة التي أثارها]
«فـوز حزب سيريزا كان أكبر من المتوقع، لذا وجب أن ننتظر ونستشرف ما سيحدث، فقيادة حزب سيريزا قامت بطرح برنامج إصلاحات من قبيل رفع الحد الأدنى للأجور وإعادة إدخال اتفاقيات مفاوضات الأجور للقطاع العام وغيرها من التدابير. إلا أن ذلك يقوم على أساس هش لاعتباره أن تمويلات الاتحاد الأوروبي ستستمر في التدفق على اليونان، وهو شيء غير مرجح إن قامت الحكومة بتجميد برنامج التقشف وزيادة الضرائب على الأغنياء لذا فالوضعية الحالية ذات أفق ثوري»، هذا ما قام الرفيق إلياس بشرحه مسطرا على حقيقة وخلفية هذا التحول الثوري والمتمثلة في الأزمة التاريخية التي تشهدها الرأسمالية.
إن الأزمة اليونانية الحالية هي الثانية فقط بعد الكساد الذي أحاط بالولايات المتحدة وكندا في ثلاثينات القرن الماضي، فمنذ البدايات الأولى للأزمة في سنة 2008 انخفض الناتج المحلي الإجمالي لأكثر من 26% ومازال ينخفض بشكل حاد، فالدين العام يمثل عبئا ضخما يستمر في الضغط على الاقتصاد للأسفل فلقد وصل حاليا ل175% من الناتج المحلي الإجمالي وهو ما يستحيل على اليونان سداده، ومع ذلك فالمعضلة لا تحد في الدين العام، ففي أكتوبر بلغ الدين الخاص عتبة 212 مليار يورو وهو ما يعادل 117% من الناتج المحلي الإجمالي وبالرغم من أن أكثر من 200 مليار من الضرائب تدفع للبنوك، فمازالت هاته الأخيرة تقف على حافة الإفلاس والشيء الوحيد الذي يجعلها مستمرة في الوقوف هو الدعم الاقتصادي المستمر الذي يقدمه البنك المركزي الأوروبي.
يشرح إلياس كيف أن الأزمة الاقتصادية هي كارثة اجتماعية بالنسبة للشعب اليوناني فيقول: «إن أربعة ملايين شخص والذين يمثلون تقريبا نصف إجمالي سكان البلاد يعيشون حاليا تحت عتبة الفقر فـ400.000 أسرة لا دخل لها وثلث أطفال البلاد يعانون من سوء التغذية.» لذا قوضت الأزمة الاقتصادية/الاجتماعية الاستقرار السياسي وأدت إلى أزمة سياسية جديدة للبرجوازية اليونانية.
أزمـةُ البرجوازيةِ السياسيةُ:
يفسر إليـاس: «قادت الأزمة والاستنزاف الهائل لثروة الشعب اليوناني إلى غضب عارم على السياسيين والمصرفيين والنظام بكامله، ففي الفترة الأخيرة لم يتجرأ نواب أحزاب من أعضاء الحكومة السابقة (باسوك و الديمقراطية الجديدة) على التجوال في الشارع خوفا من أن يتهجم عليهم، قبل ثلاث سنوات وضعت الحكومة حواجزا أمام مبنى البرلمان خوفا من المتظاهرين الذين أرادوا اقتحامه، أما الآن فلقد أزال حزب سيريزا هذه الحواجز.»
حصل حزب باسوك قبل خمس سنوات على 48% من الأصوات أما في الخامس والعشرين من يناير فقد حصلوا على نسبة 4.8%، لذا أصبح هذا الحزب قريبا من أن يفنى سياسيا نتيجة إدارته لبرامج التقشف للترويكا.
أما فيما يخص "الديمقراطية الجديدة" حزب البرجوازية التقليدي، الذي شارك في آخر حكومة ائتلافية مع باسوك فلقد فقد نصف مقاعده في البرلمـان، وقبل بضع سنين تلقيا هذان الحزبان على أكثر من 90% من الأصوات، أما في الخامس والعشرين من يناير تمكنوا من الحصول على مجموع قدره 32% فقط، أي أقل مما تحصل عليه سيريزا لوحده.
أما العمال اليونانيون فانخرطوا في صيرورة طويلة من الصراع والحراك الجماهيري، ولكنهم يعانون من الهزائم في كل مرة نتيجة إلجام وإيقاف قادة الحركة العمالية لهم، لذا قاموا بتركيز نظرهم على الجبهة السياسية، مما يعني أن حزب سيريزا قام بعمل جيد في استطلاعات الرأي عام 2012، ومنذ ذلك الحين اعتبر سيريزا أقصر طريق لإزاحة الحكومة الائتلافية، وتحقق هذا الأمل بتصدر حزب سيريزا للانتخابات بنسبة 36%.
سيريزا ضمن حكومة ائتلافية:
يقول إليـاس: «مثلت الانتخابات صدمة بالنسبة للبرجوازية اليونانية،كان هدف الرأسمـاليين هو تجنب الأغلبية المطلقة لسيريزا والتي كانوا يرونها ـأسوء نتيجة محتملة، لذا كان تحالف العديد من الأحزاب الصغيرة أنجع حل من وجهة نظرهم، فلقد كانت نتائج الانتخابات ثاني أسوء سيناريو محتمل من زاوية نظرهم.»
وبالرغم من أن أكبر حزب في البرلمان اليوناني يتلقى 50 مقعدا إضافيا إلا أن سيريزا أفاته الحصول على الأغلبية المطلقة، مما يعني أنه ليس بمقدوره تسيير الحكومة لوحده، في ليلة الانتخابات أعلن سيريزا ائتلافه مع حزب برجوازي صغير هو "اليونانيون المستقلون" الذين قبلوا برنامج سيريزا "سالونيك" الذي يحوي سلسلة من وعود الإصلاح الملموسة، كما أنهم يتفقون مع سيريزا في معارضة مذكرة الاتحاد الأوروبي "التي تنص على التقشف"،يقول إلياس: «لم يمثل التحالف مع المستقلين اليونان مفاجأة كبرى» ويسترسل قائلا: «لم يكن هناك قرار رسمي داخلي في الحزب يدعو للائتلاف، ولكن القيادة أشارت إلى هذا الاحتمـال قبل الانتخابات، وبالرغم من أن العديد من اليساريين شكوا بالأمر إلا أن أغلب العمال قبلوا بالتحالف من حيث هو ضرورة، لأنه بدا كالسبيل الوحيد بالإضافة لقبول المستقلين اليونان ببرنامج سيريزا.»
عـارض التيار الشيوعي من داخل سيريزا الائتلاف مع المستقلين اليونان، يوضح إلياس بأن التحالف مع المستقلين اليونان بما هو حزب برجوازي قنبلة موقوتة، فبمجرد انقشاع بهجة سيريزا وتسيبراس سيتيح الائتلاف مطالبة المستقلين اليونان ب"سياسات اقتصادية رشيدة" بمعنى الاقتطاعات والتقشف .
وبدلا من ذلك جادل التيار الشيوعي من أجل ائتلاف مع الحـزب الشيوعي اليوناني (KKE)، الذي حصل على نسبة 5.5% من الأصوات فمعاً سيشكلان أغلبية في البرلمــان، وجب على سيريزا وضع الحزب الشيوعي تحت أكبر قدر من الضغط على الأقل من أجل دعم الحكومة بينما هو في الخارج، غير أن قيادة الشيوعي اليوناني جد عصبوية ورفضت أي تعـاون، ومن جانبها كانت قيادة سيريزا تقوم بمحاولة رمزية للضغط عليهم بينما كان يُعد التحالف مع المستقلين اليونان مسبقا.
الإصلاحـــات:
بعد الانتخـابات مباشرة، أعلن تسيبراس ووزرائه عن مجموعة من الإصلاحات الإيجابية فأشار بالتالي إلى أن سيريزا يسعى لتحقيق برنامجه الانتخــابي.
ومن بين الإصلاحات التي أعلنت الرفع من الحد الأدنى للأجور من 600 يورو إلى 750 يورو وإعادة إدخال حقوق المفاوضات الجمــاعية وإلغاء قوانين اتحاد مناهضة النقابات العمالية (التي أدخلها المجلس العسكري واستخدمها حزب الديمقراطية الجديدة عدة مرات إبان وجود في السلطة، وإلى جانب هذه التدابير أعلنت الحكومة إعادة توظيف عمال القطاع العام الذين تم تسريحهم في الأشهر الماضية، ورفع المعاشات ووقف خوصصة ميناء بيراوس بالإضافة إلى محو ديون سكـان الطبقات الفقيرة.
لقد قادت هذه الإصلاحات إلى اشتعال الحماس في صفوف العمـال، فهناك شعور في صفوف العمال العاديين أنه لأول مرة منذ عقود حكومة ستطبق ما وعدت به والمستعدة للوقوف ضد الترويكـا والاتحاد الأوروبي، وقد أظهر استطلاع رأي حديث أن 95% من السكان يدعمون مجـابهة الحكومة للترويكـا.
وليس بينـا ما إذا كانت الوعود ستنفذ أم لا، الرأسماليون اليونان مازالوا في حـالة صدمة فلقد ظنوا بأن سيريزا سيقضي حينا من الوقت مناقشا الاتحـاد الأوربي ليصدروا في آخر المطاف موقفا "مسؤولا". وردت الأسواق بعنف وحدة في أسبوع ما قبل الانتخابات التي تزامنت مع انخفاض سوق الأسهم بنسبة 14% الذي أدى لتهاوي 40% من أسهم البنوك، وشرعت وسائل الإعلام فورا في شن حملة تهيب بها بلا مسؤولية الحكومة وسيرها في تدمير البلاد. فأجبر بعض الوزراء على التنازل عن وعودهم، وإلى حين انتهاء كل هذا مازال الغموض مخيما. ولكن هناك شيء واحد أكد عليه إليـاس هو: "تعرض سيريزا لضغط هائل من جهة الرأسماليين والعمـال."
لا سبيل للمنـاورة:
تتمثل مشكلة سيريزا كما وضح إليـاس أعلاه، في بناء برنامجها على افتراض مفاده استمرارية الاتحاد الأوروبي في التمويل، لذا يوضح إلياس موقف التيار الشيوعي في سيريزا فيقول: «نحن ندعم بقوة إصلاحات برنامج سالونيك التي من شأنها رفع مستويات العيش، غير أن مشكلة البرنامج الرئيسة قيامه على فكرة إنقاذ الاتحاد الأوروبي للبلاد دون استمراره في طلب أموال التقشف، وهذا ضرب من الطوباوية ستظهره الأسابيع المقبلة.»
الاقتصاد اليوناني في وضعية مزرية، ففي مارس/آذار ستضطر الدولة اليونانية لدفع 4.6مليار أورو من الدين وفي الصيف ستدفع 8.8مليار أخرى، وطَوال سنة 2015 سيكون على اليونان دفع 22 مليار أورو لمقرضيها وهو مبلغ لا تملكه الدولة اليونانية، فإن هي عقدت عقدا مع الاتحاد الأوروبي كانت على شفا الإفلاس، فالبنوك اليونانية مستمرةٌ فقط لأنها قائمة على ما يضخه البنك المركزي الأوروبي من أموال، وبمجرد كبس الاتحاد الأوروبي للزر يموت الاقتصاد اليوناني.
و به لا يبقى للحكومة مساحة كبيرة للمناورة، فحتى لو قام بعض من رأسماليي أوروبا بتنازلات معينة لتأجيل المواجهة مع المشاكل، فمازالت لديهم بعض الاعتبارات التي تحول دون سلوكهم هذا الطريق، فالمستشارة الألمـانية أنجيلا ميركل تحت ضغط بعض المنظمات من قبيل الحزب اليميني الجديد (Alternativ für Deutschland) والذي يطالب بموقف صارم والمستعد لاستغلال الموقف في حالة قامت ميركل بتنازلات لليونان، والأهم من ذلك هو ضعف الحكومة اليمينية بمدريد والخائفة من أي تنازلات لتسيبراس بحيث سيؤدي ذلك لانكشاف ضعفها ومن ثم سقوطها، الأمر الذي يفسح المجال لوصول حزب بوديموس ( Podemos) اليساري إلى السلطة، إن ميركل والاتحاد الأوروبي لم يقبلا بالدفع لصالح إصلاحات تسيبراس الاجتماعية.
من ثم ما الذي سيفعلانه؟ فطرد اليونان من الاتحاد الأوروبي ليس خيارا أول بالنسبة لرأسماليي أوروبا. ربما وافقا على إعطاء تسيبراس بعض التنازلات الصغيرة، لكنهم ليسا على استعداد للقبول بما يعلنه تسيبراس حاليا. لذا من المرجح أن ينذرا تسيبراس فإما التخلي عما وعد به لحد الآن وإما التخلي عن الإتحاد الأوروبي غير أن تسيبراس لا يستطيع الخضوع تماما، يعلل إلياس ذلك بأن خيانة تسيبراس للبرنامج قد تؤدي لانشقاق في الحزب وانهيار محتمل للحكومة "مما يعني أن أي تسوية ستقع تحت ضغط هائل وستؤدي إلى تعميق الأزمة".
القوى الطبقية من وراء سيريزا:
عكست نتائج الانتخابات الانقسامات الطبقية في اليونان، أكثر من 50% من المعطلين صوتوا لسيريزا وفي أحياء الطبقة العاملة في جميع المدن الكبرى ربح أكثر من 40% من الأصوات، بينما حصل حزب الديمقراطية الجديدة على 15-20% أو أقل، وفي الأحياء الغنية ربح الديمقراطية الجديدة أكثر من 55% بينما حصّل سيريزا أقل من 15%، وفي أوساط الشباب المتراوح مابين 18-37 سنة ربح سيريزا 41.1%من الأصوات ، وكانت الفئة العمرية الوحيدة التي هزم فيها الديمقراطية الجديدة سيريزا هي الأكثر تقدما في السن، فبين من هم فوق 65 سنة حصلوا على 37% من الأصوات.
وباقتراب تسيبراس للسلطة صار هو وقادة سيريزا يعدلون موقفهـم، ففي فترة الانتخابات جاب العديد من قادة سيريزا أنحاء أوروبا والتقوا بأناس من قبيل المصرفيين البارزين والمجزوعين في لندن وحاولوا تهدئتهم، لكن وكما يفسر إلياس «الرأسماليون لا يخشون تسيبراس بل يخشون القوى من وراءه، فهم لا يملكون مع سيريزا ذات القبضة التي شدوا بها باسوك لسنوات عديدة، إنهم يهابون مما يمكن أن تفعله الطبقة العاملة في المستقبل».
فصل جديد من الثورة اليونانية:
لم يكن قبل الانتخابات حماس كثير وساد نوع من الشك بين العمال الذين انتخبوا حكومة تلو الحكومة كلها أخلت بوعدها وأدخلت سياسة التقشف، وخشي كثير من الناس حدوث الأمر عينه مع الحكومة الجديدة، ومع ذلك يوجد الآن شعور بالأمل.
والحقيقة أن هناك تناقضا جوهريا مابين الديمقراطية والرأسمالية، فلقد عبر الشعب اليوناني بوضوح عن إراداته من خلال الوسائل الديمقراطية، وكان طلبهم واضحا ألا وهو إنهـاء التقشف !!، ولكن مباشرة بعد الانتخابات هرع بيروقراطيّو الاتحاد الأوروبي إلى اليونان لإخبار الحكومة الجديدة بضرورة التخلي عن وعودها. وبدأ الرأسماليون بسحب أموالهم وبدأت الأسهم بالتهاوي، فهم يحاولون من خلال إجراءاتهم الغير ديمقراطية إحلال أجنداتهم.
ولكن إلياس يشرح كيفية تحول الوضعية جوهريا بعد الانتخابات فيقول:
«لقد شهدنا تحولا كاملا في وعي العمال والشباب، فهم يرون في سيريزا حكومتهم الخاصة، هذا الشعور الذي تعزز بإعلان أول إصلاح ومجابهة الترويكـا، بعد ست سنوات من التقشف يستعد العمال لنيل ما سلب منهم، العمال الذين لم يتلقوا أجورهم لمدة 3 إلى 4 أشهر سيطالبون بدفع أجورهم، أولئك الذين انتُقص من أجورهم سيطالبون برفعها، لذا من المحتمل أن نشهد موجة من الإضرابات في الأشهر القادمة، من لدن الرأسماليين يتم الضغط حاليا، الأمر الذي يمكن أن يدفع العمال للتحرك دفاعا عن حكومتهم كما بإمكانه بالمقابل فتح مرحلة ثـورية».
كان فوز حزب سيريزا إلهـاما كبيرا للعمال والشباب في ربوع أوروبا والراغبين في إنهاء التقشف وأزمة الرأسمالية، في إسبانيا دعا حزب بوديموس لمظـاهرة في الشوارع شارك في مئات الآلاف من الناس بعد أسبوع واحد من الانتخابات اليونانية، فالعمال الأوربيون والشباب يبحثون عن بديل للأزمة الرأسمالية. إن مشكل سيريزا الرئيس هو انتفاء الحل في ظل الرأسمالية وسبيل العمال الأوربيين واليونان الوحيد للمضي قدما هو الثورة الاشتراكية التي ستنفي نظام الرأسمالية الفاسد.