يوم 14 فبراير، وبمناسبة مرور شهر على فرار الدكتاتور بن علي، كتب الرفيق خورخي مارتن، العضو القيادي في التيار الماركسي الأممي، هذا المقال. ونظرا لأهميته نعمل على نشر ترجمته العربية لقراءنا.
بحلول اليوم (14 فبراير 2011) يكون قد مر شهر على الإطاحة الثورية بالدكتاتور الممقوت بن علي، في تونس يوم 14 يناير. وقد كان الشهر الماضي شهرا لصراع مستمر بين الطبقة الحاكمة، التي تريد العودة إلى الحياة البرجوازية العادية، وبين العمال والشباب الذين أنجزوا الثورة والذين يناضلون من اجل منع النظام القديم من محاولة العودة.
لمدة أسبوعين تقريبا، بعد 14 يناير، شهدت البلاد سلسلة من الإضرابات الجهوية العامة والمظاهرات الحاشدة ضد حكومة الوحدة الوطنية الجديدة برئاسة الغنوشي. جميع المعينين على رأس الوزارات الرئيسية (الدفاع والخارجية، ورئاسة الوزراء، والمالية، والداخلية، الخ) في حكومة الوحدة الوطنية كانوا وزراء في ظل بن علي، والعديد منهم كان يحتل الموقع ذاته.
أجبر الضغط من تحت القيادة الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل على الانسحاب من هذه الحكومة، وقد لعبت الهياكل المحلية للاتحاد دورا رئيسيا في التعبئة ضدها. سار الشباب الثوري من الجهات نحو تونس العاصمة يوم 23 يناير، وذلك بهدف تسريع الإطاحة بحكومة الغنوشي. وبمجرد ما وصلوا إلى العاصمة نظموا مسيرة إلى مقر رئاسة الوزراء في القصبة حيث أقاموا مخيم اعتصام تمكن بشكل فعال من منع حكومة الوحدة الوطنية من العمل في مكاتبها.
بلغت موجة الإضرابات الجهوية ذروتها مع الإضراب التاريخي في صفاقس، يوم 26 يناير، عندما خرج 100.000 متظاهر/ة إلى شوارع هذه المدينة الصناعية، وكذلك المسيرة الغير مسبوقة التي ضمت 20.000 متظاهر/ة في سيدي بوزيد، يوم 27 يناير. وفي نفس اليوم تم الإعلان عن تعديل وزاري طال انتظاره، والذي أقال من حكومة الوحدة الوطنية معظم الوزراء الذين كانوا أعضاء في حزب بن علي، التجمع الدستوري الديمقراطي، لكنه أبقى على رئيس الوزراء الغنوشي والرئيس، اللذان يشكلان جزء من نظام بن علي.
بيد أنه كان يجب على هذه الحكومة "الجديدة" أن تنال الموافقة من قبل المجلس الإداري للاتحاد العام التونسي للشغل، أو أنها لم تكن لتستمر حتى 24 ساعة. وعلى الرغم من أن غالبية الأعضاء صوتوا لصالح الحكومة، فإن الاتحادات المحلية والجهوية التي تمثل أغلبية أعضاء الاتحاد صوتت ضد الحكومة ورفضت الاعتراف بها. وهي نقابة التعليم الأساسي والثانوي، واتحاد عمال البريد، والصحة، والاتحاد الجهوي لصفاقس، والاتحاد الجهوي لبنزرت والاتحاد الجهوي لجندوبة.
لكن رغم ذلك وبسبب عدم تقديم أي أحد لطرح قيادي بديل، مكنت الموافقة الرسمية من جانب قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل حكومة الغنوشي من هامش معين للمناورة، ومن قدر من الشرعية التي لم تكن تمتلكها من قبل. وقد سارعت إلى استعمال تلك الشرعية، يوم 28 يناير، بإطلاقها لحملة قمع وحشي ضد الشباب المعتصم في ساحة القصبة، الذين تمت تفرقتهم وإعادتهم إلى مناطقهم الأصلية.
إن الثورة هي حرب بين الطبقات، وكما هو الحال بالنسبة للحرب بين الأمم تشكل القيادة أمرا حاسما. وحالما يتم فقدان الزخم، يصير من الصعب استعادته مرة أخرى. لمدة أسبوعين، خلال الفترة ما بين 14 يناير و27 يناير، ظلت حكومة الوحدة الوطنية معلقة في الهواء. كان في مستطاع العمال والشباب الثوري آنذاك حسم السلطة. وقد تجلى هذا بوضوح في 22 و23 يناير عندما سار المتظاهرون في اتجاه مقر رئيس الوزراء وكل ما استطاع الضابط المسؤول في الجيش، الذي يحرس المبنى، فعله هو أن طلب منهم بأدب عدم اقتحام المبنى. وكان ضباط الشرطة يتظاهرون في جميع أنحاء البلاد مطالبين بحقهم في تشكيل نقابة. لم تكن هناك قوة قادرة على منع الجماهير الثورية من الاستيلاء على السلطة.
في تلك اللحظة، وفي سياق الإضرابات العامة والمظاهرات الحاشدة في الجهات، كان يمكن لمجلس ثوري بديل، يستند إلى المجالس الشعبية المحلية والجهوية والهياكل المحلية والجهوية للنقابات، أن يحسم السلطة، لكن لم يكن هناك في الواقع أحد للقيام بهذا.
صحيح أن جبهة 14 يناير، وهي ائتلاف يهيمن عليه حزب العمال الشيوعي التونسي المحضور سابقا، كانت حازمة في معارضة حكومة الوحدة الوطنية ودعت إلى تعزيز اللجان على جميع المستويات. وفى بيان أصدرته يوم 28 يناير، بعد إعلان التشكيلة الجديدة للحكومة والتصويت عليها في المجلس الإداري للاتحاد العام التونسي للشغل، دعت حتى إلى مؤتمر وطني للدفاع عن الثورة لانتخاب حكومة مؤقتة. ولكنها لم تذهب بعيدا إلى حد الدعوة الفعلية لعقد مؤتمر وطني للجان، وهو ما كان ينبغي القيام به بالاستفادة من وجود الشباب الثوري القادم من الجهات في تونس العاصمة. كان هذا ممكنا قبل 27 يناير، لكنه صار أصعب بعد تمكن حكومة الوحدة الوطنية من اكتساب شرعيتها من الاتحاد العام التونسي للشغل.
وبالرغم من العديد من الفرص الضائعة، فإن هذا لا يعني أن المبادرة الثورية للجماهير قد تراجعت تماما وأن حكومة الغنوشي قد تمكنت من السيطرة على الوضع. بل على العكس من ذلك، لقد أطلقت الإطاحة ببن علي العنان لكل الإحباطات المكبوتة بين صفوف كل شرائح المجتمع. لقد غيرت الثورة نظرتهم فعادوا يفكرون: "نحن لم نعد نخاف بعد الآن"، وصارت مجموعات من العمال والشباب في جميع أنحاء البلاد تتخذ إجراءات مباشرة، بدون احترام لأية سلطة )والتي ليست سوى بقايا النظام القديم). وهناك حديث حتى عن رغبة أئمة المساجد في تشكيل نقابة لهم!
في الشركات المملوكة للدولة والوزارات والإدارات، تنظم العمال في لجان أو من خلال النقابة وعملوا على طرد المدراء القدامى، وفي بعض الحالات رفضوا قبول المدراء الجدد المعينين من قبل الحكومة التي اضطرت لتغييرهم مرة أخرى. نظم الموظفون في وزارة الخارجية إضرابا واعتصامات حتى توصلوا لإقالة الوزير أحمد ونيس، في 13 فبراير. من الواضح أن هذا ليس وضعا طبيعيا بالنسبة للطبقة الحاكمة عندما تعين الحكومة وزيرا فيقوم العمال بطرده!
في كثير من وسائل الإعلام والصحف والتلفزيون والإذاعة الرسمية، انتظم العمال وتمكنوا من طرد المدراء وفرض درجات متفاوتة من الرقابة على الخط التحريري. وفي أحد المرات طردوا المدير المعين حديثا لأنه لم تتم استشارتهم عند تعيينه.
يوم 3 فبراير، قررت الحكومة تعيين ولاة جدد. وقد كانت هذه خطوة هامة أخرى نحو العودة إلى الوضع البرجوازي الطبيعي. كانت الإطاحة ببن علي تعني الانهيار الكامل لسلطة الدولة في كثير من البلدات وحتى في بعض الجهات. وقد تكلفت اللجان والمجالس الثورية بمهمة إدارة الحياة العامة. لكن من وجهة نظر النخبة الحاكمة كان من المهم إعادة تأكيد سلطة الدولة الرأسمالية عليها.
وقد كشفت عن وجهها الحقيقي، إذ كان 19 واليا من أصل 24 "واليا جديدا" ينتمون إلى التجمع الدستوري الديمقراطي والنظام القديم. كان هذا استفزازا كبيرا وأثار موجة جديدة من المظاهرات والإضرابات في المناطق، وأدى في بعض الحالات إلى طرد الولاة "الجدد" (كما حدث في قابس وقبلي وزغوان ونابل وباجة)، الذين كانوا غالبا في حماية الجيش. وفي الرديف (في الحوض المنجمي بقفصة) شل إضراب عام، على خلفية مجموعة من المطالب السياسية والاقتصادية، البلدة (فيديو). أما في القصرين والكاف وقبلي فقد أدت المواجهات مع الشرطة، وفي بعض الحالات مع الجيش، إلى مقتل عدة متظاهرين، كانوا أول الضحايا الذين قتلوا على يد حكومة الغنوشي. وفي زغوان طرد الشعب الثائر المجلس المحلي (فيديو). وفي جميع هذه المدن لجان الدفاع عن الثورة هي التي تسيطر بشكل فعال على النظام العام.
ومرة أخرى، اضطرت الحكومة لسحب قرارها. وفي يوم 08 فبراير أعلنت أنه سيتم تعيين مجموعة جديدة من الولاة "بالتشاور مع الاتحاد العام التونسي للشغل"! هذا أمر غير مسبوق ويظهر ميزان القوى الحقيقي السائد، حتى اليوم. الحكومة الرسمية تعين الولاة، الذين يتم رفضهم ثم طردهم من قبل الشعب، فتضطر الحكومة إلى أن تذهب إلى النقابات العمالية وتتفاوض معها حول تعيين ولاة مقبولين جدد. من الذي يحكم البلاد إذن؟ هل حكومة الغنوشي أو الشعب الثوري؟ من الواضح أنه ما تزال هناك عناصر لازدواجية السلطة موجودة في تونس.
كما اضطرت الحكومة أيضا إلى إصدار مرسوم بحل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي يوم 07 فبراير، وهو أحد مطالب الشعب، في محاولة أخرى لتهدئة الجماهير. وفي الوقت نفسه، وفي محاولة لتثبيت شرعيته، طلب الغنوشي من البرلمان السماح له بأن يحكم بواسطة المراسيم. وهذا استفزاز آخر، لأنه يعني أن البرلمان الذي أعطى الغنوشي صلاحياته هو برلمان بن علي، ويتألف في أغلبه من نواب حزب التجمع الدستوري الديمقراطي (الحزب الذي تم حله للتو!).
من الواضح أنه في الوقت الذي تتخذ فيه حكومة الغنوشي بعض الخطوات لترسيخ سلطتها، فإن الوضع ما يزال متقلبا باستمرار. كل المظالم الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى اندلاع الحركة الثورية ما تزال موجودة، ولا يمكن حلها في ظل الرأسمالية. وقد حذر دبلوماسي أجنبي قائلا: "إن الشعب عبر عن نضج كبير، لكن يمكنه أن ينزل إلى الشوارع مرة أخرى".
وقد لخص مقال لوكالة فرانس برس باقتدار حالة الغليان الثوري التي ما تزال موجودة في تونس: "من الشمال إلى الجنوب، صارت البلاد خلال الأسبوعين الماضيين في مظاهرة دائمة: إضرابات مفاجئة، توقفات عشوائية عن العمل، مظاهرات يومية من قبل العمال والعاطلين الذي يرفعون أصواتهم بمطالب أخرست لأكثر من ربع قرن. وكل يوم يبث التلفزيون الوطني صورا من الجهات لصرخات الغضب والبؤس والفاقة. "
لا يمكن للحكومة البقاء في السلطة إلا من خلال الاعتماد على قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل. وقد أعلنت لتوها "مفاوضات وطنية بشأن طائفة واسعة من القضايا الاجتماعية". وحذر القيادي في الاتحاد العام التونسي للشغل، عبيد البريكي، أن هذه المفاوضات تصب في مصلحة الحكومة وإلا فإنها ستواجه خطر "انفجار اجتماعي". إن ما تحتاجه الحكومة حقا هو أن يقوم الاتحاد العام التونسي للشغل بالتحكم في تنامي موجة الإضرابات. وسيكون زعماء الاتحاد العام التونسي للشغل، برئاسة عبد السلام جراد (الذي كان أحد المؤيدين المخلصين للرئيس بن علي حتى اللحظة الأخيرة) سعداء جدا لأداء ذلك الدور، لو استطاعوا. ظهر جراد على شاشة التلفزيون الوطني يسأل أعضاء نقابته بالتحلي بالصبر، و"تأجيل" مطالبهم، وقبل كل شيء "تنسيق جميع خطواتهم مع القيادة الوطنية". في واقع الأمر لا تقود القيادة الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل هذه الحركة، ولم تكن تقودها أبدا. وقد اعترف البريكي بأنهم لا "ينسقون أو ينظمون كل هذه الإضرابات... وقد تم تجاوز الاتحاد العام التونسي للشغل من قبل هذه الحركات الاجتماعية".
قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل نفسها تعرضت للمسائلة من طرف مظاهرات منتظمة، أمام المقر المركزي في تونس العاصمة، تطالب بالديمقراطية في الاتحاد وإسقاط جراد والمتواطئين معه بسبب تعاونه مع بن علي. وفي واحدة من هذه المظاهرات قال جيلالي الهمامي، الأمين العام لعمال البريد: "يجب أن يرحل جميع المتورطين في التعاون الطبقي مع النظام القديم، الذين باعوا دماء الشهداء. إننا نطالب بديمقراطية نقابية حقيقية ونقابة كفاحية في خدمة الطبقة العاملة. لن نسمح لقوى الثورة المضادة بسرقة الثورة ".
قارن معلق في إحدى الصحف البرجوازية الوضع الحالي في تونس بما كان يحدث في ظل الجبهة الشعبية الفرنسية وموجة الإضرابات في فرنسا سنة 1936. وتساءل: "من يوجد في السلطة؟". وكان استنتاجه أن تونس تحتاج إلى موريس توريز خاص بها، أي الزعيم الستاليني الفرنسي للحزب الشيوعي الفرنسي الذي "كانت لديه الشجاعة لوضع حد لإضرابات". مشكلة الطبقة السائدة هي أن توريز التونسي في الحزب الشيوعي التونسي السابق، حزب التجديد، قد فقد مصداقيته بشكل تام بسبب تعاونه مع بن علي. إنهم في الواقع جزء من حكومة الغنوشي وكانوا كذلك من البداية. ليس أمثال توريز مفيدين للطبقة السائدة إلا إذا كانوا قادرين فعلا على الحفاظ على الجماهير العاملة تحت السيطرة. ومن الواضح أن هذا ليس هو الحال في تونس.
بعد شهر على الإطاحة الثورية ببن علي، ليست الثورة التونسية سوى في بدايتها. والشيء الوحيد المفقود هو قيادة ثورية تمتلك فهما واضحا للمهام القادمة. لقد أظهر العمال والشباب قدرا كبيرا من الشجاعة وقدموا ما يقرب من 300 من خيرة ممثليهم في سبيل قضية التحويل الاجتماعي والسياسي الجذري للمجتمع. ويجب ألا تذهب جميع هذه التضحيات سدى. سوف يكون للسيرورة فترات صعود وهبوط، لكن لا يمكن للتناقضات الأساسية التي أدت إلى اندلاع هذه الثورة أن تجد حلها في إطار الرأسمالية. ينبغي للعناصر الأكثر تقدما فهم ذلك والوقوف بحزم على أرضية برنامج السلطة العمالية والاشتراكية الأممية، باعتبارهما السبيل الوحيد لإنجاز مهام الثورة التونسية التي بدأت.
وتلخص كلمة لوالدة أحد شهداء القصرين الوضع إذ تقول: "نحن نراقب الأحداث، لكن إذا لم يتغير شيء حقيقي في حياة الناس هنا - أي لم تتحقق المساواة، ولم تتوفر فرص، ولا مناصب شغل، ولم يتم تضييق الخناق على حزب التجمع الدستوري الديمقراطي- فإننا سنقوم بثورة جديدة".
Translation: Marxy.com