اكتسب القس توماس مالتوس سمعة سيئة في القرن التاسع عشر بصفته مدافعًا متحمسًا عن الفقر وعدم المساواة. كان يؤكد أن الفقراء ليسوا فقراء بسبب الاستغلال الرأسمالي أو الظلم، ولكن ببساطة لأن هناك عددًا كبيرًا جدًا منهم يتنافسون على الموارد المحدودة. واليوم، ما تزال أفكار مالتوس منتشرة بأشكال مختلفة، حتى أنها اكتسبت بعض التأثير في أوساط اليسار. في هذا المقال، يعتمد الرفيق آدم بوث على نقد ماركس وإنجلز لمالتوس لكشف الآثار الضارة والرجعية لهذه الأفكار اليوم.
[Source]
الحضارة الغربية تنهار، بينما تستولي جيوش من المهاجرين على وظائفنا ومنازلنا. الميزانيات الحكومية تئن تحت ثقل جيش من العجائز المرضى، الذين لديهم شهية لا تشبع للرعاية الاجتماعية والرعاية الصحية. والكوكب يحترق لأنه يسكنه عدد كبير جدا من الناس؛ ولأننا نعيش بما يتجاوز إمكانياتنا.
تمثل كل هذه التأكيدات، بشكل أو بآخر، انعكاسا حديثا للأفكار الرجعية التي قال بها القس توماس مالتوس ــرجل دين واقتصادي عاش في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وأصبح اسمه هذه الأيام مرتبطا بالديموغرافيا، وعلى وجه الخصوص، بالنظرية القائلة بأن الاكتظاظ السكاني هو المسؤول عن كل علل وشرور المجتمع.
فالإيديولوجية المالثوسية هي، في نهاية المطاف، الأساس الذي تقوم عليه هجمات اليمين المعادي للأجانب ضد المهاجرين واللاجئين. كما تنتشر، في الوقت نفسه، مزاعم مماثلة من قبل المؤسسة الليبرالية، التي تجعل من كبار السن كبش فداء للأزمات التي تواجه أنظمة الصحة العامة ومعاشات التقاعد. حيث يقال لنا إن “جيل الطفرة السكانية” (جيل الخمسينات والستينات) هم الذين يمنعون، على ما يبدو، جيل الألفية والجيل الحالي من شراء منزل أو العثور على وظيفة لائقة، وليس فوضى الرأسمالية وفوضى السوق.
إلا أن المالتوسية اليوم لا تتكرر إلى حد الغثيان على لسان ممثلي الطبقة السائدة وحدهم، بل، ولسوء الحظ، تشبع بها حتى العديد ممن يطلق عليهم “يساريون”، وتبنوها، بوعي أو بغير وعي، في شكل نظرية “تقليص النمو”، وغيرها من المعتقدات المماثلة السائدة داخل الحركة البيئية.
ومع انتشار مثل هذه الادعاءات والمفاهيم عبر مكونات الطيف السياسي، صار من الأهمية بمكان أن نتسلح، نحن الماركسيون، بفهم صحيح عن المالتوسية، وبرد اشتراكي واضح على هذا الهراء.
بطل الردة الرجعية
تعود سمعة مالتوس -أو بالأحرى سوء سمعته- إلى نظريته حول قوانين السكان والإنتاج، والتي حددها في البداية في نص بعنوان “مقالة حول مبدأ السكان”. نُشرت الطبعة الأولى منه عام 1798، بعد وقت قصير على اندلاع الثورة الفرنسية.
لم يكن التوقيت من قبيل الصدفة. لقد ألهمت الثورة الفرنسية الكتاب الرومانسيين والاشتراكيين الطوباويين في جميع أنحاء أوروبا، ناهيك عن الحركة العمالية الناشئة. وفي بريطانيا، كانت الطبقة السائدة مرعوبة من التأثير الراديكالي الذي خلفته الأحداث التي عرفتها فرنسا، سواء في الداخل أو في المستعمرات. إذ أنه، على سبيل المثال، في نفس العام الذي نُشرت فيه مقالة مالتوس، اندلعت الانتفاضة الايرلندية ضد الحكم البريطاني، بقيادة جمعية الايرلنديين المتحدين، وهي مجموعة جمهورية متأثرة بالمثل الثورية لإخوانهم وأخواتهم الفرنسيين.
بعد أن اندلعت تلك الأحداث، بدأ مفكرون مثل ويليام جودوين في إنجلترا في التكهن بالإمكانات اللامحدودة لمجتمع مستقبلي يعتمد على العلم والعقل، مؤمنين أنه لا توجد حدود للتقدم البشري.
اعتبرت الطبقة السائدة مثل هذه الدعاية خطيرة للغاية. وقد وجدوا في مالتوس بطلا كان على أتم استعداد لخوض معركتهم؛ وجدوا فيه شخصا قدم دحضا نظريا للطوباويين، وقدم دفاعا عن الوضع الراهن المفلس للرأسمالية.
وفي هذا الصدد، كتب مالتوس الطبعة الأولى لمقاله بشكل صريح كرد على غودوين وشركائه. وعلى حد تعبيره هو نفسه، كان يهدف، إلى جانب غيره من حاملي مشعل القوى المحافظة والرجعية، مثل إدموند بيرك، إلى تقديم “حجة قاطعة ضد كمال الجنس البشري”[1].
وباختصار، فقد ذكر مالتوس أنه إذا تُرك البشر لأنفسهم، دون أي حواجز أو قيود مادية، فسوف يتكاثرون بمتوالية هندسية: 1، 2، 4، 8، 16، الخ. لكن قدرتنا على إنتاج الغذاء -زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات- لا يمكن لها، من وجهة نظره، أن تزيد إلا بمتوالية حسابية: 1، 2، 3، 4، 5، الخ.
والنتيجة، وفقا للقس سيئ السمعة، هي أن أعداد البشرية تخضع دائما لـ “ضوابط إيجابية”، مثل الحروب والجوع، والتي تعمل على الحد من النمو السكاني. أي أنه، بعبارة أخرى، يزعم أن الموت والدمار والمرض هي نتائج لرغبة البشر غير المستدامة في التكاثر.
“إن بذور الوجود الموجودة في هذه البقعة من الأرض، مع وفرة من الغذاء، ومساحة شاسعة للتوسع فيها، سوف تملأ ملايين العوالم في غضون بضعة آلاف من السنين. إلا أن الضرورة، ذلك القانون الطبيعي المسيطر على كل شيء، يقيدهم ضمن الحدود المقررة. فيتقلص جنس النباتات، وجنس الحيوانات في ظل هذا القانون المقيد العظيم. والذي لا يمكن للجنس البشري، بأي جهد عقلي، الهروب منه. وتتمثل آثاره بين النباتات والحيوانات، في إهدار البذور والمرض والموت المبكر. بينما تتمثل آثاره بين الناس في انتشار البؤس والرذيلة”[2].
إلقاء اللوم على الفقراء
لقد ذهب القس مالتوس إلى أبعد من مجرد الإشارة إلى أن النمو السكاني لا يمكن أن يكون بلا حدود. فالادعاء بوجود قيود مادية على الحجم الإجمالي للبشرية هو، في نهاية المطاف، حقيقة بديهية. إذ من الواضح أنه لا يمكن لأي نوع أن يستمر في التكاثر بدون إمدادات كافية من مصادر الغذاء والمياه، وما إلى ذلك.
كانت أطروحة مالتوس الأولية في المقام الأول عبارة عن جدل ضد الرومانسيين والطوباويين. إلا أنه في كتاباته اللاحقة، طبق نظرياته على المشاكل السياسية الملحة في ذلك الوقت. وكان في كل مناسبة يستخلص استنتاجات رجعية شرسة، وأبرزها تلك المتعلقة بمسألة الفقر.
رافق الثورة الصناعية في بريطانيا انتشار الفقر المدقع، حيث توافد “العمال الأحرار” من الريف إلى المدن، بينما كانت الرأسمالية تعتصر العمال وتقذف بهم إلى الشوارع.
في الوقت الذي كان فيه مالتوس يكتب مقالته، كان هناك نظام يسمى “قانون الفقراء”. وفر ذلك القانون بعض المساعدات للمتسولين والمشردين. لكن وفي أعقاب الحروب النابليونية، أصاب البلاد الكساد والبطالة الجماعية، وصارت قوانين الفقراء القديمة تعتبر على نحو متزايد غير مستدامة.
بحلول عام 1832، تم إنشاء لجنة ملكية لاقتراح مجموعة جديدة من قوانين الفقراء. وقد تم استخدام حجج مالتوس -التي نشرها هو نفسه بحماس- لدعم الموقف الداعي لاستبدال المساعدات المحلية على مستوى المقاطعات بنظام مركزي من ملاجئ العمل، التي هي مؤسسات عمومية جهنمية توفر أماكن إقامة عارية وحساء هزيلا مقابل أشغال شاقة مرهقة.
اعتبر مالتوس وأتباعه أن قوانين الفقراء السابقة لم تكن تؤدي إلا إلى تفاقم الوضع السيء. وقالوا إن المشكلة الحقيقية هي محدودية الإمدادات الغذائية وغيرها من وسائل العيش. وإن إعادة توزيع الثروة من خلال الأعمال الخيرية لن يحل هذا المسألة، بل سيؤدي، بدلا من ذلك، إلى تشجيع الطبقات الدنيا على التكاثر، مما سيؤدي إلى تفاقم المشكلة.
وبعبارة أخرى فإن الفقراء هم المسؤولون عن كونهم فقراء. وعليهم، مثلهم مثل كل المؤمنين الصالحين، أن يتقبلوا بخشوع نصيبهم في الحياة، وإلا فإن الفوضى والبؤس سوف يسودان.
“إن الرجل الذي يولد في عالم مقتسم أصلا، إذا لم يتمكن من الحصول على مصادر العيش من والديه، اللذين يمتلك ذلك الحق عليهما، وإذا كان المجتمع لا يريد عمله، ليس له الحق في الحصول ولو على لقمة طعام، وفي الواقع، ليس له أن يكون في مكانه الحالي. ففي وليمة الطبيعة العظيمة لا يوجد مكان شاغر له. إنها تطلب منه أن يرحل، وسوف ينفذ بسرعة أوامرها، إذا لم يعمل على كسب تعاطف بعض ضيوفها. لكن إذا نهض هؤلاء الضيوف وأفسحوا له المجال، سوف يظهر على الفور دخلاء آخرون وسيطالبون بنفس الخدمة…
“إن نظام الوليمة وانسجامها يتعرض للاضطراب، وتتحول الوفرة التي كانت سائدة من قبل إلى ندرة؛ وسعادة الضيوف يحطمها مشهد البؤس والاتكالية في كل أنحاء القاعة”[3].
وبدلا من تقديم المساعدة للفقراء، دعا مالتوس وأنصاره إلى معاقبتهم وسجنهم، من أجل منعهم من التكاثر مثل القوارض.
“المشكلة برمتها [بالنسبة للمالتوسيين]”، كما لاحظ إنجلز في دراسته عن حالة الطبقة العاملة في إنجلترا، “ليست في كيفية التكفل بالفائض السكاني، بل في كيفية كبح جماحه قدر الإمكان”[4].
وقال كارل ماركس الشاب: “مع هذه النظرية الإنسانية، يجمع البرلمان الإنجليزي وجهة النظر القائلة بأن الإملاق هو فقر جلبه العمال على أنفسهم، وبالتالي لا ينبغي اعتباره كارثة يجب التصدي لها، بل بالأحرى جريمة يجب قمعها ومعاقبتها»[5].
البشر ضد الحيوانات
بعد صدور كتابات مالتوس وقوانين الفقراء الجديدة عام 1834، قام كارل ماركس وفريدريك إنجلز بتمزيق هذه الحجج الرجعية إربا إربا.
تصدى مؤسسا الاشتراكية العلمية في البداية للبديهيات الأساسية التي قامت عليها فرضية مالتوس.
يقول إنجلز: “لقد وضع مالتوس صيغة يبني عليها نظامه بأكمله. يقال إن عدد السكان يتزايد بمتوالية هندسية، […] والقوة الإنتاجية للأرض بمتوالية حسابية. […] الفرق واضح، ومرعب؛ لكن هل هذا صحيح؟”[6].
ادعى مالتوس أنه أثبت هذه العلاقات بالأدلة التجريبية. وأنه، على وجه الخصوص، تأكد من متواليته الهندسية للزيادة السكانية من خلال دراسة توسع المجتمعات الجديدة في أمريكا الشمالية والمستعمرات البريطانية الأخرى.
ومع ذلك، فإن النسب العددية الدقيقة التي يزعمها مالتوس هي نوع من الإلهاء عن العيوب الرئيسية في نظريته. إذ أن تأكيد القس على محدودية الإنتاج هو، قبل كل شيء، ما يجب أن يكون موضع خلاف.
يستمر إنجلز في نقده لمالتوس قائلا:
“أين ثبت أن إنتاجية الأرض تزداد بمتوالية حسابية؟ مساحة الأرض محدودة، هذا صحيح تماما. لكن قوة العمل التي يتم استخدامها في هذا المجال تتزايد مع زيادة عدد السكان.
“وحتى لو افترضنا أن زيادة الإنتاج المرتبطة بتلك الزيادة في العمل لا تتناسب دائما مع الزيادة الأخيرة، فما يزال هناك عنصر ثالث -لا يعتبره الاقتصاديون مهما أبدا- وهو العلم، والذي لا حدود لتقدمه، أو أنه على الأقل يتطور بنفس سرعة تطور تعداد السكان”[7].
إذن، يقدم مالتوس البشر على أنهم ليسوا أفضل من الحيوانات. فالبشر، من وجهة نظره، يشبهون البكتيريا في طبق بتري: مقدر لهم أن يتكاثروا بشكل كبير حتى يستهلكون جميع الموارد المتاحة لهم في موئلهم.
لكن ماركس وإنجلز أوضحا أننا نحن البشر، وعلى عكس بقية مملكة الحيوان، قادرون على التفكير الواعي والنشط؛ وفهم العالم من حولنا من خلال التفاعل مع محيطنا، والاستفادة من هذه المعرفة من أجل تحويل بيئتنا؛ وتطوير العلوم والتكنولوجيا، من أجل السيطرة على قوى الطبيعة.
اعتقد مالتوس أنه من خلال نظريته عن السكان (أو الاكتظاظ السكاني)، قد اكتشف قانون الطبيعة الأبدي الخالد. لكن تصوره تصور خاطئ للغاية؛ إنه تصور اختزالي سعى بجهد جهيد إلى تقديم ديناميات المجتمع البشري على أنها ليست أكثر من “صراع دارويني من أجل البقاء” (وذلك قبل داروين نفسه بعقود عديدة).
لكن البشر قادرون، من خلال العمل، على تطوير قوى الإنتاج الموجودة تحت تصرفهم. ومن خلال قيامنا بذلك، نحن قادرون على تغيير الظروف التي نعيش فيها، وتحطيم أي حواجز تقف في طريق امتداد جنسنا. وهذا ما يميز البشر عن سائر الكائنات.
يؤكد إنجلز في رائعته غير المكتملة “ديالكتيك الطبيعة” أن “أقصى ما يمكن للحيوان أن يحققه هو الالتقاط”، في حين أن “الإنسان ينتج ويعد وسائل الحياة بالمعنى الأوسع للكلمة، والتي لم تكن الطبيعة لتنتجها لولاه. وهذا يجعل من المستحيل القيام بأي نقل غير مشروط لقوانين الحياة في التجمعات الحيوانية إلى المجتمع البشري”[8].
وبعبارة أخرى، فإن قوانين المجتمع والسكان البشريين تختلف نوعيا عن قوانين البيولوجيا والتطور. للمجتمع البشري قوانينه الخاصة، التي تتجاوز تلك التي تنطبق على الأنواع الأخرى. ولا يمكن اختزال علم الديموغرافيا إلى شكل من أشكال “الداروينية” الاجتماعية.
النظرة المادية للتاريخ
بقوانينه المجردة للسكان، كان مالتوس مشابها تماما للطوباويين الذين جادل ضدهم. كان هؤلاء الأخيرون قد وضعوا مخططات لمجتمع مثالي، بشكل منفصل عن الظروف المادية. في حين سعى الأول إلى الدفاع عن الوضع القائم من خلال اللجوء إلى القوانين الاجتماعية التي يفترض أنها خالدة؛ حيث اعتبر أن القوانين الديموغرافية قابلة للتطبيق بشكل مطلق عبر التاريخ، مثلها مثل قوانين نيوتن للحركة في الفيزياء.
وعلى النقيض من هذين المعسكرين المثاليين، قدم ماركس وإنجلز وجهة نظر مادية للتاريخ. لقد أوضحا أنه لا توجد قوانين مجتمعية أبدية تنطبق على جميع أشكال الحضارة، وأن كل مرحلة من مراحل التطور البشري تجلب دينامياتها وتناقضاتها وعلاقاتها الاجتماعية الخاصة. ولكل نمط إنتاج بدوره قوانينه الفريدة الخاصة بالسكان، والتي يجب دراستها بشكل ملموس.
كتب ماركس في مراسلاته، موبخا بعض المثقفين البرجوازيين على نظرتهم المثالية للتاريخ، قائلا:
“[وفقا للمالتوسيين]، يمكن إخضاع التاريخ بأكمله لقانون طبيعي عظيم واحد”.
وأضاف:
“هذا القانون الطبيعي هو عبارة عن […] “الصراع من أجل البقاء”، ومضمون هذه العبارة هو القانون المالتوسي للسكان، أو بالأحرى الاكتظاظ السكاني…
“وهكذا، فبدلا من تحليل الصراع من أجل البقاء كما حدث تاريخيا في أشكال مختلفة ومحددة من المجتمع، فإن كل ما يجب فعله هو ترجمة كل صراع ملموس إلى عبارة “الصراع من أجل البقاء”، وترجمة هذه العبارة نفسها إلى خرافة السكان المالتوسية.[9]“
“بهذه الطريقة”، كما يشرح ماركس في Grundrisse، “يحول [مالتوس] العلاقات المتميزة تاريخيا [للسكان] إلى علاقة عددية مجردة، اصطادها من الفراغ، والتي لا تعتمد لا على قوانين الطبيعة ولا على القوانين التاريخية.[10]“
وبالتالي فإن قوانين وحدود التجمعات البشرية لا تتحدد وتتكيف بالطبيعة، بل بالإنتاج. وأنماط الإنتاج المختلفة لها بدورها قوانين سكان مختلفة.
“في الواقع، كل نمط إنتاج تاريخي خاص له قوانينه الخاصة المتعلقة بالسكان، والتي تكون صالحة تاريخيا ضمن حدوده وحدها. لا يوجد قانون مجرد للنوع كله إلا عند النباتات والحيوانات فقط، وذلك فقط بقدر ما لم يتدخل فيه الإنسان”[11].
فائض السكان النسبي
بعد أن دحض ماركس قوانين السكان المجردة وغير القابلة للتغيير، شرع في المهمة الإيجابية المتمثلة في تحليل وصياغة قوانين السكان الخاصة بالرأسمالية.
لكن ماركس لم يهتم بمحاولة فحص الديناميات الديموغرافية التي تؤثر على حجم مجتمع معين. هناك مجموعة كاملة من العوامل -بما في ذلك المواقف الأخلاقية والدينية المتغيرة- التي قد تحدد ما إذا كان عدد سكان معين سينمو أو سيتقلص؛ ما إذا كان الوالدان سيختاران أن يكون لديهما أسرة أكبر أو أصغر؛ ما إذا كانت معدلات الولادات ومعدلات الوفيات منخفضة أو مرتفعة.
لقد فهم ماركس، في هذا الصدد، أن إجمالي أعداد البشر لا يعتمد فقط على المحددات الاقتصادية؛ وأنه لا توجد علاقة ميكانيكية بين السكان والإنتاج.
وبدلا من ذلك، أوضح ماركس في كتابه “رأس المال” كيف تؤدي ديناميات التراكم الرأسمالي إلى ميل نحو فائض نسبي في عدد السكان.
أرجع مالتوس الفقر إلى الأعداد المطلقة للناس؛ والنتيجة الحتمية المتمثلة في كون عدد كبير جدا من الأشخاص يسعون وراء عدد قليل جدا من السلع. وعلى النقيض من ذلك، أظهر ماركس أن الفقر المدقع هو نتيجة لتناقضات الرأسمالية.
فبسبب تعطشهم الذي لا يرتوي لتحقيق أرباح متزايدة باستمرار، يجد الرأسماليون أنفسهم، بفعل المنافسة بينهم، مجبرين على إعادة استثمار فائض القيمة -الذي خلقته الطبقة العاملة- في وسائل إنتاج جديدة، مما يؤدي إلى التوسع والنمو.
وفي هذه السيرورة، يزداد إجمالي الطلب على قوة العمل. لكن في الوقت نفسه، يستثمر الرأسماليون في الآلات والأتمتة، من أجل تعزيز إنتاجية العمال، وتخفيض أسعار سلعهم، والتفوق على الصناعيين الآخرين.
ومن هنا يتطور اتجاهان متناقضان. فمن ناحية، يتم الاستغناء عن العمال بفعل التكنولوجيا، ويتم رميهم إلى البطالة. ومن ناحية أخرى، مع نمو الاقتصاد، يتم إعادة استيعاب العمال العاطلين عن العمل في الإنتاج.
تتحول بعض الصناعات، مما يجعل العمال زائدين عن الحاجة؛ في حين تتوسع صناعات أخرى، مما يخلق الطلب على عمال إضافيين. وفوق هذه التغيرات بين قطاعات الاقتصاد المختلفة وداخلها، هناك دورات الازدهار والكساد الدائمة للرأسمالية.
والنتيجة هي مد وجزر في عدد السكان الذي يعتبر فائضا عن متطلبات رأس المال؛ تقلبات فوضوية فيما أطلق عليه ماركس اسم “الجيش الاحتياطي للعمل”.
يشرح ماركس في كتابه “رأس المال” أن التراكم الرأسمالي نفسه، “ينتج باستمرار، وينتج بنسبة مباشرة لطاقته ومداه، عددا زائدا نسبيا من السكان العمال، أي عددا من السكان أكبر مما يكفي لمتوسط احتياجات التوسع الذاتي لرأس المال، وبالتالي فائضا من السكان”[12].
وعلاوة على ذلك، أكد ماركس أن جيش العمل الاحتياطي ليس نتاجا للتراكم الرأسمالي فقط، بل هو أيضا شرط ضروري لإدامته.
إن الرأسماليين، من أجل توسيع أعمالهم باستمرار، يجب أن يكون تحت تصرفهم في جميع الأوقات عرض جاهز من قوة العمل الخاملة، الجاهزة والقادرة على الاستخدام. وفي الوقت نفسه، يساعد وجود هذا المخزون من العمال في الحفاظ على الضغط الهبوطي على الأجور، وبالتالي تعزيز أرباح أرباب العمل.
“يعمل رأس المال على كلا الجانبين في نفس الوقت. فإذا كان تراكمه يزيد الطلب على العمل من ناحية، فإنه يزيد من المعروض من العمال من ناحية أخرى من خلال التخلص منهم، بينما في الوقت نفسه يجبر ضغط العاطلين عن العمل أولئك الذين يعملون على تقديم المزيد من العمل، وبالتالي يجعل عرض العمل مستقلا، إلى حد ما، عن عرض العمال”[13].
ليست الأعداد المطلقة للسكان هي التي تدفع الأجور إلى الانخفاض وتخلق الفقر، كما يدعي مالتوس، بل جيش العمل الاحتياطي الناتج عن ديناميات رأس المال؛ ليست المسألة متعلقة بالزيادة السكانية ومحدودية الإنتاج، بل هي حالة من فائض في عدد السكان مقارنة باحتياجات نظام يقوم على الربح؛ وليس “ضغط السكان […] على وسائل العيش، بل على وسائل العمل”، كما يؤكد إنجلز[14].
“وبالتالي فإن السكان العاملين، إلى جانب إنتاجهم لتراكم رأس المال، ينتجون الوسائل التي تجعلهم فائضين نسبيا، ويتحولون إلى فائض سكاني نسبي؛ ويفعلون ذلك بشكل متزايد دائما. وهذا قانون سكاني خاص بنمط الإنتاج الرأسمالي”[15].
فائض السكان مقابل فائض الإنتاج
وبدلا من مزاعم مالتوس حول التطور الحسابي في ما يتعلق بإمدادات الغذاء، قام ماركس وإنجلز بتحليل التناقضات الفعلية للرأسمالية التي تمنع المجتمع من إطعام أعداد متزايدة الضخامة.
وقد أوضحا قبل كل شيء أن المشكلة ليست وجود فائض في السكان، بل فائض في الإنتاج. فالإنسانية لا تواجه ندرة دائمة، بل تواجه الفقر في خضم الوفرة. في هذا السياق كتب إنجلز قائلا:
“يتم إنتاج القليل جدا، وهذا هو سبب كل المآسي. لكن لماذا يتم إنتاج القليل جدا؟ ليس بسبب استنفاذ القدرة الإنتاجية […] بل لأن القدرة الإنتاجية لا تتحدد بعدد البطون الجائعة، بل بعدد الجيوب القادرة على الشراء والدفع. المجتمع البرجوازي لا يرغب ولا يستطيع أن ينتج المزيد. إن البطون التي لا تملك المال، والعامل الذي لا يمكن استغلاله لتحقيق الربح، وبالتالي لا يمكنه الشراء، متروك لمعدل الوفيات”[16].
وباختصار، لا ينشأ الجوع في ظل الرأسمالية بسبب عجز المجتمع تقنيا عن إطعام نفسه، بل بسبب جنون نظام الجري وراء الربح.
يقول إنجلز في نقده: “لو لم ينظر مالتوس إلى الأمر من جانب واحد، لما فشل في رؤية أن فائض السكان، أو فائض قوة العمل، مرتبط دائما بفائض الثروة، وفائض رأس المال، وفائض ملكية الأرض”[17].
وفي هذا الصدد لقد تم دحض نظريات مالتوس عمليا عدة مرات منذ وفاته. كما أن نبوءاته عن حتمية الهلاك قد تم تقويضها بشكل مستمر من خلال الوقائع، من خلال التطورات في الزراعة والصناعة والعلوم، والتي مكّنت المجتمع من زيادة خصوبة الأرض، وزيادة الإنتاجية عبر تطبيق التكنولوجيا والتقنية، وإنتاج المزيد بمجهود أقل.
وحتى اليوم، تشير التقديرات، وفقا للناشطين الإنسانيين في منظمة “العمل ضد الجوع“، إلى أنه يتم إنتاج ما يكفي من الغذاء لإطعام العالم أجمع، ومع ذلك فإن ما يقدر بنحو 10% من سكان العالم يعانون من سوء التغذية والمجاعة.
لا تكمن المشكلة في الزيادة السكانية المالتوسية، بل في الملكية الخاصة والدولة القومية: اللذان هما الحاجزان الأساسيان اللذان يقفان في طريق تطور القوى المنتجة؛ وهذا ما يمنعنا اليوم من الاستخدام العقلاني لموارد المجتمع الهائلة، والتي بدلا من ذلك يتم نهبها من أجل الربح من قبل الرأسماليين.
مدافع عن الطفيلية
من خلال إلقاءه اللوم على الناس العاديين عن المجاعة والحرمان، كان مالتوس يصرف الانتباه عن الجاني الحقيقي أي: النظام الرأسمالي. وفي هذا الصدد، وصف ماركس مالتوس بأنه “متملق وقح للطبقات السائدة”[18]، ووصف نظرياته بأنها تقدم “تبريرا جديدا لصالح مستغِلي العمل”[19].
كان مالتوس يدافع قبل كل شيء عن مصالح طبقة النبلاء مالكي الأراضي. ففي المناقشات التي دارت حول قوانين الذرة (فرض التعريفات الجمركية على واردات الحبوب إلى بريطانيا)، على سبيل المثال، وقف مالتوس بقوة إلى جانب تدابير الحمائية وأصحاب الأراضي، ضد أنصار التجارة الحرة، من أمثال الاقتصادي الكلاسيكي الإنجليزي ديفيد ريكاردو.
وعلاوة على ذلك، فقد استخدم رجل الدين أيضا نظرياته الاقتصادية لتبرير وجود طبقتهم الطفيلية والدفاع عن الاستهلاك غير المنتج للكنيسة والأرستقراطية، وغيرهم من “الخدم العاطلين”.
وأكد أن مثل هذا التبديد لموارد المجتمع لا يشكل إسرافا، بل إنه في الواقع ضروري لمنع الأزمات وضمان استمرار بقاء الرأسمالية.
يقول ماركس، تلخيصا لآراء مالتوس الاقتصادية:
“المطلوب هو وجود مشترين ليسوا بائعين، حتى يتمكن الرأسمالي من تحقيق ربحه وبيع سلعه ‘بقيمتها'”.
“من هنا تأتي [وفقا لمالتوس] حاجة الملاكين العقاريين وأصحاب المعاشات والموظفون والكهنة، وما إلى ذلك، إلى ألا ينسوا خدمهم وعملائهم الوضيعين”[20].
وفقا لمالتوس، لدينا، في الوقت نفسه، فائض في السكان ونقص في الاستهلاك؛ عدد كبير جدا من الأفواه التي يتعين إطعامها، بالإضافة إلى عدد كبير جدا من السلع التي لا يمكن بيعها؛ يتم إنتاج القليل جدا للحفاظ على الجماهير المفلسة، إلى جانب فائض لا يمكن التخلص منه إلا من خلال شراهة وجشع المتسكعين الأثرياء.
ويختتم ماركس مشيرا إلى الكلبية والنفاق قائلا: “وهكذا يتبين أن مؤلف الكتيب عن السكان يدعو إلى الاستهلاك المفرط المستمر وأقصى قدر ممكن من استيلاء الطفيليين على الإنتاج السنوي، باعتبار ذلك شرطا للإنتاج”[21].
هذه المفارقة الصارخة في أفكار مالتوس تعبر في الواقع عن تناقض حقيقي في قلب الرأسمالية وهو: فائض الإنتاج.
وفي رده على الاقتصاديين الكلاسيكيين الذين يؤمنون بسياسة “دعه يعمل”، مثل آدم سميث وجان باتيست ساي، الذين آمنوا بعقلانية وكفاءة السوق الحرة، أظهر ماركس أن الرأسمالية عرضة بطبيعتها للأزمات، التي هي أزمات ناتجة عن طبيعة نظام السعي وراء الربح نفسه.
أوضح ماركس أن أرباح الرأسماليين تأتي من العمل غير مدفوع الأجر الذي تنتزعه من الطبقة العاملة. يحصل العمال (في شكل أجور) على قيمة أقل مما ينتجونه (في شكل سلع). وبالتالي، فإن قدرة الرأسمالية على الإنتاج ستفوق دائما قدرة السوق على استيعاب كل ما يتم إنتاجه.
والنتيجة، كما أوضح ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي، هي الأزمات التي يتفشى خلالها “وباء كان ليبدو، في كل العصور السابقة، غير معقول، هو وباء فائض الإنتاج”.
“يجد المجتمع نفسه فجأة وقد تمت إعادته إلى وضع من الهمجية المؤقتة، حتى يبدو كما لو أن مجاعة، أو حربا مدمرة شاملة، قد قطعت إمدادات كل وسائل العيش؛ فتبدو الصناعة و التجارة وقد تدمرتا، ولماذا؟ لأن هناك الكثير من الحضارة، والكثير من وسائل العيش، والكثير من الصناعة، والكثير من التجارة”[22].
اعترف ماركس أنه في حين اعتبر القس مجرد منتحل لأفكار الآخرين، فإن أفكار مالتوس الاقتصادية لها بعض المزايا، لأنه “على عكس مذاهب الانسجام المثيرة للشفقة في الاقتصاد السياسي البرجوازي”، قدم القس “تركيزا واضحا على التنافر…”.
كان مالتوس سعيدا بإعلان تناقضات الرأسمالية، بقدر ما قدم ذلك مبررا للأرستقراطيين وغيرهم من طفيليي المجتمع، الذين خدم مالتوس مصالحهم.
“لم يكن مالتوس مهتما بإخفاء تناقضات الإنتاج البرجوازي، بل كان، على العكس من ذلك، مهتما بالتركيز عليها. وذلك من ناحية من أجل إثبات أن فقر الطبقات العاملة ضروري (كما هو الحال بالفعل بالنسبة لنمط الإنتاج الحالي)، ومن ناحية أخرى ليثبت للرأسماليين ضرورة الاعتناء جيدا بأعضاء الكنيسة والدولة من أجل خلق الطلب المناسب على السلع التي ينتجونها”[23].
شيخوخة سكان، أم شيخوخة نظام؟
ثم انتقد مالتوس الفقراء لكونهم فقراء. لكن من الواضح أنه لم يكن لديه أي مشكلة في كون الأغنياء أغنياء.
ينطبق الشيء نفسه اليوم على أتباع مالتوس المعاصرين. إذ يلقي الليبراليون اللوم على الفئات الأكثر ضعفا بكونها عبئا على المجتمع. لكن نفس هؤلاء المنافقين يتجاهلون بطيب خاطر -أو ما هو أسوأ من ذلك، يدافعون بنشاط- عن حجر الرحى الحقيقي المعلق حول رقابنا، أي: أصحاب المليارات والمصرفيين الذين لا يشكلون إلا نزيفا، والذين يحكم نظامهم على الملايين بحياة العذاب والكدح.
وفي هذا الصدد، يلعب المالتوسيون الجدد، من كافة المشارب، دورا خطيرا من خلال توجيههم لأصابع الاتهام إلى كل أنواع أكباش الفداء عندما يتعلق الأمر بجرائم الرأسمالية ومصائبها. إذ من المقبول، بالنسبة لهم، على سبيل المثال، أن يغرق المهاجرون واللاجئون في البحر الأبيض المتوسط أو القناة الإنجليزية. ويقولون لنا إن البلاد “مكتظة”، وإذا تم السماح لـ”أسراب” الأجانب بالوصول إلى شواطئنا، فسوف تنهار الخدمات المتداعية أصلا. في حين يغرق الرأسماليون في الأرباح.
أو خذوا مثال كبار السن. فمن عجيب المفارقات أن العديد من المؤلفين المتأثرين بأفكار مالتوس، بعد أن كانوا ذات يوم يعبرون عن القلق بشأن “القنبلة السكانية“، أصبحوا اليوم يشعرون بالقلق إزاء العكس: ألا وهو أن الناس لا ينجبون عددا كافيا من الأطفال، وهو ما يؤدي إلى تقلص أعداد المجتمعات وارتفاع معدل الشيخوخة.
ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، فإن النساء في جميع أنحاء العالم صرن لأسباب مختلفة- ينجبن عددا أقل من الأطفال. ونتيجة لذلك من المتوقع أن يرتفع إجمالي عدد سكان الكوكب من أكثر من ثماني مليارات نسمة اليوم، إلى ذروة تبلغ نحو 10.4 مليار نسمة في عام 2083. ومع انخفاض توقعات معدل المواليد، وسينخفض هذا الأوج إلى تسعة مليارات نسمة في عام 2050.
وفي الوقت نفسه فإن متوسط العمر المتوقع آخذ في الازدياد بفضل التحسينات في الرعاية الصحية وما إلى ذلك. والنتيجة الإجمالية هي أن المجتمع يشيخ بسرعة.
ولهذا تداعيات اقتصادية مهمة. وعلى وجه الخصوص ارتفاع “نسبة إعالة كبار السن”، التي تقيس أعداد كبار السن مقارنة بالسكان في سن العمل (الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و64 عاما). وبعبارة أخرى فإنه سيتعين على قوى عاملة متضائلة أن تدعم عددا أكبر من المتقاعدين.
وهذا يعني وجود عددا أقل نسبيا من العمال اللازمين لدفع النمو الاقتصادي؛ وعمال أقل ليستغلهم الرأسماليون؛ وانخفاض عدد دافعي الضرائب مقارنة بإجمالي السكان، إلى جانب زيادة متطلبات الإنفاق الحكومي على معاشات التقاعد الحكومية والرعاية الصحية العمومية.
يحذر جورج ماغنوس، كبير الاقتصاديين السابق في بنك يو بي إس الاستثماري، في كتابه “عصر الشيخوخة”:
“أن التغيرات الكبيرة والمطولة القادمة في حجم وخصائص السكان والقوى العاملة، يمكن أن تقوض النمو الاقتصادي”. و”سيتعين على المجتمعات التي تعاني من الشيخوخة السكانية أن تتوصل إلى كيفية الحصول على المزيد من الإنفاق المرتبط بارتفاع معدل العمر من دولة الرفاه وكيفية دفع ثمنه”[24].
بالنسبة لمالتوس، كانت المشكلة هي وجود عدد كبير جدا من الفقراء الذين يلتهمون موارد المجتمع. والآن، يقال لنا، إن هناك عدد كبير جدا من كبار السن.
وسيرا على نفس المنوال توقعت المجلة الليبرالية، الإيكونوميست، في تقرير خاص صدر مؤخرا، إضفاء الطابع الياباني على الغرب، أي سيرورة الشيخوخة السكانية وتضاؤل عدد السكان، مما يؤدي إلى الركود الاقتصادي وتضخم الديون العمومية[25].
بل إن مؤلفي المجلة يذهبون إلى حد الإشارة إلى أن كبار السن يمكن أن يكونوا مسؤولين عن المستنقع الكئيب الذي يغرق فيه الاقتصاد العالمي: وذلك ليس فقط لأن الأعداد المتزايدة من كبار السن تعني ارتفاع معدلات الإعالة وارتفاع مستويات الإنفاق العام (على الرعاية الاجتماعية والرعاية الصحية)، بل أيضا لأن المتقاعدين يساهمون على ما يبدو في “تخمة الادخار العالمي”.
ومن غير المستغرب أن هؤلاء الكتاب البرجوازيين لا يفكرون في دراسة الأسباب الحقيقية وراء تباطؤ الاقتصاد العالمي، والتي ليست “تخمة الادخار” في أيدي كبار السن، بل في الحسابات المصرفية لأصحاب الملايير.
إن الرأسمالية -التي هي نظام غارق في فائض الانتاج والفوضى- هي المسؤولة عن “الركود الدوري” و”الركود الدائم” اللذان كان الاقتصاديون البرجوازيون (مثل لاري سامرز وبول كروغمان، على التوالي) يناقشونهما قبل الجائحة؛ وعن الاضطراب والتضخم اللذان يطاردان الآن الطبقة السائدة والطبقة العاملة على حد سواء.
والحقيقة هي أنه إذا كان الاقتصاد يتقدم للأمام، مع ارتفاع الإنتاجية، فلن تكون هناك مشكلة مع اضطرار عدد أقل نسبيا من العمال إلى دعم عدد أكبر من الناس في خريف عمرهم. ستكون الثروة اللازمة لتوفير مستويات أعلى من الرعاية الصحية، وما إلى ذلك، موجودة. وفي الواقع، فإن الأموال المخصصة لهذا الغرض موجودة بالفعل، لكنها تقبع خاملة في خزائن الأثرياء.
وبدلا من إلقاء اللوم على جيل ما بعد الحرب العالمية بإرهاق ميزانيات الحكومة، يتعين علينا أن نلقي اللوم على أرباب العمل ونظامهم بسبب فرضهم الشلل على المجتمع. المشكلة ليست في الانقسام بين الأجيال، بل في الانقسام الطبقي.
والسؤال الحقيقي الذي ينبغي طرحه، في هذا الصدد، ليس: “ماذا نفعل إزاء كل هؤلاء الكبار في السن؟”، بل “لماذا توقفت الإنتاجية؟”.
لماذا لا نستطيع إنتاج المزيد بموارد أقل، ليس فقط في الصناعة والزراعة، بل وأيضا في الخدمات الأساسية؟ لماذا لم تؤد التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والأتمتة إلى انخفاض كبير في أسبوع العمل وفي سن التقاعد؟ لماذا، على الرغم من كل التقدم العلمي الذي تحقق مؤخرا، لا تستطيع قوة عمل أصغر نسبيا توفير الدعم لنسبة متزايدة من المعالين، وتعمل في الوقت نفسه على زيادة معاشات التقاعد، والرعاية الاجتماعية، ورعاية الأطفال، والتعليم، وما إلى ذلك؟
وكما مكّن التقدم العلمي والتكنولوجي عددا أكبر من الناس من العيش لفترة أطول، ومنح الأسر قدرا أكبر من السيطرة على عدد أطفالها، ينبغي كذلك للتطورات الإضافية في القوى الإنتاجية أن تمكن المجتمع من دعم أعداد أكبر من السكان الأكبر سنا، مع توفير مستويات معيشة أعلى للجميع.
كل هذا -وأكثر- ممكن تماما، لكن ليس على أساس الرأسمالية، التي وصلت إلى الطريق المسدود.
والواقع أنه حتى الأكاديميين الرأسماليين يحذرون من “الركود العلمي“؛ ويشيرون إلى أن الأبحاث أصبحت أقل “ابتكارا” في العقود الأخيرة، وأن الابتكارات قد ركدت.
وبطبيعة الحال فإن ما فشل هؤلاء المتشائمون التجريبيون -مثلهم مثل مالتوس من قبلهم- في إدراكه هو أن هذا الجمود ليس مطلقا، بل نسبي. إذ ليس العلم والتكنولوجيا هما اللذان وصلا إلى طريق مسدود، بل نمط الإنتاج الحالي.
وباختصار نقول إنه ليست الشيخوخة السكانية هي المسؤولة عن أزمات المجتمع، بل المسؤول هو هذا النظام الهرم، النظام الرأسمالي المحتضر، الذي استنفذ دوره التاريخي منذ مدة طويلة، والذي لابد من دفنه من الآن فصاعدا على يد حفاري قبره: الطبقة العاملة.
الانهيار والكارثة
إن الأرقام والإسقاطات المذكورة أعلاه حول النمو السكاني تشكل ضربة أخرى لحجج مالتوس وتلاميذه. لم يكن القس الرجعي مخطئا فقط بشأن قدرة البشرية على تحويل الإنتاج، وبالتالي إطعام أعداد متزايدة من أي وقت مضى؛ بل كان مخطئا أيضا بشأن ميل البشر إلى الإنجاب.
أكد مالتوس في مقالته سيئة السمعة على أنه لا شيء يمكن أن يمنع الناس العاديين من التكاثر بشكل لا يمكن السيطرة عليه. إلا أننا نرى أنه مع تطور المجتمع، ترتد التغيرات المادية على الأسرة، مما يؤدي إلى اتجاه عام نحو خفض معدلات الخصوبة.
والعوامل الكامنة وراء هذه العملية عديدة: التحول من الزراعة إلى الصناعة، ومن الريف إلى المدينة؛ ودخول أعداد أكبر من النساء إلى القوى العاملة؛ وإنشاء دول الرفاه، بما في ذلك التعليم العمومي والرعاية الصحية؛ وزيادة إمكانية الوصول إلى وسائل منع الحمل وتطور المعرفة بخصوص تنظيم الأسرة؛ وتغير المواقف الاجتماعية، ولا سيما فيما يتعلق بتراجع دور الدين؛ إضافة إلى تزايد عدد الوالدين غير القادرين على تحمل تكاليف تربية المزيد من الأطفال (إن وجدوا أصلا)، بسبب انخفاض الأجور وارتفاع تكاليف رعاية الأطفال، والإيجارات، وما إلى ذلك.
وبغض النظر عن الأسباب المحددة، فإن النتيجة الإجمالية في ظل رأسمالية العصر الحديث واضحة وهي أن تطور القوى المنتجة يوفر حافزا وأساسا ماديا للعائلات لكي تنجب عددا أقل من الأطفال، وفي نفس الوقت يمكّن المجتمع من دعم عدد أكبر من السكان. ومع ذلك فإن المالتوسيين، الذين ينظرون إلى كل شيء بطريقة أحادية محضة، غافلون عن هذه الحقيقة.
ويصدق نفس القول على المالتوسيين الجدد البارزين، مثل أعضاء “نادي روما”، والذين هم عبارة عن مجموعة من الأكاديميين والمثقفين والمنظمات البرجوازية الذين نشروا في عام 1972 تقريرهم الصادم عن “حدود النمو”.
من خلال تحديثهم لأفكار مالتوس في عصر الكمبيوتر، قام علماء نادي روما بوضع نماذج للتغيرات المحتملة في موارد الكوكب وسكانه، مما أدى بهم إلى إنتاج تنبؤات مروعة عن الانهيار البيئي والاقتصادي والاجتماعي الكامل في غضون 100 إلى 120 سنة.
لا يمكن الاعتماد على أي نموذج إلا بقدر موثوقية مدخلاته وافتراضاته. لكن مؤلفي كتاب “حدود النمو” مصابون تماما بالتحيزات المالتوسية، التي تسببت في تحريف توقعاتهم الديموغرافية والبيئية بشكل كامل.
توقعوا أن يستمر نمو السكان والاستهلاك بشكل كبير، في حين أن الإنتاج -وخاصة إنتاج الغذاء- سيصعب عليه مواكبة ذلك النمو. وسيتم استنفاد الموارد المحدودة بمعدل أسرع من أي وقت مضى. وإذا لم يقتلنا الجوع جميعا، فمن المؤكد أن التلوث سيقتلنا.
ومثلهم مثل مالتوس، لم يكن لدى باحثي نادي روما أي منظور للتقدم. لم تحتوي معادلاتهم على أي مجال لتحقيق قفزات تكنولوجية نوعية؛ ولا للتحولات في المجتمع والاقتصاد؛ أو للصراع الطبقي .
وبالتالي فإن كل ما تمكنوا من التوصية به هو سياسات رامية إلى تحقيق “صفر نمو”. هذا هو الخط المالتوسي الذي تنحدر منه أفكار “تقليص النمو” المعاصرة. وهو الشيء الذي يعني، في سياق الرأسمالية، فرض نظام التقشف الدائم.
ومع ذلك فإن نادي روما كان محقا في نقطة معينة. حيث أنه من خلال الاستمرار في النشاط الاقتصادي كما هو الحال اليوم، تندفع البشرية نحو مستقبل مرعب من الأزمات البيئية والاقتصادية والاجتماعية، والتي قد تهدد حتى استمرار الحضارة نفسها.
إلا أن الحل لا يكمن في العلاجات المالتوسية المتمثلة في “الضوابط الإيجابية”، أو التحكم في عدد السكان، أو فرض قيود على الاستهلاك، بل في استيلاء الطبقة العاملة على السلطة وتخطيط الإنتاج بعقلانية، لمصلحة المجتمع ومصلحة الكوكب.
الاشتراكية أو الهمجية
لا يتخذ الماركسيون وجهة نظر أخلاقية مجردة بخصوص ما إذا كان من الأفضل عدد أكبر أو أصغر من السكان؛ وما إذا كان ينبغي للناس أن ينجبوا الأطفال أم لا.
إن ما نعترض عليه هو تأكيد المالتوسيين -من اليمين واليسار- على أن الناس العاديين يجب أن يموتوا، أو يعانوا، أو يتقبلوا الهجمات على مستويات معيشتهم، لأن المجتمع، كما يدعي المالتوسيون، لا يملك الموارد أو الإمكانات الإنتاجية اللازمة لتوفير حياة كريمة لكل سكان العالم.
توجد كل أنواع الحواجز التي تمنع الغالبية العظمى من السيطرة الحقيقية على حياتهم. فمن ناحية، قامت المحكمة العليا في الولايات المتحدة -والحكومات الرجعية في العديد من البلدان الواحد تلو الآخر– بحرمان ملايين النساء من حقهن في اختيار عدم إنجاب الأطفال. ومن ناحية أخرى، تحرم الرأسمالية الملايين من النساء والرجال من القدرة على اختيار إنجاب الأطفال، وذلك بسبب عدم توفير دور الحضانة أو السكن بأسعار معقولة.
يريد الماركسيون إزالة كل هذه العقبات، من خلال إقرار الحقوق الإنجابية وغيرها من الحريات الديمقراطية الأساسية للنساء؛ وتخطيط الاقتصاد بشكل ديمقراطي من أجل توفير السكن اللائق والخدمات العامة الممولة بالكامل ومعاشات التقاعد وحضانات الأطفال ودور رعاية المسنين المجانية للجميع.
ولتحقيق هذه الغاية، نحتاج إلى ثورة، نحتاج لاستبدال القوانين الفوضوية للإنتاج الرأسمالي والملكية الخاصة بقوانين اقتصادية جديدة تقوم على التخطيط الاشتراكي العقلاني، والملكية المشتركة، والرقابة العمالية. وكما وضح إنجلز فإن:
“ما يسمى بـ”الصراع من أجل البقاء” يتخذ الشكل التالي: حماية المنتجات والقوى المنتجة التي ينتجها المجتمع الرأسمالي البرجوازي من التأثير المدمر والتخريبي لهذا النظام الاجتماعي الرأسمالي، وذلك من خلال انتزاع السيطرة على الإنتاج والتوزيع الاجتماعيين من أيدي الطبقة الرأسمالية السائدة، التي أصبحت غير قادرة على القيام بهذه الوظيفة، ونقلها إلى يد الجماهير المنتجة، وتلك هي الثورة الاشتراكية”[26].
فقط بهذه الطريقة سيمكننا تجنب الأزمة الوجودية التي تواجه البشرية. إن الخيار الوحيد الذي أمامنا هو: إما الاشتراكية أو الهمجية.
آدم بوث
10 نوفمبر 2023
الهوامش:
[1] T Malthus, An Essay on the Principle of Population, Penguin Books, 1985, pg 72
[2] ibid
[3] T Malthus, An Essay on the Principle of Population, Cambridge University Press, 1992, pg 249, خط التشديد في النص الأصلي.
[4] F Engels, The condition of the working class in England, Oxford University Press, 1993, pg 289
[5] R L Meek (ed.), Marx and Engels on Malthus, Laurence and Wishart, 1953, pg 67, خط التشديد في النص الأصلي
[6] K Marx, F Engels, “Outlines of a Critique of Political Economy” in Collected Works, Vol. 3, Laurence and Wishart, 1975, pg 440
[7] ibid
[8] K Marx, F Engels, “Dialectics of Nature” in Collected Works, Vol. 25, Laurence and Wishart, 1987, pg 584
[9] R L Meek (ed.), Marx and Engels on Malthus, Laurence and Wishart, 1953, pg 174
[10] K Marx, Grundrisse, Penguin Books, 1973, pg 606
[11] K Marx, Capital, Vol 1, Bahribook, 2017, pg 876
[12] ibid
[13] ibid
[14] R L Meek (ed.), Marx and Engels on Malthus, Laurence and Wishart, 1953, pg 81
[15] K Marx, Capital, Vol 1, Bahribook, 2017, pg 876
[16] R L Meek (ed.), Marx and Engels on Malthus, Laurence and Wishart, 1953, pg 82, التشديد في النص الأصلي
[17] K Marx, F Engels, “Outlines of a Critique of Political Economy” in Collected Works, Vol. 3, Laurence and Wishart, 1975, pg 438
[18] R L Meek (ed.), Marx and Engels on Malthus, Laurence and Wishart, 1953, pg 123
[19] ibid. pg 118
[20] K Marx, Theories of Surplus Value, Vol. 3, Laurence and Wishart, 1972, pg 22 التشديد في الأصل
[21] ibid.
[22] K Marx, F Engels, “The Communist Manifesto” in The Classics of Marxism, Vol. 1, Wellred Books, 2013, pg 8
[23] K Marx, Theories of Surplus Value, Vol. 3, Laurence and Wishart, 1972, pg 57
[24] G Magnus, The Age of Aging, John Wiley and Sons, 2009, pg xix-xx
[25] Elderly populations mean more government spending”, The Economist, 5 October 2022
[26] K Marx, F Engels, “Dialectics of Nature” in Collected Works, Vol. 25, Laurence and Wishart, 1987, pg 584