يستثمر الرأسماليون المليارات في الذكاء الاصطناعي، ويسيل لعابهم لاحتمال حدوث طفرة اقتصادية ناجمة عن الذكاء الاصطناعي، ويحرصون على انتزاع قطعة من تدفق الذهب الجديد. لكنه لا يوجد حل تكنولوجي للتناقضات الجوهرية التي تعاني منها الرأسمالية، ومن الحتمي أن يعقب حفل الاستثمارات هذا أزمة عميقة.
[Source]
على عكس الموضة العابرة للتقنيات، من قبيل الرموز غير القابلة للاستبدال والعملات المشفرة (والتي هي في الأساس لا قيمة لها لأي شيء باستثناء المضاربة)، ليس هناك شك في قوة الذكاء الاصطناعي، الذي يستخدم في العديد من التطبيقات، بدءا من التعرف على الوجوه؛ ومنع الاحتيال؛ إلى تنظيم سلاسل التوريد. هناك تطبيقات محتملة للذكاء الاصطناعي في المستقبل أكثر إثارة للإعجاب، مع تقدم الوقت والأبحاث.
لكن فوضى السوق تعيق التكنولوجيات الجديدة من تحقيق كامل إمكاناتها. وعلاوة على ذلك فإن الرأسمالية تعاني من أزمة عميقة، لذا فالظروف غير متوفرة لتحقيق الازدهار، ولا يستطيع الذكاء الاصطناعي خلق تلك الظروف. إن تفاقم الأزمة يعني أن الذكاء الاصطناعي بدلا من أن يحقق الأحلام الطوباوية للنمو والازدهار، سوف يؤدي إلى إثراء حفنة صغيرة، وتفاقم فائض الإنتاج، والمزيد من انهيار مستويات المعيشة بالنسبة للأغلبية.
أحدث موجة من الجنون
استمرار ضعف الاقتصاد يجعل الطبقة السائدة تتمسك بأي أمل في الخلاص. وينظر بعض منظري الرأسمالية إلى التطورات المثيرة للإعجاب في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، وخاصة نماذج اللغات الكبيرة (LLMs) مثل ChatGPT، على أنها استجابة لصلواتهم.
تقدر شركة ماكينزي الاستشارية أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يضيف 4,4 تريليون دولار إلى الناتج الإجمالي العالمي سنويا: أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة في عام 2023. وفي الوقت نفسه، تتوقع مؤسسة غولدمان ساكس أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يخلق نموا بنسبة 7% في الناتج الإجمالي العالمي (حوالي 7 تريليون دولار) ويزيد الإنتاجية بنسبة 1,5% على مدى 10 سنوات. لكن ونظرا لأن الذكاء الاصطناعي ما يزال في مراحله الأولى، فمن غير الواضح كيف توصلوا إلى مثل هذه الأرقام المثيرة للإعجاب.
ومع ذلك، فقد تم الترويج للذكاء الاصطناعي بطريقة لا هوادة فيها خلال الأشهر الأخيرة، حيث وصفه الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، ساندر بيتشاي، العام الماضي، بأنه من حيث الأهمية يقف على قدم المساواة مع اكتشاف النار! ونظرا لكون مايكروسوفت هي أكبر مستثمر في OpenAI (الشركة التي تقف وراء ChatGPT)، فربما ليس من المستغرب أن يزعم بيتشاي بأنه بروميثيوس الحديث.
وتبدي الدول بدورها اهتماما كبيرا بالذكاء الاصطناعي، حيث تتصارع الولايات المتحدة والصين للحفاظ على التفوق في السوق؛ وتحاول حكومة المحافظين في المملكة المتحدة إغراء المنصات التوليدية الكبرى بإقرار قوانين أكثر مرونة من منافسيها الأوروبيين.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد أصيب المنتدى الاقتصادي العالمي لهذا العام بـ“حمى الذكاء الاصطناعي”. فقد اعتلى سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، منصة المؤتمر، وسيطرت شركات التكنولوجيا الكبرى على منتزه دافوس، حيث نظمت ندوات تحمل عناوين متواضعة من قبيل: “الذكاء الاصطناعي: الاختراع المطلق”.
وقد توج كل هذا الاهتمام بتخمة في الاستثمار، حيث تشكل شركات الذكاء الاصطناعي والشركات المجاورة لها الآن 60% من الشركات الناشئة الجديدة (شركات تقدر قيمتها بأكثر من مليار دولار). في عام 2023، جمعت الشركات الناشئة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي 50 مليار دولار، في حين تخلت شركة OpenAI عن ادعاءاتها بالمصادر المفتوحة، وقبلت ضخ مبلغ بقيمة 10 مليارات دولار من مايكروسوفت وافتتحت قسما يهدف إلى الربح.
أسهم شركات الذكاء الاصطناعي مزدهرة، حيث تسعى شركة OpenAI إلى تقييم بقيمة 100 مليار دولار (وهو ما يشكل ارتفاعا من قيمتها الحالية البالغة 86 مليار دولار، والذي يشكل بالفعل ثلاثة أضعاف قيمتها في أبريل 2023) ومئات العمليات الأصغر، المتخمة بالرأسمال الاستثماري، والتي تشهد أيضا ارتفاعا في تقييماتها. تقدر قيمة سوق الذكاء الاصطناعي ككل بأكثر من 300 مليار دولار (دون احتساب شركات تصنيع الرقائق مثل Nvidia). للوهلة الأولى، يبدو أنه لا نهاية لحظ الذكاء الاصطناعي.
حدود السوق
ومع ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي بدأ يقترب بالفعل من حدود السوق. وعلى الرغم من كل الضجيج، فلم تحقق أي من شركات الذكاء الاصطناعي المذكورة أعلاه أية أرباح. إن التكلفة الهائلة لبناء وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي تعني في الواقع أن شركات مثل OpenAI تخسر مبالغ ضخمة، وتتوقع خسارة المزيد عندما تستثمر في نماذج أكثر تطورا للبقاء في صدارة المنافسة.
ويعتمد كبار المستثمرين في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل ميكروسوفت، وغوغل، وأبل، على الابتكارات في مجال الرقائق الالكترونية للتغلب على هذه المشكلة. وقد أفاد هذا بشكل خاص شركة صناعة الرقائق الأمريكية Nvidia، التي تحتكر مكونات المعالج الضرورية للذكاء الاصطناعي. شهدت الشركة ارتفاعا في أسعار أسهمها بنسبة 207% العام الماضي، وهي الآن ثالث أكبر شركة في وول ستريت من حيث القيمة السوقية.
كيف يستخدم الرأسماليون هذه التكنولوجيا الجديدة الرائدة (والمكلفة)؟ إن الاستخدام الأكثر شيوعا للذكاء الاصطناعي من قبل الشركات (وفقا لمجلة فوربس) هو استبدال عمال خدمة الزبناء ببرامج روبوتات الدردشة (التي كانت موجودة منذ سنوات)، يليها إنشاء رسائل إلكترونية عشوائية (spam emails). من الصعب أن نرى كيف يبرر هذا التقييمات المرتفعة للغاية لأسهم الذكاء الاصطناعي، خاصة مع التكاليف المرتبطة بتشغيل نماذج اللغات الكبيرة (LLMs). إن الوضع، على حد قول أحد المديرين التنفيذيين المحبطين، يشبه استخدام سيارة فيراري لتوصيل البيتزا.
يبدو أن الذكاء الاصطناعي غير قادر، في الوقت الحالي على الأقل، على التخلص من المشاكل التي تجعله غير موثوقا به للغاية بالنسبة للتطبيقات الهامة، مثل السيارات ذاتية القيادة بالكامل على سبيل المثال. وحتى في المجالات التي يتقدم فيها الذكاء الاصطناعي بسرعة، مثل البرمجة والترجمة، فإنه ما يزال عرضة للأخطاء ويتطلب إشرافا بشريا، مما يخيب آمال المستثمرين الذين تم استقطابهم بفضل الوعود بـ “الذكاء العام الاصطناعي” (AGI) الخارق. وبينما كان هذا المقال في طريقه للنشر، حدثت لـ ChatGPT حالة من الفوضى، وصار يتحدث باللغة “الإنجسبانية” (إنجليزية ركيكة ممزوجة بالإسبانية) ويضر بالمستخدمين.
وكما هي الحال في كل فقاعة مضاربة، حيث يمكن تحقيق المال بسرعة، وحيث توجد وفرة من المستثمرين السذج، يوجد هناك الكثير من المحتالين الذين لا ينتجون أي شيء ذا قيمة.
ومع تفاقم أزمة فائض الإنتاج الرأسمالية، تصير الفرص محدودة أمام الاستثمار بشكل مربح في الاقتصاد الحقيقي، وبالتالي فإن الرأسماليين يميلون إلى المقامرة في القطاعات التي هي على الموضة لإثراء أنفسهم. كانت صناعة التكنولوجيا مرتعا للمضاربات خلال الجائحة، حيث تضخم سوق العملات المشفرة وحده ستة أضعاف ليصل إلى ثلاثة تريليونات دولار في عام 2021، مدعوما بمعدلات الفائدة المنخفضة وأموال التحفيز، واللذان كلاهما جفت منابعهما نتيجة لمحاولة الحكومات كبح جماح التضخم والدين الحكومي. ومع انتهاء جنون العملات المشفرة/ الرموز غير القابلة للاستبدال، بدأ المتربحون من التكنولوجيا (الذين لم يتعلموا شيئا) يبحثون عن عربة جديدة ليركبوها. حتى أن قناة CNBC ذكرت، بجدية تامة، أن الذكاء الاصطناعي كان “يدفع العملات المشفرة جانبا باعتباره الطفل المدلل الجديد” في دافوس.
توصل تحقيق أجري عام 2019 في 2830 شركة ناشئة في أوروبا، مصنفة على أنها شركات ذكاء اصطناعي، إلى أن 40% منها لم تكن “تستخدم الذكاء الاصطناعي بطريقة مادية”، بل فقط ككلمة طنانة لتأمين التمويل. في حين يطلق على البعض الآخر اسم الشركات الناشئة “المغلفة الرقيقة” والتي يقتصر عملها على وضع واجهة جديدة على المنصات الحالية مثل ChatGPT، أي ما يشبه وضع النبيذ القديم في زجاجات جديدة. كل هذه الشركات ومستثمريها سوف يتعرضون للخطر عندما ينحسر المد.
وقد ساهم الافتقار إلى الموثوقية وارتفاع تكاليف التشغيل في انهيار قصص نجاح الذكاء الاصطناعي المبكرة. فعلى سبيل المثال، جمعت شركة Olive AI مبلغ 1,5 مليار دولار، بين عامي 2020 و2023، من خلال منصة مصممة لإدارة وتحليل سجلات المرضى في القطاع الصحي الخاص. لكنها أثبتت أنها باهظة الثمن وغير جديرة بالثقة، مما أدى إلى خسائر كبيرة. ومع احتكار عمالقة وادي السليكون للسوق، بدأت الشركات الناشئة الأصغر حجما تذبل، آخذة معها المليارات من دولارات مستثمريها. وهذا نذير بالأشياء القادمة.
ثم هناك التهديد المتزايد الذي يشكله التنظيم الحكومي والإجراءات القانونية. لقد أقر الاتحاد الأوروبي أول “قانون تنظيمي للذكاء الاصطناعي” في العالم، والذي يحظر بعض التطبيقات “عالية المخاطر” ويضع قيودا على تطبيقات أخرى، الأمر الذي من شأنه أن يخيف المستثمرين إذا حذت الحكومات الأخرى حذوه. وفي الوقت نفسه، تجري حاليا قضية سرقة أدبية بارزة، حيث تطالب صحيفة نيويورك تايمز بتعويضات بالمليارات من شركة OpenAI لتدريب نموذج ChatGPT الخاص بها على “الملايين” من مقالات صحيفة نيويورك تايمز، والتي يمكنها الآن اجترارها في شكل بالكاد تم تغييره. وفي حين أن التوصل إلى اتفاق هو أمر مرجح أكثر من وقوع سابقة قانونية، فإن قطع وصول ChatGPT المجاني إلى بيانات التدريب من شأنه أن يعيق برنامج الدردشة الآلي، ويهز مشهد الذكاء الاصطناعي بأكمله.
أصداء الدوت كوم
الذكاء الاصطناعي موجود لكي يبقى، لكن هناك تصحيح مؤلم سيحدث مستقبلا بطريقة أو بأخرى. وقد أجرى منظرو رأس المال مقارنة مع ما حدث مع فقاعة “الدوت كوم” في أوائل القرن الحادي والعشرين. كتب موقع Business Insider:
«لقد كان سوق الأسهم في احتفالات دائمة قبل أن يصل إلى القاع في أكتوبر من العام الماضي. وقد كانت القاطرة في الغالب هي أسهم قطاع التكنولوجيا. لقد سبق أن حدث هذا من قبل: عندما ركبت الأسواق موجة من الصخب عن الإنترنت في أواخر التسعينيات، ثم انهارت عندما انفجرت الفقاعة».
وعندما حدث ذلك، انهارت مئات الشركات، وتبخرت خمسة تريليونات دولار. أما الشركات التي نجت، مثل غوغل وأمازون، فقد تغلبت على المنافسة وانتهى بها الأمر إلى احتلال مراكز مهيمنة. ومؤخرا، دق بنك جيه بي مورغان أيضا أجراس الإنذار بشأن فقاعة الذكاء الاصطناعي، واصفا الوضع الحالي بأنه “مشابه بشكل مخيف” لما كان عليه الحال في أوائل الألفية الجديدة.
ويخلصون إلى أنه: «على الرغم من أننا مترددون في الإشارة إلى المستويات الحالية للشركات العشر الأولى على أنها فقاعة، فإنه يبدو بالتأكيد أن الشركات العشر الأولى في عصر الدوت كوم كانت مدعومة بعوائد أعلى». هذا يعني، بلغة واضحة موجزة، أن الشركات العشر الكبرى في البورصة اليوم، مقدرة بأكثر من قيمتها الحقيقية، وتقدم عوائد أقل لمستثمريها، مقارنة بنظيراتها قبل 24 عاما.
لا تقتصر الفقاعات على تدافع المضاربة على سلع لا قيمة لها بطبيعتها مثل الرموز غير القابلة للاستبدال. إنها جزء لا يتجزأ من الطبيعة الفوضوية للإنتاج الرأسمالي. هناك دائما اندفاع غير منضبط للاستثمارات في كل الأسواق الجديدة الواعدة، مصحوبا بكتلة من رأس المال الوهمي تطفو فوق موجات الاقتصاد الحقيقي. يتم تداول الأسهم والأوراق المالية والمشتقات بينما يحاول كل مضارب أن يحقق عوائد كبيرة، على أمل ألا يكون “الأحمق الأكبر” الذي يحتفظ بتلك الأصول عندما تصبح السوق مشبعة، ويتم سحب رأس المال، وتنفجر الفقاعة.
عدد قليل من الرأسماليين (إما عن طريق الحظ، أو عبر تقديم منتجات مفيدة حقا، أو بفضل الاثنين) يحققون أرباحا كبيرة، بينما تتحطم الأغلبية على الصخور. وقد رأينا الشيء نفسه، ليس فقط مع فقاعة الدوت كوم، بل وأيضا مع الهوس الذي أصاب قطاع السكك الحديدية في أربعينيات القرن التاسع عشر. حيث، كما وصف ماركس في المجلد الثالث من رأس المال، أدى الإفراط في الاستثمار إلى تضخيم قيمة أسهم السكك الحديدية بشكل كبير، مما أدى إلى محو العشرات من الشركات الصغيرة (العديد منها لم تكن قد شيدت ولو سكة واحدة) عندما انهارت أسعار الأسهم، تاركة عددا قليلا من الشركات المهيمنة عندما انقشع الغبار.
سيكون هناك بالتأكيد فائزون على خلفية طفرة الذكاء الاصطناعي. والذين سيكونون، على الأرجح، هم شركات التكنولوجيا الكبرى الحالية، التي تستفيد من رأس المال والخبرة والموارد لبناء وإدارة التكنولوجيا المعقدة والمكلفة التي تقف وراء الذكاء الاصطناعي. إن ما يسمى بـ “العظماء السبعة” (ميتا، ومايكروسوفت، ونفيديا، وأبل، وألفابت، وأمازون، وتيسلا) قد وصلوا بالفعل إلى نقطة الهيمنة المطلقة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث يتفوقون على المنافسين الأصغر أو يستولون عليهم، ويحققون في شهر فبراير حوالي نصف المكاسب في جميع مؤشرات S&P 500.
وستكون النتيجة الإجمالية لاندفاع الذكاء الاصطناعي نحو الذهب، كما هو الحال مع الفقاعات الأخرى، هي زيادة تركيز رأس المال وزيادة هيمنة الاحتكارات الكبرى على الاقتصاد وعلى حياتنا.
ومع ذلك، فهناك فرق كبير مع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الذي كان فترة ازدهار نسبي. إن الرأسمالية اليوم تعيش حالة من الأزمة العضوية العميقة، والاقتصاد العالمي على حافة الركود، وقد يؤدي انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعي إلى دفعه إلى الهاوية. قد تتمكن حفنة صغيرة من الرأسماليين من الوصول إلى وضع قوي، لكن النتيجة بالنسبة للنظام ككل ستكون المزيد من الفوضى والاضطراب.
لغز الإنتاجية
ومع ذلك فإن قسما من الطبقة السائدة يأمل في أن يساعد الذكاء الاصطناعي في تجنب الركود من خلال تعزيز الإنتاجية، وبالتالي تحفيز النمو. نشير إلى أنه في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تفاخر الرأسماليون بـ “نموذج جديد” حيث ستؤدي الشركات الرقمية إلى نمو اقتصادي “متسارع” و“تحقيق التشغيل الكامل” لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. لكنه لم يتحقق أي من تلك التوقعات.
لقد وعدونا منذ فترة طويلة بأن المكننة من شأنها أن تخلق طفرة في الإنتاجية. لكن ومنذ عام 2012، وعلى الرغم من كل الاستثمار في الآلات المتطورة، بلغ متوسط نمو الإنتاج في الساعة على مستوى العالم 0,3% فقط سنويا، مقارنة بنحو 2,3% خلال العقد السابق. إن مفارقة الإنتاجية هذه تدعو إلى التشكيك في المبرر التاريخي لبقاء الرأسمالية نفسها.
يمكن تفسير هذا التناقض بالطريقة التي يتم بها استخدام التكنولوجيا ضمن القيود التي يضعها نظام الربح. الآلات لا تخلق القيمة: العمل البشري هو وحده الذي يخلق القيمة. يستثمر الرأسماليون في الآلات لجعل عمالهم أكثر إنتاجية، مما يسمح لعدد أقل من العمال بالعمل بشكل أكثر إنتاجية، في مهام أقل مهارة، مما يؤدي إلى إغراق الأسواق بشكل أكبر بالسلع.
لكن الرأسماليين، من خلال قيامهم بذلك، يدمرون الأسواق نفسها عن طريق تقليص القدرة الشرائية للطبقة العاملة. قدر بنك غولدمان ساكس أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتسبب في “خسارة أو تدهور 300 مليون وظيفة” على المدى القصير.
وبسبب تفاقم فائض الإنتاج، يقطع الرأسماليون الغصن الذي يجلسون عليه، مما يؤدي إلى نضوب الاستثمار نفسه. وفي بعض الحالات، يكون الرجوع إلى الوراء أكثر ربحية، من خلال الاستعاضة عن الآلات الباهظة بعمالة رخيصة مستغلة بشكل مفرط. على سبيل المثال، انخفض عدد مغاسل السيارات الآلية في المملكة المتحدة من 9000 قبل 20 عاما إلى 4200 اليوم لأنه من الأرخص دفع أجور للمهاجرين، أقل من الحد الأدنى للأجور، مقابل غسل السيارات يدويا. وهنا نرى نتائج “الابتكار” الرأسمالي!
والنقطة الرئيسية هنا هي أنه منذ عام 2008، كان مسار الرأسمالية برمته في انحدار. ولا تستطيع التكنولوجيات الجديدة أن تساعد في تجنب هذا المسار، بل إنها تميل بدلا من ذلك إلى مفاقمة التناقضات الجوهرية التي يعاني منها النظام. ونظرا للحالة الراهنة من القدرة الفائضة في السوق العالمية (أي أزمة فائض الإنتاج)، فإنه حتى الاستثمار الحقيقي في الذكاء الاصطناعي لتعزيز الإنتاجية (على عكس المضاربة المحضة) لن يؤدي ببساطة إلا إلى تفاقم هذه الأزمة.
هناك جانب آخر لهذه المسألة، وهو أن النظام لا يستطيع أن يوظف بشكل منتج ملايين العمال المهددين بهذه التكنولوجيا الجديدة. وقد استشعرت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجييفا، هذا الخطر، وحثت السياسيين على معالجة “الاتجاه المثير للقلق” من أجل “منع التكنولوجيا من زيادة تأجيج التوترات الاجتماعية”.
وفي حين أن الرأسماليين على حق في اعتبار أن الصراع الطبقي على رأس جدول الأعمال، فمن المحتمل أن يكون الذكاء الاصطناعي عاملا ثانويا يؤدي إلى تفاقم المشكلة. لقد بدأ الذكاء الاصطناعي يحل الآن محل فئة قليلة نسبيا من القوى العاملة من ذوي الياقات البيضاء، مع احتمال حدوث المزيد من فقدان الوظائف على مدى فترة أطول.
من المرجح أن يكون التأثير الفوري للذكاء الاصطناعي، كما هو الحال مع الأتمتة، هو “تقليل قيمة مهارات” الفئات التي كانت تتمتع بالامتيازات سابقا من البروليتاريا والطبقات الوسطى. وقد كان هذا أحد العوامل التي أدت إلى إضراب هوليوود العام الماضي، على سبيل المثال. بدأت شركة OpenAI للتو في الإعلان عن منصتها الجديدة Sora، والتي تدعي أنه يمكنها إنشاء مقاطع فيديو واقعية من خلال نصوص. يواجه الفنانون والممثلون والمبرمجون والمترجمون، ومن شابههم، احتمال رؤية سنوات من التدريب تتحول إلى هباء.
وبدلا من أن تؤدي تلك الأدوات الرائعة، مثل الذكاء الاصطناعي، إلى تحرير العمال، سوف تشكل في أيدي الرأسماليين تهديدا بزيادة الكدح. وليس هذا فحسب، بل إنه يتم استخدامها لمراقبة العمال والسيطرة عليهم بشكل متزايد. وقد بدأت بعض الشركات (بما في ذلك مستودعات أمازون)، تقوم بعملية التوظيف والفصل من العمل بواسطة آلات عديمة الشعور، وسوف تتبعها في ذلك شركات أخرى. وعلاوة على ذلك فإن الثقافة تغرق في مستنقع محير من النصوص والصور التي يولدها الذكاء الاصطناعي. كما أن الدولة تسلح نفسها بتقنية التعرف على الوجوه والصوت المدعومة بالذكاء الاصطناعي لقمعنا بشكل أكثر فعالية.
يعد التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي من الأدوات القوية بالفعل. لكنها بدلا من أن تحسن شروط عيشنا، تُستخدم لإثراء حفنة صغيرة من الناس، في حين تحط من مستوى ملايير البشر، وتساعد في دفع النظام إلى نوبات من المضاربة والركود. لا يجب أن يكون الأمر كذلك. إن القوى المنتجة تتمرد على نظام لا يستطيع استخدامها بعقلانية.
في ظل الشيوعية، سيصير من الممكن دمج الذكاء الاصطناعي بسلاسة في الاقتصاد المخطط من أجل القضاء على المهام المملة والخطيرة. وبتحرر تلك التكنولوجيا من قيود الملكية الخاصة، سيصير في إمكانها بالفعل زيادة الإنتاجية إلى مستويات لا توصف، وذلك دون الإضرار بأجور الطبقة العاملة وظروف عملها وعيشها. يمكن للمجتمع الاشتراكي، غير المثقل بالحاجة إلى استرضاء المساهمين، أن يتبنى نظرة طويلة لتطوير الإمكانات الحقيقية للذكاء الاصطناعي، باعتباره استثمارا قيما لتطور البشرية، بدلا من قصر هذه التكنولوجيا الرائعة على تشغيل آلات خدمة الزبناء، وإنتاج نسخ تسويقية منخفضة الجودة.
في مقدور الذكاء الاصطناعي والأتمتة أن تحرر البشرية يوما ما من العمل كما نعرفه الآن. لكن لا شيء من هذا ممكن في ظل النظام الحالي. لن يتسن تحقيق ذلك إلا بتحرير هذه التكنولوجيا من قبضة الرأسمالية، ووضعها تحت تصرف المجتمع بأكمله.