الجشع الرهيب للربح من طرف القطاع الخاص والممارسات الإنتاجية المتهورة وتدمير البيئة وتقليص الاستثمار في البحوث الطبية، كلها عوامل جعلت الجوائح العالمية أكثر شيوعا وقوضت قدرتنا على مواجهتها. إن الرأسمالية لم تؤد فقط إلى ظهور هذا العدو غير المرئي والقاتل، بل إنها أكبر عقبة في معركتنا ضده.
[Source]
ورغم أن كوفيد 19 أخذ الحكومات في جميع أنحاء العالم على حين غرة، فإنه كان حادثا من المنتظر وقوعه. فالفوضى الاقتصادية والاجتماعية التي أثارتها الجائحة كان قد تم التحضير لها طيلة المرحلة السابقة، حيث كانت الرأسمالية قد عملت منذ فترة طويلة على وضع الأساس لهذه الكارثة في الصحة العامة.
“هل تريد لقاحا؟ أرني النقود”
يبشر المدافعون عن الرأسمالية بتفوق نظام السوق الحرة على نظام التخطيط الاقتصادي. لكن الواقع هو أن قوى السوق الحرة أكبر عائق أمام البحث والتطوير والإنتاج الصيدلاني. خلال العقدين الماضيين تفشت عدد من الأوبئة الفيروسية عبر العالم وأودت بحياة الآلاف (سارس – كوف 1، ميرس، زيكا، إيبولا، إلخ.) وحتى الآن لم يصل إلى الأسواق سوى لقاح واحد فقط لتلك الأمراض: لقاح إيبولا.[1]
فيروس كورونا ليس تهديدا مجهولا. يعد السارس فردا من عائلة فيروسات كورونا. وقد أنفقت حكومة الولايات المتحدة، على مدار العشرين عامًا الماضية، أكثر من 500 مليون جنيه إسترليني على الأبحاث بخصوص فيروسات كورونا[2]. ومع ذلك فإن العلماء يتقدمون ببطء شديد. أخبر الأستاذ في كلية ييل للصحة العامة، جايسون شوارتز، موقع Atlantic، في وقت سابق من هذا الشهر أنه: «لو أننا لم نضع برنامج الأبحاث حول لقاح السارس جانبا [في عام 2004]، لكانت لدينا اليوم الكثير من التراكمات الأساسية التي يمكننا تطبيقها على هذا الفيروس الجديد المرتبط بها ارتباطا وثيقا»[3]. إن نموذج الاستثمارات عالية التكلفة وعالية الربحية الذي تتبعه شركات البحث والتطوير الطبي من أجل الربح، لا يتلائم بشكل جيد مع الكفاح ضد الجوائح النشطة، لأن تلك الاستثمارات تجف فورا عندما تتلاشى الأزمة، مما يعني سحب التمويل وإيقاف البحث.[4]
ومع ذلك فقد أُعلن مؤخرا أن المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المعدية (NIAID) قد توصل بأول مقترح لقاح ضد كوفيد 19[5] . لقد تم إنتاج اللقاح من قبل (NIAID) بشراكة مع شركة تسمى Moderna، بناء على أبحاث أجريت في جامعات مختلفة في الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا[6]. تتم إجراءات الموافقة بسرعة، مما يعني أن التجارب يمكن أن تبـدأ في وقت مبكر من الشهر المقبل.[7] لكن سيمر عام على الأقل قبل أن يصير في الإمكان إنتاج مثل هذا اللقاح بكميات كبيرة، وبحلول ذلك الوقت قد تكون الجائحة حصدت ملايين البشر. وحتى في ذلك الحين سيحتاج معهد NIAID شركة أدوية كبيرة أخرى لتتولى مهمة تصنيع اللقاح. وذلك لأن الشركات الكبرى مثل Pfizer وNovartis، إلخ، تتحكم بيد من حديد في الجزء الأكبر من المواد الخام، ولديها براءات اختراع في عملية تصنيع اللقاحات[8]. وحتى الآن ليس لتلك القطط السمان في قطاع تصنيع الأدوية سوى القليل من الاهتمام بالموضوع. هذا على الرغم من أن وزير الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكي، أليكس عازار، قد صرح بأنه سيتم السماح لأي شركة خاصة تصنع العقار بأن تحدد أسعارا “معقولة” لمنتجها. وقال: «نحن بحاجة إلى القطاع الخاص للاستثمار. ولن نمارس ضبط الأسعار هناك».[9] يعتبر اللقاح بالنسبة لملايين الناس منقذًا للحياة، لكن الرأسماليين لن يستثمروا إذا لم تكن هناك أرباح من وراء صنعه. إن اقتصاد السوق يترك البشرية تواجه مصيرها.
غالبية الاستثمارات في قطاع البحث والتطوير في مجال الأدوية تأتي من القطاع الخاص، الذي استحوذ على 67% من إجمالي 194,2 مليار دولار التي تم استثمارها في قطاع الصحة الأمريكي عام 2018، مقارنة بـ 22% من قبل الهيئات الفيدرالية و 8% من المؤسسات الأكاديمية والبحثية.[10] تستخدم شركات الأدوية هذه التكاليف المرتفعة للبحث والتطوير كمبرر للرفع في أسعار الأدوية الأصلية والجنيسة، إلى درجة أن أدوية أساسية مثل الأنسولين يمكن أن تكلف في الولايات المتحدة من 25 دولارا إلى 100 دولار أمريكي للقنينة[11]. في عام 2015، تسبب رئيس شركة Turing Pharmaceuticals، مارتن شكريلي، في فضيحة بزيادته تكلفة دواء Daraprim (وهو دواء يستخدم في علاج الحالات المرتبطة بالإيدز) من 13,50 دولارًا إلى 750 دولارًا للحبة[12]. وعلى الرغم من الادعاء بأن تلك المكاسب يعاد استثمارها في تطوير الأدوية، فإن الغالبية العظمى من الأدوية الجديدة يتم إنتاجها من خلال الأبحاث الممولة أو المدعومة من طرف الدولة: بما في ذلك اللقاح المرشح الجديد لكوفيد 19[13]. وبدلاً من أن تقوم شركات الأدوية الخاصة بتعزيز البحث والابتكار الطبيين، فإنها تستخدم في الغالب نفوذها المالي لشراء براءات اختراع الأدوية التي تم تطويرها بالمال العام، وبيع مشتقات العقاقير الموجودة بأسعار مبالغ فيها.[14] وبهذه الممارسات (وبفعل الاستفادة من إلغاء قوانين مكافحة الاحتكار في التسعينات)، أصبحت شركات الأدوية هي القطاع الصناعي الشرعي الأسرع نموا والأعلى ربحية في العالم، حيث بلغت مداخيله 1,2 تريليون دولار أمريكي في عام 2018 وحده.[15]
ومع سهولة تدفق الأموال، لا تهتم شركات الأدوية الخاصة بتطوير لقاحات جديدة بمبادرة منها، وخاصة تلك اللقاحات الخاصة بالأوبئة النشطة. لم يفهم العلم بعد الآلية التي تعيش بها الفيروسات وتنتشر. كما أن أمراضا مثل فيروسات كورونا تتحول بسرعة كبيرة إلى سلالات جديدة. وتطوير اللقاح عملية صعبة ومكلفة وتستغرق وقتا طويلا، والأرباح في هذا المجال ليست مضمونة. زعم تريفور جونز، مدير رابطة صناعة الأدوية البريطانية، أن البحث عن عقار جديد وتطويره يكلف 500 مليون دولار، وتتوقع شركات الأدوية استعادة هذا الاستثمار خلال السنوات الثلاث إلى الخمس الأولى من المبيعات.[16] كان آخر “لقاح رائد” تم إنتاجه في القطاع الخاص هو لقاح Gardasil من طرف شركة Merck، للاستخدام ضد فيروس الورم الحليمي البشري، الذي صدر في عام 2006 بعد دورة تطوير طالت لمدة 20 عاما.[17] وقد أفادت مجلة فوربس مؤخرا أن هناك “أزمة ابتكار” في صناعة الأدوية، وحددت التناقض الرئيسي في قلب هذا القطاع بكونه: استمرار ارتفاع الأرباح، مقابل انخفاض عدد الأدوية واللقاحات الجديدة:
«يبدو أن تراجع الإنتاجية يمثل مشكلة غريبة في صناعة تولد نقودًا أكثر مما يمكنها استيعابه، وتتمتع بطلب غير محدود وبقوة تسعير احتكارية. لكن صناعة الأدوية ليست عملا “عاديا”. فكل دواء جديد وكل تحليل سريري هي تجربة. التطور بطبيعته لا يمكن التنبؤ به، كما يتضح في معدل النجاح الذي يبلغ 2% … إلا أن مراجعة البيانات حول التغيرات في قيمة الأدوية وإيرادات الصناعة ما بين 1995 و 2014 لم تظهر الانخفاض المتوقع. ولا تنبع مشكلة الإنتاجية من القيود المفروضة على الفرص [بل من] ارتفاع التكاليف».[18]
وباختصار يمثل تطوير أدوية جديدة مخاطرة كبيرة للغاية ولا يكفي لتحقيق ربح مضمون، مما يعني أن شركات الأدوية تكرس مواردها لأشياء أكثر ربحية، وتحقق مداخيل جيدة للغاية. وفي الوقت نفسه تستخدم شركات الأدوية الخاصة نفوذها لإعاقة تطوير وتصنيع أدوية جديدة من قبل أي جهة أخرى، بما في ذلك الدولة. والنتيجة هي أن الرأسماليين الذين يستحوذون على القطاع جعلونا عاجزين عن مواجهة الأزمات مثل تفشي كوفيد 19.
التناقضات والأزمات
ومع تباطؤ القطاع الخاص في البحث عن عقار، بدأت تبذل محاولات كثيرة للبحث والتطوير تحت إدارة الدولة. لكن ورغم أن مختبرات الأبحاث العمومية، في البلدان الرأسمالية المتقدمة، قد تلقت، خلال السنوات الأخيرة، المزيد من التمويل، فإنها لا تحصل سوى على حوالي 5% من إجمالي الإنفاق في الولايات المتحدة على سبيل المثال. وعلى النقيض من ذلك يحصل الإنفاق العسكري على 54%.[19] وبسبب القوة الهائلة التي تمتلكها أوليغارشية صناعة الأدوية فإنه يمكنها أن تُخضع الهيئات الحكومية لإرادتها إذا تعارضت مصالحهما. ليست الدولة هي التي تملي الشروط على رأس المال، بل العكس هو الصحيح.
آخر مرة وافقت فيها الحكومة الأمريكية على برنامج تطعيم وطني كانت ضد أنفلونزا الخنازير في عام 1976. وكانت أربع شركات أدوية –ميرك شارب دوهم وميريل وويث وبارك ديفس- قد رفضت أن تبيع للحكومة 100 مليون جرعة من اللقاح حتى يحصلوا على تعويض كامل عن المسؤولية وأرباح مضمونة.[20]
وقبيل اندلاع كوفيد 19 بوقت قصير، قام الائتلاف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة (CEPI) بتخصيص 750 مليار دولار لتسريع تطوير اللقاحات لعلاج الأوبئة الجديدة، بدعم من دول مثل اليابان وألمانيا وكندا إلخ. لكن شركات الأدوية الخاصة في اللجنة الاستشارية العلمية داخل CEPI (بما في ذلك جونسون اند جونسون وبفيزر وتاكيدا) أجبرت المنظمة على التراجع عن مبدأ «أنه من حق جميع البلدان أن تحصل، على قدم المساواة وبأسعار معقولة، على اللقاحات الممولة من طرف CEPI»[21]. وقد ضمن ذلك للرأسماليين أن يبقوا قادرين على تحقيق أرباح فاحشة مقابل أي لقاحات تطور من خلال هذا الصندوق، عند بيعها في أي سوق خارجية.
اثنان من أكبر العوائق التي تحول دون التقدم في مجال البحوث الطبية هما أيضا أكبر قيدين أمام تطور المجتمع بشكل عام، أي: الدولة القومية والملكية الخاصة. يؤثر صعود الميول الحمائية في جميع أنحاء العالم على سوق الأدوية أيضا، حيث تخفي الدول بحرص نتائج أبحاثها الصيدلانية – سواء الممولة من الدولة أو القطاع الخاص. وخلال أزمة كوفيد هذه شهدت هذه الاتجاهات تسارعا كبيرا. يتحصن زعماء العالم خلف حدودهم ويرفضون تقاسم الموارد الضرورية لمحاربة الجائحة. وقد شجب الرئيس الصربي مؤخرا “القصص الخيالية” التي تروى حول التضامن الأوروبي، نظرا لقوانين الاتحاد الأوروبي التي تمنع حركة الأطباء والإمدادات الطبية إلى البلدان التي هي خارج شنغن. ثم أعلن إغلاق حدود صربيا أمام “الأجانب”.[22] بل وفي الواقع انهار حتى التضامن بين بلدان شنغن أيضا، حيث حظرت ألمانيا في البداية تصدير أقنعة الوجه الضرورية جدا إلى بلدان مثل إيطاليا[23]. أغلقت 21 دولة، من أصل 26 دولة مشكلة لمنطقة شنغن، حدودها مما يشكل تهديدا وجوديا للاتحاد الأوروبي. إن هذا الجنون نتاج لنظام محتضر، انحط إلى الصراعات الداخلية في نفس الوقت بالضبط الذي صارت فيه الحاجة ماسة إلى الوحدة. الفيروسات لا تعرف حدودا ونقص التنسيق بين بلدان العالم يعيق بشدة قدرتنا على التصدي للجوائح.
في الآونة الأخيرة، قام طلاب في جامعة شيفيلد بدراسة تسلسل كل جينات فيروس كورونا عند مرضى المملكة المتحدة، ومن المقرر أن يجعلوا أبحاثهم علنية[24]. هذا إنجاز رائع نشأ من داخل الأوساط الأكاديمية المدعومة من الدولة. لكن هناك الآن سباق لتطوير لقاح قائم على أساس مثل هذه البحوث، وسعي من قبل مختلف الحكومات لضمان الاستفراد به. كان أول من انخرط في صراع الكلاب ذاك هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يتبع مبدأه “أمريكا أولا” من خلال تقديمه “مبالغ كبيرة” لشركة الأدوية الألمانية CureVac مقابل الحصول على حقوق حصرية في لقاح كوفيد 19 ومضادات الفيروسات.[25] يبدو أن الحكومة الألمانية قد تصدت لهذه الخطوة بتقديمها لعرض مضاد. من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب مزايدة، ستجبر ملايين الأشخاص وقطاعات الصحة العمومية على شراء اللقاحات بأسعار يحددها الفائز.
في ظل اقتصاد عالمي مخطط، سيصير من الممكن تجميع كل موارد الكوكب لتطوير علاج فعال لكوفيد 19. لكن المصالح المتناقضة للدول الرأسمالية تمنع ذلك. وفي ظل الرأسمالية لن تحرز محاولات التغلب على هذه العداوات نجاحا يذكر. وعلى سبيل المثال قامت منظمة الصحة العالمية بإطلاق برنامج التأهب للإنفلونزا الجائحة (PIP)، الذي يسهل تبادل البحوث الطبية بين البلدان. لكنه لا ينطبق سوى على الإنفلونزا، وليس على أي مرض معدي آخر يحتمل أن يؤدي إلى جائحة، وذلك بسبب ضغط لوبيات صناعة الأدوية والحكومات.[26]
والواقع أن منظمة الصحة العالمية نفسها ليست سوى قشرة فارغة. قامت إدارة ترامب بتخفيض تمويلها إلى النصف، وتحوم حولها الكثير من شائعات الفساد، وقد حل محلها البنك العالمي باعتباره أكبر ممول للصحة العامة على مستوى العالم.[27] كما شهدت هيئات مماثلة، مثل مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، انخفاض ميزانياتها خلال السنوات الأخيرة، نتيجة للنزعات الحمائية في الأسواق العالمية.[28]
وعلاوة على ذلك فإن الشركات الطبية في القطاع الخاص، تعتبر أن منتجاتها (سواء كانت هي التي قامت بتطويرها، أم اشترت براءات الاختراع فقط) ممتلكات خاصة بها، وتهتم فقط بإمكانياتها التسويقية، وليس بقدرتها على علاج الناس. وفي الآونة الأخيرة هددت شركة خاصة باتخاذ إجراءات قانونية ضد اثنين من المتطوعين كانا يصنعان، بتقنية ثلاثة أبعاد، صمامات للاستخدام في أجهزة التنفس، لبيعها بدولار واحد مقابل سعر السوق الذي يبلغ 11.000 دولار.[29] وتوجد الكثير من الأمثلة على جشع القطاع الخاص العامل بسوق الأدوية في كل أنحاء العالم. وعلى سبيل المثال فقد تضمنت اتفاقية 1994 بشأن حماية حقوق الملكية الفكرية (TRIPS) ضمانات لحماية الملكية الفكرية لجميع الشركات، بما في ذلك شركات الأدوية، عند بيع منتجاتها في أي بلد من البلدان الأعضاء في منظمة التجارة العالمية. يطرح هذا الكثير من المشاكل في البلدان الفقيرة، حيث الأدوية الأساسية ملكية فكرية للشركات الخاصة، التي تفرض أسعارا باهظة للغاية بالنسبة لهذه الأسواق، وتقاوم أي محاولة لإنتاج نماذج أرخص محليا. وأمام هذه المشكلة، أكد إعلان الدوحة بشأن اتفاق حماية حقوق الملكية الفكرية والصحة العامة، في عام 2001 (بمبادرة من منظمة الصحة العالمية) – والذي وافقت عليه جميع البلدان الأعضاء في منظمة التجارة العالمية- على أن الصحة العامة يجب أن تكون لها الأسبقية على إنفاذ حقوق الملكية الفكرية. ومع ذلك، فإنه وفقا لتقرير منظمة أوكسفام عام 2019: «تجاهلت الدول الغنية وشركات الأدوية إعلان الدوحة واتبعت أجندة عدوانية لإخضاع العالم النامي لحماية أشد للملكية الفكرية، من خلال اتفاقيات التجارة الحرة والضغط من جانب واحد».[30] وباختصار فإن الدول القوية ستسحق دائما الضعيفة، وحقوق الملكية الخاصة للرأسماليين تتفوق دائما على الحاجة الإنسانية.
أصدرت الحكومة البريطانية مؤخرا بيانا كشف، عن غير قصد، فشل ما يسمى بالسوق الحرة في التصدي لهذه الجائحة. فقد حظرت حكومة المحافظين تصدير 80 دواء (بما في ذلك ألوفيا والأدرينالين والمورفين) بسبب مضاربات الشركات الخاصة، التي كانت تحاول شراء الأدوية بثمن بخس في بريطانيا، ثم تخزينها وبيعها بسعر مبالغ فيه في الخارج. ولم يتم حظر هذا لأنه غير أخلاقي، بل فقط لأن الحكومة كانت تخشى من أن يؤدي إلى “تفاقم مشاكل العرض”.[31] وقد تبين أيضا أن شركة Rising Pharmaceuticals الأمريكية قد رفعت سعر الكلوروكين (دواء مضاد للملاريا، يتم اختباره ضد كوفيد 19) في 23 يناير، عندما أصبح حجم تفشي المرض في الصين واضحا. ارتفع سعر الدواء 97,86% إلى 7,66 دولار لكل حبة 250 ملغ و19,88 دولار لكل حبة 500 ملغ. على الرغم من أن الضغط أدى بهم إلى إعادة السعر بسرعة إلى سعر السوق “الطبيعي”، فإن شركة Rising قد تعرضت سابقا للتغريم بسبب رفع الأسعار، ومن الواضح أنهم كانوا ينوون استغلال معاناة الملايين لتحقيق مكاسب غير متوقعة[32]. ولن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي تسعى فيها شركة ما لتحقيق ربح سريع باستغلال الجائحة.
قارنوا ذلك مع إنتاج كوبا وتوزيعها لدواء إنترفيرون 2 ب، الذي تم تطويره عام 1986 من قبل الشركة العمومية BioCubaFarma بتعاون مع الصين. لقد تم اختبار هذا الدواء، الذي يمكنه أن يساعد في إيقاف بعض أعراض الإصابة بفيروس كورونا، على 1500 مريض بالفيروس في الصين وأعطى نتائج إيجابية بالفعل. وقد صدرت كوبا دواء إنترفيرون بكميات كبيرة إلى العديد من البلدان المتضررة بشدة مثل إيطاليا. كما أرسلت فرقا من الأطباء الكوبيين إلى عشرات البلدان للمساعدة في مكافحة تفشي المرض.[33] إنها شهادة واضحة على تفوق الاقتصاد المخطط بحيث تمكنت الجزيرة الكاريبية الصغيرة من أن تنتج علاجا فعالا لمرض استعصى على البلدان الرأسمالية الأقوى على وجه الأرض، وترسل الموارد الطبية إلى المحتاجين. وبالمثل ففي حين أوقفت شركات الأدوية الربحية أبحاثها حول مرض الزهايمر بسبب نقص العائدات، فإن شركات الأبحاث الطبية التي تديرها الدولة في كوبا حققت بعض الاختراقات المثيرة ضد مرض الزهايمر وفيروس نقص المناعة البشرية.[34] وغني عن القول إن الحظر التجاري الذي تفرضه الولايات المتحدة على كوبا سيكون عقبة أمام وصول أي من هذه العلاجات التي قد تنقذ الأرواح إلى الأشخاص الذين يحتاجون إليها، وستكون هناك عقوبات على أي شركاء تجاريين أمريكيين يقبلونها.
لقد تسببت قيود النظام الرأسمالي في ركود البحث والتطوير الطبي في مجال لقاحات الأمراض الخطيرة التي تهدد الحياة، ركود استمر منذ الستينيات. وتقف البشرية معرضة بشكل متزايد للجوائح العالمية (لأسباب سنشرحها لاحقا)، وأسلحتنا لمقاومتها أصبحت بالية. تقوم صناعة الأدوية بخصخصة أرباح هذا القطاع الأساسي وتأميم المخاطر. والحكومات الرأسمالية تسهل لها ذلك. قال باحث في الأمراض المعدية في مقابلة له مع صحيفة نيويورك تايمز مؤخرا: «ما الذي يهم شركات الأدوية أكثر؟ الحفاظ على الأسرار التجارية وتعزيز الأرباح، أم القيام بدور رائد في القضاء على تفشي كوفيد 19»[35] الجواب واضح مثل الشمس. إن أزمة الجائحة الحالية تقدم أفضل حجة لوضع هذه الطفيليات غير المنتجة تحت الرقابة الديمقراطية حتى يصير من الممكن الاستفادة من مواردها الهائلة.
الأشد فقرا يعانون أكثر
لم يضرب كوفيد 19 حتى الآن البلدان الأقل نموا بقوة. تم الإبلاغ مؤخرا عن بعض الحالات المؤكدة الأولى في الصومال وتنزانيا.[36] وتم الكشف عن حالة أخرى في قطاع غزة.[37] سوف ينتشر الفيروس حتما، وعندما سينتشر ستكون النتائج كارثية. كيف يمكن لبلد مثل الصومال – الذي بالكاد لديه حكومة، والذي توجد مساكنه وبنية الصرف الصحي عنده في حالة بائسة- أن يطبق إجراءات الابتعاد الاجتماعي أو تقديم الدعم لمن فقدوا عملهم؟ كيف يمكن لبنيته التحتية الطبية أن تتعامل مع آلاف المرضى؟ وبصرف النظر عن هذه البلدان الفقيرة، ماذا سيحدث عندما سيصاب آلاف اللاجئين من الشرق الأوسط، الذين يعيشون في الخيام في مخيمات المهاجرين الأوروبية، بالعدوى؟ الجواب واضح: لن يكون هناك أي احتواء، ولن تكون هناك أي استجابة طبية منسقة. سيتم ترك الناس لمصيرهم.
لا يخصص سوى أقل من 10% من الإنفاق العام على الأبحاث الصحية العالمية للأمراض التي تصيب 90% من سكان العالم الأكثر فقرا.[38] الأمراض الفتاكة مثل الإيدز والسل تكتسح البلدان الفقيرة. وتقتل الأمراض المدارية المهملة 500.000 شخص في العالم النامي كل عام.[39] وإذا كانت شركات الأدوية الخاصة تعتبر الحافز المالي لتطوير الأدوية للبلدان الرأسمالية المتقدمة ضعيفا، فإنها لا ترى أي حافز على الإطلاق عندما يتعلق الأمر بالبلدان الأكثر فقرا. أكد الدكتور هارفي بيل جونيور، رئيس الاتحاد الدولي لمنتجي الأدوية، أنه “لا يوجد سوق يذكر في العالم الفقير”.[40] وقال الدكتور برنارد بيكول، من منظمة أطباء بلا حدود، إن السعي من أجل الأرباح “يجعلك تركز على 300 إلى 400 مليون شخص في البلدان الغنية”.[41] هذا مثال واضح جدا عن مدى التناقض التناحري بين الإنتاج من أجل الربح وبين تلبية الحاجات.
ولإعطاء مثال على ذلك نشير إلى أنه في أواخر التسعينيات، تمت دراسة تسلسل جينوم فيروس السل. يتسبب السل في معاناة رهيبة في مناطق العالم الأكثر فقرا. لكن على الرغم من تنظيم منظمة الصحة العالمية لقمة عام 1998 من أجل كسب دعم شركات الأدوية الرائدة لتطوير لقاح وعلاجات، فإنه لم تكن أي من تلك الشركات مستعدة للالتزام بأي مشروع من شأنه أن يحقق أرباحا أقل من 350 مليون دولار سنويا لخمس سنوات أو أكثر. كان تحقيق هذا يتطلب تكلفة إجمالية قدرها 11 دولارا لكل حبة، لكل مريض في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، على سبيل المثال، والتي كانت في ذلك الوقت تنفق أقل من 10 دولارات أمريكية لكل مواطن سنويا وعلى جميع احتياجات الرعاية الصحية. أي باختصار فقد رفضت شركات الأدوية الخاصة تخصيص أي من مواردها للتخفيف من معاناة البلدان الفقيرة ما لم تحقق المستحيل. فتم التخلي عن المشروع. وبصرف النظر عن نقص الاستثمار في البحث والتطوير، فقد تخلت العديد من الشركات الخاصة عن إنتاج الأدوية الموجودة أصلا والتي لديها أهمية للعالم النامي، بما في ذلك خمسة أدوية لمرض النوم الأفريقي، والأمينوسيدين لمرض الليشمانيا بل حتى لقاح شلل الأطفال.[42] وعوض أن تساعد الرأسمالية المجتمع البشري على مكافحة الأمراض، فإنها على العكس تدفعه بقوة إلى الوراء.
حاولت بعض الهيئات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية ومجموعة الثماني، تحفيز استثمار القطاع الخاص في العالم الفقير من خلال تقديم إعانات مثل “التزامات السوق المتقدمة” (AMC)، والتي من خلالها توافق البلدان الرأسمالية المتقدمة على تغطية بعض تكاليف توفير اللقاحات بأسعار معقولة في البلدان حيث تكون الحاجة ماسة إليها.[43] كما تقدم إدارة الغذاء والدواء الأمريكية قسائم يمكن استبدالها لأي منتج مستقبلي للشركات التي تطور أدوية فعالة للأمراض المهملة.[44] لكن كل هذه المكافآت فشلت إما لأنها لا تقدم ما يكفي من الحوافز، أو لأن شركات الأدوية وجدت طرقا للتلاعب بالنظام وإثراء نفسها أكثر. وعلى سبيل المثال فمن خلال الاستفادة من تطبيق القسيمة المذكورة على الدواء المضاد للملاريا Coartem، حققت شركة Novartis ربحا إضافيا بقيمة 321 مليون دولار، فقط لأنها قامت بتسجيل منتجها عند إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، على الرغم من أن الدواء مستخدم بالفعل على نطاق واسع في أماكن أخرى.[45]
القيمة الوحيدة للعالم النامي من وجهة نظر شركات الأدوية الخاصة هي كونه مختبرا للقيام بتجاربها السريرية، والتي تمثل العمل الأكبر تكلفة في عملية تطوير الأدوية.[46] يمكن تقليص هذه التكلفة بشكل كبير عن طريق استغلال الناس كمواضيع اختبار في أماكن مثل الهند، حيث خلقت التجارب السريرية سوقًا مزدهرة. والأفضل من ذلك هو أنه يمكن لهذه الشركات أن تتجنب في كثير من الأحيان بعض الإجراءات، مثل المعايير الأخلاقية أو الموافقة المسبقة، من خلال نقل هذه العمليات إلى البلدان التي تكون فيها القوانين أكثر مرونة، وتحول الأشخاص اليائسين إلى فئران تجارب.[47]
سعت بعض البلدان الفقيرة إلى تعويض ارتفاع تكاليف الأدوية من خلال الاستثمار في طرق لتصنيع وتوزيع أدوية خاصة بها، على حساب تضخيم ديونها الأجنبية. لكن هذه الجهود تم إحباطها من قبل جمعية مصنعي المستحضرات الصيدلانية (المنظمة الرئيسية لأرباب هذه الصناعة)، التي تعتبر أن هذا يمثل “انتهاكا لحقوقها في السوق الحرة”[48] من 2008 إلى 2018، سعت مجموعة عمل بين حكومية دولية معنية بقطاع الصحة العمومية، وهي مجموعة الابتكار وحقوق الملكية الفكرية (IGWG)، إلى تلبية مطالب البلدان النامية بنظام عالمي للبحث والتطوير يخدم احتياجاتها بشكل أفضل. لكن توصياتها تعرضت للتجاهل بالكامل من قبل كل من الدول الإمبريالية وشركات الأدوية الخاصة. وقد لخصت منظمة أوكسفام الموقف في تقرير فاضح، حيث قالت:
«إن الافتقار إلى الابتكار الطبي هو مشكلة عالمية تتطلب زيادة كبيرة في الموارد، يتم تطبيقها بطريقة فعالة ومنسقة. لا يستخدم النظام الحالي للبحث والتطوير بشكل كاف القدرات والمهارات والموارد المتاحة في جميع البلدان. إن الجهود المبذولة لتحسين البحث والتطوير في جميع أنحاء العالم النامي مجزأة وغير مستدامة، ومن غير المحتمل أن تؤدي إلى تغييرات واسعة النطاق».
على الرغم من شكاوى أوكسفام وﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻋﻣل اﻟﻧوع اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﻲ ﺑﯾن اﻟوﻛﺎﻻت (IGWG)، فإنه لا يمكن تغيير قواعد الرأسمالية من خلال مناشدة الرأسماليين. فالرأسماليون لن يستثمروا إذا لم يكن هناك سوق مربح. إن الإصلاحات التي يقترحونها تتطلب قطيعة جذرية مع النظام الحالي. وبطبيعة الحال فإن الأبحاث حول أدوية الأمراض التي تصيب العالم النامي سيكون لها أيضا تأثير إيجابي على تطوير اللقاحات والعلاجات في البلدان الرأسمالية المتقدمة. لكن نظام السوق لا يفكر إلا في العوائد الفورية. أما حياة البشر فهي شيء غير مهم.
يعمل المرض أيضا على إبقاء فقراء العالم فقراء. إن أزمة فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز (التي تعود أصولها إلى انتقال العدوى من الرئيسيات إلى الإنسان بسبب سوق لحوم الطرائد غير القانونية، التي لجأ إليها السكان اليائسون بعد معاناتهم من مجاعات متتالية) حصدت في العالم النامي مثل المنجل خلال الثمانينيات والتسعينيات. مات ما يقارب 121 مليون شخص نتيجة لتلك الجائحة.[49] قدر البنك العالمي في عام 1991 أن فيروس نقص المناعة البشرية قد كلف أكثر من 4% من ميزانية الصحة في تنزانيا، و 7% في ملاوي، و9% في رواندا، و10% في بوروندي و55% في أوغندا.[50] علاوة على ذلك فقد تفاقمت الأوبئة في البلدان الفقيرة في إفريقيا والأمريكتين بسبب تأثير الحروب والانقلابات التي أثارها التدخل الإمبريالي، مما خرب البنى التحتية الصحية الضعيفة أصلا في تلك البلدان.[51] والمحاولات المهينة التي قام بها البنك العالمي في السبعينيات “للضغط” على البلدان الفقيرة لإنفاق المزيد على الوقاية من الأمراض والرعاية الصحية، اصطدمت مع حاجة تلك البلدان لخدمة الديون الهائلة لهيئات مثل صندوق النقد الدولي.[52] لقد جلبت الإمبريالية الخراب لتلك البلدان، ليس فقط من خلال الاستعمار والاستغلال والحرب، لكن أيضا من خلال الأمراض. وهم الآن بدون حماية عمليا ضد حالات الطوارئ مثل جائحة كوفيد 19.
تدمير البيئة والزراعة المكثفة: تربية المرض
في حين أن أصول كوفيد 19 ما تزال غير واضحة، فإنه يعتقد أن الفيروس قد انتقل من الحيوانات إلى البشر في نهاية العام الماضي في ووهان، عاصمة مقاطعة هوبي في الصين، وانتشر بعد ذلك من خلال الرحلات الوطنية والدولية بمناسبة السنة الصينية الجديدة.[53] وهذا مشابه لتفشي فيروس السارس عام 2003، والذي نتج عن انتقال سلالة متحولة من فيروسات كورونا في سوق للحيوانات الحية في مقاطعة غوانغدونغ.[54] لم تكن أي من حالات التفشي هذه حوادث “طبيعية”. لقد كانت نتيجة حتمية للاستغلال الرأسمالي الجشع، الذي يخلق أرضا خصبة للأمراض القاتلة التي يمكن أن تنمو عند الحيوانات وتنتشر إلى البشر.
إن الانتشار المتزايد للجوائح خلال السنوات الأخيرة يمكن تفسيره جزئيا بالتدمير الرأسمالي للبيئة. منذ عام 1940 ظهرت المئات من مسببات الأمراض الميكروبية في مناطق جديدة: بما في ذلك فيروس نقص المناعة البشرية وإيبولا في أفريقيا، وزيكا في الأمريكتين، وما إلى ذلك. لقد نشأ أكثر من ثلثي تلك الأمراض عن الحيوانات البرية، وليس الحيوانات الأليفة[55]. إن إزالة الغابات من خلال قطع الأشجار والتوسع الحضري وبناء الطرق والمناجم، يدمر أوساط عيش الأنواع البرية ويزيد من اتصالها بالمستوطنات البشرية، مما يوفر المزيد من الفرص للميكروبات التي تعيش بشكل غير ضار في أجسامها “لتنتشر” إلى أجسادنا. وقد قال عالم البيئة، توماس جيليسبي، في مقابلة مع مجلة Scientific American : «لست متفاجئا على الإطلاق من تفشي فيروس كورونا. إن غالبية مسببات الأمراض [في أجسام الحيوانات البرية] ما يزال يتعين اكتشافها. نحن نقف على طرف جبل الجليد».[56]
وعلى سبيل المثال فقد نشأ تفشي إيبولا عام 2017 من أنواع من الخفافيش، التي أجبرت على العيش في أشجار المزارع والساحات الخلفية للمنازل بسبب إزالة الغابات. وقد صارت هذه الحيوانات حاملات لسلالات الفيروسات من الحيوان إلى الإنسان بسبب الاتصال المتكرر بينهما، كما أنها تمرر مسببات الأمراض من خلال اللدغات أو البراز، أو من خلال بيعها كطعام في “الأسواق” غير الرسمية – حيث الكثير من الأنواع التي لن تصادف بعضها البعض في الطبيعة أبدا تجد نفسها مسجونة جنبا إلى جنب.[57] تعتبر هذه الأسواق مصدرا غذائيا أساسيا للفقراء في آسيا وأفريقيا، لكنها، حسب جيلسبي، تمثل «عاصفة مثالية لانتقال مسببات الأمراض عبر الأنواع. عندما تكون لديك تفاعلات جديدة مع مجموعة من الأنواع في مكان واحد، سواء كان ذلك في بيئة طبيعية، مثل غابة، أو في سوق، فإنه يمكنك أن تشهد عملية انتقال»[58] وهذا بالضبط ما أدى إلى الطفرة التي أسفرت عن وباء فيروس السارس، وربما كوفيد 19 أيضا[59] تقول إحدى الفرضيات إن الفيروس انتقل من خفاش أو آكل النمل في سوق إلى أول ضحية بشرية له: رجل يبلغ من العمر 55 عاما.[60]
ومع ذلك فإن هذا مجرد سيناريو واحد عن كيف يمكن أن تنشأ مسببات الأمراض الخطيرة من الحيوانات. ففي مصانع تربية الحيوانات، يتكدس مئات الآلاف من الأفراد في أماكن ضيقة، مما يخلق بيئة مثالية للميكروبات لتصبح مسببات للأمراض الفتاكة. إنفلونزا الطيور، على سبيل المثال، نشأت بين الطيور المائية البرية. لكن عندما تصل الأنفلونزا إلى مزارع الدجاج، فإنها تدمرها وتتحول بسرعة لتصبح أكثر ضراوة. هذا ما أنتج سلالة H5N1 من أنفلونزا الطيور التي بإمكانها أن تصيب البشر وتقتلهم[61] وعلاوة على ذلك فقد أدت محاولات زيادة إنتاج منتجات حيوانية معينة إلى ظهور مزارع أحادية الزراعة على نطاق واسع – حيث يتم تربية نوع واحد فقط من الحيوانات. وهذا يخلق بيئة مثالية لتطور الفيروسات الخطيرة.[62] إنفلونزا الخنازير، على سبيل المثال، نشأت في المزارع الأحادية للخنازير، على الرغم من أن مصنعي تربية الخنازير ضغطوا على منظمة الصحة العالمية لإعادة تسمية أنفلونزا الخنازير باسمها العلمي، H1N1، وذلك لتحويل الانتباه عن أصلها.[63] بل قد افترض بعض العلماء أن المزارع الأحادية لتربية الخنازير ربما تكون قد أدت إلى ظهور فيروس كورونا الجديد[64].
تؤثر هذه القضايا على الأعمال الزراعية في جميع البلدان الرأسمالية المتقدمة، وقد شكلت عمليات إنتاج الغذاء في الولايات المتحدة وأوروبا الحاضنة الأولى لأنفلونزا H5N2 وH5Nx، اللتان قلل مسؤولو الصحة العامة الأمريكيين من خطورتهما[65]. ومع ذلك فليس من قبيل الصدفة أن العديد من الأوبئة الخطيرة في السنوات العديدة الماضية قد جاءت من الصين. وهنا أيضا يقع اللوم على الإنتاج الرأسمالي.
لقد تسبب التطور السريع للاقتصاد الصيني، على أساس رأسمالي، في خلق بيئة وبائية خصبة في الصين. يعمل كتاب روب والاس «المزارع الكبيرة تصنع إنفلونزا كبيرة: بقع حول الإنفلونزا»، على تتبع ظهور إنفلونزا الطيور في الصين. ويشرح كيف قامت البلاد خلال الثمانينيات والتسعينيات بتحديث وتجميع شركاتها الزراعية في مقاطعات مثل غوانغدونغ، حيث تم تسجيل أول حالة إصابة بفيروس H5N1 عام 1997. وقد استدعيت الشركات الأجنبية مثل Charoen Pokphand (CP) لإنشاء متاجر لها في غوانغدونغ، وإقامة عمليات متكاملة حيث يتم توفير الحيوانات وأعلافها ومعامل توليدها من قبل نفس الشركة.
أدى ذلك إلى انفجار في عدد البط والدجاج المنتج سنويا. تم تطبيق تقنيات الزراعة المكثفة على الطريقة الأمريكية لتلبية طلب السوق وزيادة الأرباح إلى أقصى حد، ودمرت المنافسة الشرسة الإنتاج الزراعي الريفي عند مجتمعات الفلاحين، مما أدى إلى هجرة داخلية ضخمة إلى تلك المقاطعات[66] وقد وضع ذلك مزارع أحادية ضخمة للدواجن على اتصال وثيق مع مجموعات بشرية كثيفة العدد. تعتبر هوبي سادس أكبر مقاطعة منتجة للدواجن في الصين، ويبلغ عدد سكانها 58,5 مليون نسمة.[67] وبغض النظر عن أصل كوفيد 19، فإن هوبي كانت دائما قنبلة موقوتة لاندلاع المرض.
إن القوة الاقتصادية الهائلة لشركات مثل CP (التي تنتج الآن 600 مليون من مجموع الدجاج الصيني المقدر بـ 2,2 مليار سنويا) تتحول إلى قوة سياسية ضخمة في آسيا، تستخدمها عندما تؤدي أفعالها إلى حدوث أوبئة. فعلى سبيل المثال، كانت CP الداعم الرئيسي لقطب الاتصالات، ورئيس وزراء تايلاند، ثاكسين شيناواترا، خلال أول وباء لإنفلونزا الطيور في البلاد، والذي صاحبت وعوده بإدارة البلاد “مثل شركة تجارية” هجمات واسعة النطاق على حقوق العمال ولبرالية متوحشة للاقتصاد التايلاندي.[68] وعندما بدأ تفشي المرض في تايلاند، لعب شيناواترا دورا نشطًا في عرقلة الجهود لوقف انتشار إنفلونزا الطيور. لقد كثفت مصانع تربية الدجاج من إنتاجها بالفعل، حيث أفاد نقابيون أن أحد المصانع استمر ينتج ما بين 90.000 إلى 130.000 من الدواجن يوميا، على الرغم من أنه كان من الواضح أن الدجاج كان مريضًا.[69] وقد ظهر شيناواترا ووزراؤه على شاشة التلفزيون وهم يأكلون الدجاج لإظهار ثقتهم فيه، لكن وراء الكواليس، كانت شركة CP وغيرها من الشركات التجارية الزراعية الكبرى الأخرى تتواطأ مع الحكومة لإرشاء المزارعين المتعاقدين للحفاظ على صمتهم بشأن أسرابهم المصابة. وفي المقابل كانت الحكومة تزود بشكل سري مزارعي الشركات باللقاحات، في حين بقي المزارعون الأفقر في جهل يعرضون أنفسهم وحيواناتهم للخطر.[70] وعندما حظرت اليابان استيراد الدواجن من الصين خلال تلك الأزمة، انتهزت مصانع CP في تايلاند الفرصة مما مكنها من تحقيق أرباح أكبر من وراء وباء كانت هي من صنعه إلى حد كبير![71]
هناك تهديد آخر طويل الأمد تسببه الزراعة المكثفة (والذي سأعود إليه لاحقا) وهو زراعة الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية. بعد وقت قصير من اكتشاف المضادات الحيوية التي أحدثت ثورة في العلوم الطبية، تم اكتشاف أن الماشية باهظة الثمن تعيش لفترة أطول عند تناولها لتلك المضادات. لكن لسوء الحظ تضع الماشية التي تخضع لهذه العلاجات أكثر من ضعف الضغط الانتقائي العام على تجمعات البكتريا لتتطور وتصبح أكثر مقاومة، مما يؤدي إلى تفاقم مشكلة قائمة وخطيرة للغاية على الصحة العامة.[72]
وباختصار فقد ساهم الضغط الهائل الذي فرضه الإنتاج الرأسمالي على الحيوانات والبيئة في تطور سيناريو خطير للغاية، حيث تتطور مسببات الأمراض المعدية للبشر وتنتشر بمعدل متسارع. وحسب كلمات إنجلز في ديالكتيك الطبيعة:
«دعونا لا … نبالغ كثيرا في مدح أنفسنا بسبب انتصاراتنا البشرية على الطبيعة. لأن الطبيعة تنتقم منا مقابل كل انتصار من هذا النوع. صحيح أن كل انتصار يؤدي في المقام الأول إلى النتائج التي توقعناها، لكن في نفس الآن تكون له تأثيرات مختلفة وغير متوقعة تماما وغالبا ما تلغي النتائج الأولى…»[73]
ويصدق هذا أكثر على مسببات الأمراض التي تنشأ في المزارع الصناعية. لكن ليست لأي من هذه المشاكل علاقة بإنتاج الغذاء بكفاءة، بل كلها تنبع من تقنيات الزراعة المكثفة، المصممة أساسا لزيادة الأرباح إلى أقصى حد، والتي تكون قاسية جدا مع الحيوانات التي نتناولها، ومدمرة للصحة العامة. ليس هناك من سبب لكي تكون مشاريع الزراعة الأحادية للحيوانات، التي تقدم لها المضادات الحيوية، مكتظة في المصانع الجهنمية، فتصبح أرضا خصبة للأمراض. في ظل اقتصاد مخطط بشكل عقلاني، سيمكن جعل جميع هذه العمليات فعالة وإنسانية وآمنة قدر الإمكان، دون الحاجة إلى إشباع شهوة الرأسماليين للأرباح.
“تفشي الأمراض حتمي، أما الجوائح فهي اختيارية”
في عام 1994، كتبت الصحفية الحائزة على جائزة بوليتزر، لوري جاريت، كتابا بعنوان: “الطاعون القادم: الأمراض الناشئة حديثا في عالم فاقد للتوازن”. وأعقبت ذلك في عام 2001 بكتاب “خيانة الثقة: انهيار الصحة العامة العالمية”. وفي هذين الكتابين أوضحت أن «الإخلال البشري بالبيئة العالمية، إلى جانب السلوكيات التي تنشر الميكروبات بسهولة بين الناس ومن الحيوانات إلى البشر، عوامل ستؤدي إلى طفرة عالمية في الأوبئة، بل وحتى إلى جائحة هائلة. وقد دعم هذا التفشي وعززه ضعف الأنظمة الصحية والسلوك البشري والافتقار التام إلى الدعم السياسي والمالي لأجل التأهب لمكافحة الأمراض في جميع أنحاء العالم».[74] ورغم أنها لم تقلها صراحة فإن هذين الكتابين يمثلان اتهاما مباشرا للرأسمالية وآثارها المدمرة على الصحة العامة.[75]
وتواصل قائلة: «بين عامي 2011 و2018، قامت منظمة الصحة العالمية بتتبع 1.483 حدث وبائي في 172 بلدا. إن الأمراض المسببة للوباء مثل الإنفلونزا ومتلازمة الجهاز التنفسي الحادة الوخيمة (سارز) ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس) وإيبولا وزيكا والطاعون والحمى الصفراء وغيرها، هي نُذر لعصر جديد من الأمراض وخيمة العواقب وسريعة الانتشار والتي صار يتم اكتشافها بشكل متكرر ويصعب التحكم فيها بشكل متزايد… وأي بلد ليست لديه الرعاية الصحية الأولية وخدمات الصحة العامة والبنية التحتية الصحية الملائمة وآليات مكافحة العدوى الفعالة، سيواجه أكبر الخسائر، بما في ذلك الوفيات والنزوح والدمار الاقتصادي».[76]
وبعبارة أخرى، فإن أزمة كوفيد 19 الحالية هي جزء من حقبة جديدة ستصبح فيها الجوائح أكثر شيوعا، للأسباب المذكورة أعلاه. إن العالم غير مستعد لذلك، والبلدان الأشد فقرا هي التي ستعاني أكثر. وبصرف النظر عن ظهور مسببات أمراض جديدة، فإن هناك تهديدات أخرى في الأفق، بما في ذلك سلالات الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية، مثل المكورات العقدية والمكورات العنقودية، التي زرعت في المستشفيات في البلدان الرأسمالية المتقدمة، بسبب الاعتماد المفرط على المضادات الحيوية التي تم تطويرها في مرحلة ما بعد الحرب.[77]
وقد عادت أمراض القرنين التاسع عشر والعشرين، مثل السل، إلى الظهور بقوة في المجتمعات الفقيرة، مثل هارلم بمدينة نيويورك، وصارت تطور مقاومة للمضادات الحيوية.[78] خلال التسعينات قدمت جامعة كاليفورنيا توقعات بأنه بحلول عام 2070 سيكون العالم قد استنفد جميع خيارات الأدوية المضادة للميكروبات، حيث أن الفيروسات والبكتيريا والطفيليات والفطريات ستكون قد طورت مقاومة كاملة لترسانة الأدوية البشرية[79] يمكن تجنب هذا السيناريو المروع إذا تم الاستثمار أكثر في البحث والتطوير للقاحات وعلاجات بديلة. لكن وكما أوضحنا، فإن هذا ليس طريقا مربحا بالنسبة لشركات الأدوية الكبرى.
وردا على تقرير التأهب العالمي للطوارئ الصحية (GPMB) المذكور أعلاه، كانت غاريت متشككة في أن تسفر أي من مقترحاته (التي تقترح على الحكومات والشركات الخاصة التعاون بشكل أكثر فعالية في مجالي التمويل والبحث) عن أي نتيجة. وكتبت: «ومع عدم وجود نية في تحطيم جهود GPMB، يجب أن أقول للأسف إن هذه المناشدة أطلقت مرات عديدة من قبل، لكن لم يكن لها إلا تأثير ضئيل على القادة السياسيين أو المؤسسات المالية أو المنظمات المتعددة الجنسيات. وليس هناك سبب للاعتقاد بأن هذه المرة ستكون مختلفة».[80]
وبالفعل فإنه في ظل الرأسمالية من غير المرجح أن يتحسن الوضع. فالنظام الرأسمالي هو الذي أدى إلى ظهور هذه الأمراض، كما أن الأنماط المعيشية للمجتمعات الرأسمالية الحديثة تخلق ظروفا مثالية لانتشارها. وقد أدى التمدين إلى تركيز الغالبية العظمى من سكان الكوكب، البالغ عددهم 8 مليارات نسمة، في مجموعات سكانية كثيفة، حيث يمكن للأمراض أن تنتشر بسرعة. وتؤدي الزيادة الهائلة في الحركة العالمية للأشخاص والبضائع (التي يسرتها وسائل النقل الحديثة، وتفاقمت بسبب الحروب وتغير المناخ) إلى إنشاء قنوات ملائمة للميكروبات لكي تنتشر عبر الكوكب. لم يستغرق الأمر سوى أيام قبل أن ينتشر كوفيد 19 من أحد طرفي الأرض إلى الطرف الآخر. إن مثل هذه المشكلة العالمية تتطلب حلا عالميا. لكن، وكما سبقت الاشارة، فإن العَداء بين الدول الرأسمالية المختلفة وحقوق الملكية الخاصة لشركات الأدوية الكبرى وأسلوب الإنتاج القائم على الربح عوامل تمنع الاستجابة المنسقة اللازمة لمكافحة الجوائح.
كانت فترة الازدهار الرأسمالي لما بعد الحرب [العالمية الثانية] فترة ازدهار كبير لقطاع الصحة العامة. أدى تحسين ظروف الإسكان والصرف الصحي واكتشاف المضادات الحيوية إلى زيادة متوسط العمر المتوقع بشكل كبير.[81] ففي المملكة المتحدة عادت الطبقة العاملة من الحرب لتطالب بالإصلاحات، ومن بينها الصحة العمومية وتقديم خدمات طبية جيدة مجانية. وفي عام 1955، نجح لقاح الدكتور جوناس سالك ضد شلل الأطفال في تقليل حالات المرض في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية من 76.000 عام 1955 إلى 1000 عام 1967.[82] وعام 1978، عقدت منظمة الصحة العالمية اجتماعا لوزراء الصحة من أكثر من 130 بلدا في ألما آتا بالاتحاد السوفياتي، وأصدرت وثيقة (“إعلان ألما آتا”) دعت فيها إلى «تمكين جميع شعوب العالم بحلول عام 2000 من مستوى من الصحة يتيح لهم أن يعيشوا حياة منتجة اجتماعيا واقتصاديا»، مع تعريف الصحة على أنها «حالة من الرفاه البدني والعقلي والاجتماعي الكامل، وليس مجرد غياب المرض أو العجز»، وأنها «حق أساسي من حقوق الإنسان».[83] لكن اليوم، وعوض أن تكون الصحة حقا من حقوق الإنسان، فإن ملايين الناس محرومين منها بشكل كامل. وإضافة إلى ذلك فقد أدت سنوات من تخفيض الاستثمار والخصخصة إلى توقف التقدم في البحوث الطبية، وتقليص المكاسب الديمقراطية التي تحققت في فترة ما بعد الحرب. لقد استقبلت الطبقة السائدة الأزمة الحالية بكلبية مالتوسية وحشية، بحيث أعلنوا صراحة وجود “آثار اقتصادية إيجابية” لكوفيد 19الذي سيقتل الفئات “غير منتجة” في المجتمع.[84]
لقد تسبب التقشف الذي أعقب انهيار 2008 في تدمير رهيب لقطاع الصحة العامة، والذي ظهرت عواقبه بشكل جلي بسبب التفشي الجديد لفيروس كورونا.[85] ففي كل مكان جعل غياب أجهزة الاختبار (المصنعة من قبل القطاع الخاص) من المستحيل جمع بيانات دقيقة عن مدى انتشار جائحة كورونا. وتعاني المستشفيات من نقص رهيب في الأسرة الطبية. ويتم إعادة عمال الصحة المتقاعدين إلى الخدمة.
كانت بلدان مثل بريطانيا قد استهانت في البداية بخطورة الفيروس، قبل أن تغير موقفها كليا وتفرض الإغلاق التام. والخطابات التي أطلقوها في البداية عن “التخفيف” و”تسوية المنحنى”، بدلا من الحديث عن احتواء المرض، كان سببها جزئيا رغبتهم في تجنب تعطيل الاقتصاد، لكن أيضا بسبب أن قطاع الخدمة الصحية لا يمكنه تحمل عبء تفشي المرض، الذي يمكن أن يستمر حتى عام 2021، ويستقبل 08 ملايين شخص في المستشفيات.[86] وفي الوقت نفسه أدت سياسة التفكيك والاقتطاعات المتتالية ضد نظام الرعاية الصحية الإيطالي، على مدار الثلاثين عامًا الماضية، إلى نقص كبير في أجهزة التنفس والأسرة الطبية، بل وحتى أقنعة الوجه ومطهرات اليد، في واحدة من أكثر البلدان تضرراً.[87] لم يعد للمستشفيات الإيطالية المكتظة من خيار سوى اختيار من سيعيش أو سيموت على أساس العمر. يعاني العاملون في مجال الصحة من الإرهاق التام، حيث هناك صور لممرضين إيطاليين ينهارون بسبب الإرهاق.[88]
وعلاوة على ذلك فقد رفض أرباب العمل في مختلف البلدان اتخاذ تدابير السلامة المناسبة أو وقف الإنتاج، حتى أجبروا على ذلك بفعل الإضرابات العمالية. وحتى في الحالات التي وافقت فيها الحكومات البرجوازية على ضمان الأجور وتأميم بعض القطاعات من أجل إنقاذ النظام الرأسمالي، فمن المتوقع أن يتم تحميل الطبقة العاملة حتما الفاتورة بعد انقشاع الغبار. إن الرأسمالية لم تجعل من تفشي الأمراض الجديدة مسألة أكثر احتمالا فحسب، بل دمرت قطاع الصحة العامة إلى درجة أنه صار غير قادر على مواجهة تلك الأمراض.
وكما قال عالم الأوبئة الذي قاد مكافحة الجذري، لاري بريليانت: «تفشي الأمراض حتمي، أما الجوائح فهي اختيارية»[89]. لا شيء مما حدث حتمي. ففي ظل اقتصاد مخطط، سيتم توجيه كل القدرات البشرية لتطوير لقاحات للأمراض الفتاكة. سيتم تعميم برامج للتعقيم الجماعي مجانا في كل بلدان العالم، للقضاء على الأمراض مثل إيبولا، مثلما حدث مع مرض الجذري. كما سيمكن استبدال المشاكل البيئية وتقنيات الزراعة المكثفة التي تخلق أرضا خصبة لمسببات الأمراض، بإنتاج عقلاني مخطط منسجم مع الطبيعة، يعطي الأولوية لرفاهية الإنسان والحيوان وليس الأرباح.
سيمكن مواجهة أي تفشي فيروسي جديد باستجابة عالمية منسقة لمنعه من الوصول إلى مستويات الجائحة. وسيمكن مشاركة جميع البحوث والموارد لعلاج الحالات المصابة واستخدامها على أساس الحاجة. وبدلا من الاضطرار إلى دفع الأموال الطائلة لشركات الأدوية الخاصة، ستتم مصادرتها وإدارتها على أساس ديمقراطي لإنتاج اللقاحات والمضادات حسب الحاجة. وبدلاً من إهدار الملايين من المال العام لشراء أسرة المستشفيات، سيمكن ببساطة مصادرتها. سيمكن إقامة مرافق الاختبار والحجر الصحي لإدارة الطوارئ. وبدلا من الدول الرأسمالية المعادية التي تتسابق لاحتكار الموارد – وتسعى لتحقيق الأرباح على حساب الصحة العامة – سيمكن لفدرالية الدول الاشتراكية أن تشكل جبهة موحدة ضد الأوبئة. وسيمكن وقف الإنتاج غير الضروري وتنفيذ تدابير التباعد الاجتماعي كلما لزم الأمر، دون أي تأثير على الأجور. وسيمكن التخطيط لتوزيع المعدات والسلع الأساسية، بحيث لن يشعر أحد بالحاجة إلى تخزين الضروريات.
يمثل الطب الحديث انتصارا هائلا للمجتمع البشري على الطبيعة. لقد تمكن، على الأقل في البلدان الرأسمالية المتقدمة، من مضاعفة متوسط العمر المتوقع وحسن جودة الحياة بشكل كبير. إن أي مجتمع حديث لا يستطيع أن يضمن الصحة لسكانه وحمايتهم من الأوبئة التي يمكن الوقاية منها، لا يمكن اعتباره مجتمعا متحضرا. وبينما يستهين الرأسماليون، وخدمهم السياسيون، بحالات الطوارئ الصحية العامة ويكتفون بأن يخبروا الشعب بأن يستعد لفقدان أحبائه[90] فإن المجتمع الاشتراكي سيزود البشرية بالأسلحة التي تحتاجها في المعركة ضد المرض.
إن التعامل البربري وغير الكفؤة للحكومات الرأسمالية مع جائحة كوفيد 19 والتداعيات الاجتماعية الناتجة عنها، ستثير قفزة إلى الأمام في وعي الجماهير. وبالفعل بدأنا نشهد إضرابات عفوية في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا والولايات المتحدة وكندا وأماكن أخرى، ضد محاولات أرباب العمل إجبار العمال على الاختيار بين التعرض للعدوى في أماكن عملهم، أو فقدان الأجور. هذا مجرد نذير لما سيأتي. نحن ندخل حقبة جديدة من النضال الدرامي ضد نظام مريض محتضر.
جو أتارد
24 مارس 2020
مصدر وعنوان المقال بالإنجليزية:
Pandemics, profiteering and big pharma: how capitalism plagues public health
هوامش:
[1] https://www.theguardian.com/commentisfree/2020/mar/04/market-coronavirus-vaccine-us-health-virus-pharmaceutical-business
[2] Ibid
[3] https://www.theatlantic.com/health/archive/2020/02/covid-vaccine/607000/
[4] https://www.researchgate.net/publication/321462556_Pharma’s_broken_business_model_An_industry_on_the_brink_of_terminal_decline_Comment
[5] https://www.theguardian.com/commentisfree/2020/mar/04/market-coronavirus-vaccine-us-health-virus-pharmaceutical-business
[6] http://www.virology.ws/2020/03/11/sars-cov-2-the-vaccine-landscape/
[7] https://www.theguardian.com/commentisfree/2020/mar/04/market-coronavirus-vaccine-us-health-virus-pharmaceutical-business
[8] Ibid
[9] Ibid
[10] https://www.healthcarefinancenews.com/news/investment-medical-and-health-rd-not-keeping-needs-nation-report-finds
[11] Betrayal of Trust: The Collapse of Global Public Health, Laurie Garrett, 420
[12] https://www.washingtonpost.com/business/economy/turing-reneges-on-drug-price-cut-rivals-version-sells-well/2015/11/25/d2c22bd8-93cd-11e5-b5e4-279b4501e8a6_story.html
[13] https://foreignpolicy.com/2019/09/20/the-world-knows-an-apocalyptic-pandemic-is-coming/
[14] Ibid
[15] https://pharmaceuticalcommerce.com/business-and-finance/global-pharma-spending-will-hit-1-5-trillion-in-2023-says-iqvia/
[16] Garrett, 409.
[17] https://www.theguardian.com/commentisfree/2020/mar/04/market-coronavirus-vaccine-us-health-virus-pharmaceutical-business
[18] https://www.forbes.com/sites/stanfleming/2018/09/06/why-experts-cant-fix-pharmas-innovation-crisis-part-1-and-what-to-do-about-it-part-2/#7a34f86116fe
[19] https://www.researchamerica.org/sites/default/files/Policy_Advocacy/2013-2017InvestmentReportFall2018.pdf
[20] https://www.nytimes.com/2020/03/02/opinion/contributors/pharma-vaccines.html
[21] Ibid
[22] https://www.nationalreview.com/news/coronavirus-outbreak-serbian-president-aleksandar-vucic-labels-european-solidarity-fairy-tale-says-only-china-can-assist-in-coronavirus-response/
[23] https://www.politico.eu/article/health-ministers-squabble-over-face-masks-at-coronavirus-talks/
[24] https://www.sheffield.ac.uk/news/nr/coronavirus-genomes-sequenced-sheffield-1.883916
[25] https://www.theguardian.com/us-news/2020/mar/15/trump-offers-large-sums-for-exclusive-access-to-coronavirus-vaccine
[26] https://apps.who.int/gpmb/assets/annual_report/GPMB_annualreport_2019.pdf
[27] Garrett, 8
[28] https://fortune.com/2020/02/26/coronavirus-covid-19-cdc-budget-cuts-us-trump/
[29] https://www.theverge.com/2020/3/17/21184308/coronavirus-italy-medical-company-threatens-sue-3d-print-valves-treatments
[30] https://www.oxfam.org/en/research/ending-rd-crisis-public-health
[31] https://www.pharmaceutical-technology.com/comment/parallel-export-covid-19/
[32] https://www.ft.com/content/b7a21a16-6a1f-11ea-800d-da70cff6e4d3?fbclid=IwAR17QAt70-dLt67GrwJ5l2YPOiyqHUDJbpHurevbyCPrybgc8atfnXtimqY
[33] https://morningstaronline.co.uk/article/cuban-drug-could-save-thousands-lives-coronavirus-pandemic
[34] https://www.theguardian.com/society/2015/jun/30/cuba-first-eliminate-mother-baby-hiv-transmission
[35] https://www.oxfam.org/en/research/ending-rd-crisis-public-health
[36] https://www.aljazeera.com/news/2020/03/toll-rises-coronavirus-tightens-global-grip-live-updates-200315231500487.html
[37] https://www.reuters.com/article/us-health-coronavirus-palestinians-gaza/first-coronavirus-cases-confirmed-in-the-palestinian-gaza-strip-idUSKBN2190FA?il=0&utm_source=reddit.com&fbclid=IwAR0wWapPfpr_mdM08OBBiWhbiBB-dTE_d173dZ4JbMCulyJreWUfaDAfpRM
[38] Ibid
[39] Ibid
[40] Garrett, 422.
[41] Ibid, 423
[42] Ibid, 423
[43] https://www.oxfam.org/en/research/ending-rd-crisis-public-health
[44] Ibid
[45] Ibid
[46] Ibid
[47] Ibid
[48] The Coming Plague: Newly Emerging Diseases in a World out of Balance, Garrett, 232
[49] Ibid, 661.
[50] Ibid, 659.
[51] Ibid, 86.
[52] https://www.oxfam.org/en/research/ending-rd-crisis-public-health
[53] https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(20)30374-3/fulltext
[54] Ibid
[55] https://www.thenation.com/article/environment/coronavirus-habitat-loss/
[56] https://www.scientificamerican.com/article/destroyed-habitat-creates-the-perfect-conditions-for-coronavirus-to-emerge/?
[57] Ibid
[58] https://www.scientificamerican.com/article/destroyed-habitat-creates-the-perfect-conditions-for-coronavirus-to-emerge/?
[59] Ibid
[60] https://www.nytimes.com/2020/03/05/opinion/coronavirus-china-pangolins.html
[61] Big Farms Make Big Flu: Dispatches on Influenza, Agribusiness, and the Nature of Science, Rob Wallace, 32
[62] Ibid, 56
[63] Ibid, 38
[64] https://climateandcapitalism.com/2020/01/29/coronavirus-a-deadly-result/
[65] Ibid
[66] Rob Wallace, 66
[67] https://www.cnbc.com/2020/02/06/millions-of-chickens-at-risk-amid-china-lockdowns-due-to-coronavirus.html
[68] Wallace, 64
[69] Ibid, 64
[70] Ibid, 64
[71] Ibid, 34
[72] Garrett, The Coming Plague, 594.
[73] Friedrich Engels, Dialectics of Nature, Chapter IX
[74] https://foreignpolicy.com/2019/09/20/the-world-knows-an-apocalyptic-pandemic-is-coming/
[75] https://apps.who.int/gpmb/assets/annual_report/GPMB_annualreport_2019.pdf
[76] Ibid
[77] Garrett, The Coming Plague, 566
[78] Ibid, 382
[79] Garrett, Betrayal of Trust, 412
[80] https://foreignpolicy.com/2019/09/20/the-world-knows-an-apocalyptic-pandemic-is-coming/
[81] Garrett, The Coming Plague, 429
[82] Ibid, 46
[83] Ibid, 290
[84] https://metro.co.uk/2020/03/11/telegraph-journalist-says-coronavirus-cull-elderly-benefit-economy-12383907/
[85] https://www.marxist.com/coronavirus-pandemic-opens-a-new-stage-in-world-history.htm
[86] https://www.theguardian.com/world/2020/mar/15/uk-coronavirus-crisis-to-last-until-spring-2021-and-could-see-79m-hospitalised
[87] http://www.cidrap.umn.edu/news-perspective/2020/03/doctors-covid-19-pushing-italian-icus-toward-collapse
[88] https://news.sky.com/story/coronavirus-bruised-by-face-masks-nurses-show-the-impact-of-fighting-the-pandemic-11955457
[89] https://news.harvard.edu/gazette/story/2014/12/epidemics-are-optional/
[90] https://www.thetimes.co.uk/article/10-000-already-infected-with-coronavirus-ministers-believe-2h578fkf9