نورييل روبيني اقتصادي برجوازي غير تقليدي مثير للاهتمام. السبب الرئيسي في شهرته هو أنه كان قد توقع، بشكل صحيح، الأزمة المالية لعام 2008، وهو إنجاز لم يستسغه معظم الاقتصاديين الآخرين، الذين لم يتوقعوا شيئا على الإطلاق.
[Source]
لكن وعلى الرغم من كل ذلك فقد كرموه بلقب غير مهذب للغاية “الدكتور شؤم” (Doctor Doom)، وذلك ربما لأن منظوراته المتشائمة للرأسمالية العالمية لا تتناسب بشكل جيد مع جوقة التفاؤل والثقة الراسخة في “اقتصاد السوق الحر”.
لا شك أن هذا لن يساعده كثيرا في تحسين سمعته بين زملائه الاقتصاديين. لكن وبما أن اعتراضهم الرئيسي عليه هو أنه أثبت، في كثير من الأحيان، أنه على حق، فإنه لا داعي لأن تزعجنا احتجاجاتهم.
باختصار، لقد حذر روبيني من أن العالم بأسره يتجه، بعينين مغمضتين، نحو أزمة ديون كارثية. وهو يشبه الوضع بالأرجنتين التي تخلفت عن سداد ديونها تسع مرات منذ استقلالها عام 1816.
هذه ليست مبالغة بأي حال من الأحوال. فبحلول نهاية عام 2021، تجاوز الدين العالمي، العام والخاص، 350٪ من الناتج العالمي الإجمالي. النتيجة حتمية. ويخلص روبيني إلى أن الأزمة الكبرى للديون ستكون حتمية إما في هذا العقد أو الذي يليه.
لقد تمت تجربة كل العلاجات الممكنة لتجنب هذا الأمر، وتبين أنها غير مفيدة، لأنها لا تعمل سوى على تأجيل اليوم المشؤوم، وتخلق تناقضات جديدة وغير قابلة للحل.
افلاس الكينزية
النموذج الكينزي المحبوب من طرف جميع الإصلاحيين (سواء اليمينيين واليساريين) استفذ صلاحيته. وتتضح هذه الحقيقة في جبل ضخم من الديون يجثم على الاقتصاد العالمي بأسره. والجبال، بطبيعتها، تتعرض عاجلا أم آجلا للانهيارات التي تجتاح كل شيء أمامها.
التناقضات الاقتصادية والاجتماعية تتراكم. وقد لفت روبيني الانتباه إلى عشرة منها، على الرغم من وجود الكثير والكثير.
ولنأخذ مثالا واحدا فقط، فإنه قد فهم أن التقدم التكنولوجي والعلمي، الذي لو كان في ظل نظام عقلاني لكان سيؤدي إلى تقصير يوم العمل وتحسين عام لنوعية حياة الأغلبية، يمثل في ظل الرأسمالية تهديدا خطيرا.
سيؤدي تأثير الذكاء الاصطناعي، والروبوتات والتطورات الأخرى، إلى تدمير أعداد كبيرة من الوظائف وسيؤدي إلى بطالة تقنية واسعة النطاق، بل وسوف يهدد حتى الفئات التي كانت تتمتع بالامتيازات سابقا، مثل الأطباء والمحاسبين.
يقول روبيني: «لا أرى مستقبلا سعيدا حيث تحل الوظائف الجديدة محل الوظائف التي تنتزعها الأتمتة. هذه الثورة تبدو نهائية». ومع ذلك فإنه لا يتم أخذ هذه المسألة على محمل الجد من قبل أي كان.
كما أنه يستوعب التركيز الخطير لسلطة الشركات الكبرى، واتساع التفاوتات الاجتماعية وانتشار المعلومات المضللة التي تقوض التماسك الاجتماعي وتهدد استقرار الوضع القائم. وكل هذه الاستنتاجات صحيحة تماما.
ويعرب عن قلقه إزاء العديد من الأشياء الأخرى، مثل خطر التوترات بين الولايات المتحدة والصين، مما يدفع في اتجاه صراع عسكري، والتوسع الهائل لمشكلة اللاجئين نتيجة الانهيار الاقتصادي والحروب والحروب الأهلية، وأخيرا، لكن ليس آخرا، التهديد الذي تواجهه البيئة العالمية.
لكنه، هذه المرة، ليس الوحيد في تقييمه المتشائم لآفاق الرأسمالية العالمية. إذ ومنذ أشهر عديدة حتى الآن، امتلأت صفحات الصحف الاقتصادية بأسوأ التكهنات. فقد حذر تقرير لصندوق النقد الدولي، في يوليوز 2022، من أن:
«العالم في فترة متقلبة: التغيرات الاقتصادية والجيوسياسية والبيئية تؤثر جميعها على التوقعات العالمية».
وكتبت الفاينانشيال تايمز في 08 أكتوبر:
«مؤشرات الثقة تراجعت بشكل حاد وهي الآن في أدنى مستوياتها على الإطلاق، منذ أن بدأ المؤشر، منذ أكثر من عقد من الزمان، في بلدان من بينها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والصين.
وقد تراجعت الثقة بشكل أكثر حدة في الاقتصادات الناشئة، التي هي أكثر تعرضا لارتفاع أسعار الغذاء والطاقة.
الهند هي الاقتصاد الكبير الوحيد في العالم الذي يوصف بأنه “نقطة مضيئة”، مع وجود مؤشرات قوية تشير إلى نمو قوي هذا العام والعام المقبل.
بينما تكافح بقية الاقتصادات الرئيسية في العالم مع المشكلات الاقتصادية المتصاعدة، حسب كل من البيانات الصلبة (hard data) والمقاييس الأكثر ليونة مثل مؤشرات الثقة».
انعكست مخاوف منظري رأس المال في خطاب ألقته كريستالينا جورجيفا، التي تشغل حاليا منصب المدير العام لصندوق النقد الدولي، في جامعة جورج تاون.
لقد حذرت من أن النظام القديم، المتميز بالالتزام بالقواعد العالمية وانخفاض معدلات الفائدة وانخفاض التضخم، بدأ يفسح المجال لنظام «يمكن أن يخرج فيه أي بلد عن مساره بسهولة أكبر وفي كثير من الأحيان».
واختتمت قائلة:
«نحن نشهد تحولا جوهريا في الاقتصاد العالمي، من عالم يمكن نسبيا التنبؤ به… إلى عالم أكثر هشاشة -قدر أكبر من عدم اليقين، وتقلبات اقتصادية أعلى، ومواجهات جيوسياسية، والمزيد من الكوارث الطبيعية المتواترة والمدمرة».
وتشير صحيفة الإيكونوميست إلى نفس النقطة بالضبط، حيث قالت:
«يمثل كل هذا نهاية مطلقة لعصر الهدوء الاقتصادي الذي ساد خلال العشرية الأولى [من القرن الواحد والعشرين]».
وتضيف أن:
«الاضطرابات التي تعرفها الأسواق هي من حجم لم يسبق له مثيل منذ جيل. والتضخم العالمي وصل إلى مستوى غير مسبوق منذ ما يقرب من 40 عاما. والاحتياطي الفيدرالي، الذي كان بطيئا في الاستجابة لمتطلبات الوضع، يقوم الآن برفع أسعار الفائدة بأسرع وتيرة منذ الثمانينيات، بينما ظل الدولار في أقوى حالاته منذ عقدين، مما يتسبب في حدوث فوضى خارج أمريكا».
هناك شعور بأن النظام العالمي يقف على رأسه مع تحول العولمة إلى نقيضها، وتصدع الاستقرار القديم بسبب الحرب في أوكرانيا والفوضى الناتجة عن ذلك في سوق الطاقة. وهذا الشعور بالتشاؤم هو موضوع يتكرر باستمرار.
يوم 11 أكتوبر، نشرت صحيفة فاينانشيال تايمز مقالا بعنوان: “صندوق النقد الدولي يتوقع آفاقا ‘مؤلمة جدا’ للاقتصاد العالمي”. نقرأ فيه ما يلي:
«في الوقت الذي يتجه فيه الاقتصاد العالمي نحو مياه عاصفة، من المحتمل أن تندلع اضطرابات مالية».
وقبل خمسة أيام على ذلك المقال، نشرت نفس الصحيفة مقالا بقلم لاري سمرز، وهو اقتصادي أمريكي محترم شغل منصب وزير الخزانة الأمريكية بين عامي 1999 و2000. يصف حالة الاقتصاد العالمي هكذا:
«يمكنني أن أتذكر فترات سابقة تميزت بخطورة مشابهة أو أكبر على الاقتصاد العالمي، لكنه لا يمكنني أن أتذكر فترات تزامنت خلالها العديد من الحوادث المنفصلة والعديد من التيارات المتقاطعة كما هو الحال الآن.
انظروا إلى ما يحدث في العالم: مسألة تضخم هائلة للغاية في معظم أنحاء العالم، وبالتأكيد الكثير من بلدان العالم المتقدم؛ سياسة تشدد نقدي كبير قيد التنفيذ؛ صدمة طاقة ضخمة، لا سيما بالنسبة للاقتصاد الأوروبي، والتي هي، بالتأكيد، صدمة حقيقية وكذلك صدمة تضخم؛ قلق متزايد بشأن صناعة القرار السياسي الصيني والأداء الاقتصادي الصيني، وكذلك القلق أيضا بشأن نوايا الصين تجاه تايوان؛ ثم، بالطبع، الحرب المستمرة في أوكرانيا».
إفلاس الاقتصاديين البرجوازيين
من أجل فهم ما يحدث، من غير المجدي النظر إلى ما يكتبه الاقتصاديون البرجوازيون، الذين لا يفهمون شيئا. لم يتمكنوا من التنبؤ بأي شيء. لم يتمكنوا من توقع حدوث لا الركود ولا الطفرة.
وبسبب عجزهم عن شرح السيرورات الاقتصادية الحقيقية، تجدهم يلجئون إلى استخدام تعبيرات لا معنى لها ولا تفسر شيئا على الإطلاق. من المفترض أن المسألة كلها مسألة “ثقة”، كما لو كان ذلك شيئا منفصلا تماما عن الاقتصاد الحقيقي، ويمكن تشكيله حسب الرغبة من قبل السياسيين والمصرفيين الماهرين.
إنهم لا يرغبون في قبول حقيقة أن الأزمات هي نتاج حتمي للنظام الرأسمالي، وبالتالي ينسبونها إلى ظواهر ذاتية بالكامل تحدث في أذهان المستثمرين. لكن حتى أزمة البورصة هي، في الواقع، تعبير -وإن بطريقة مشوهة- عن السيرورات الموضوعية التي تحدث في الاقتصاد الحقيقي.
لقد تمكن الاقتصاديون البرجوازيون، الذين لا يستطيعون أن يروا أبعد من أنوفهم، من إقناع أنفسهم بأن عصر التضخم المنخفض والفائدة المنخفضة سيستمر إلى الأبد.
حتى أنهم حولوا هذه القناعة، التي لا أساس لها، إلى نظرية مزعومة، وهي النظرية الأحدث في سلسلة كاملة من مثل تلك “النظريات” التي كانت كلها مبنية على أكثر الافتراضات تعسفا وغباء، والتي اتضح أنها كلها خاطئة بشكل كارثي.
وبسبب نصائحهم الحمقاء، أصبحت الحكومات تنهج سياسة غير مسؤولة، تشبه تصرف مقامرين متهورين بدلا من سياسيين مسؤولين. أصبح شعارهم: “دعونا نعيش اللحظة، ودع المستقبل يعتني بنفسه”.
ومثلما يصبح مدمن المخدرات أكثر اعتمادا على المواد التي توفر له إحساسا فوريا بالنشوة، أصبحت الحكومات والشركات والعائلات مدمنين على أسعار فائدة قريبة من الصفر. لكن النتيجة النهائية هي نفسها: ألم رهيب وحتى خطر الموت.
وفي مكان ليس بعيد تحت السطح، كانت التناقضات الخطيرة تتراكم. وكانت التيارات التضخمية، التي تصوروا بحماقة أنها قد اختفت، تتراكم طوال الوقت.
في ظل اقتصاد السوق الرأسمالي، قوى السوق هي التي تقرر في آخر المطاف. يمكن لتصرفات الحكومات أن تحور أو تبطئ عمل قوى السوق، لكن لا يمكنها أبدا أن تقضي عليها. والتشويهات التي أحدثها تدخل الحكومة لا تؤدي إلا إلى تفاقم التناقضات، والتي ستنطلق في النهاية بقوة وعنف أكبر.
هذا بالضبط ما نشهده في الوقت الحاضر. أولا محاولات الحكومات حل أزمة عام 2008، ثم جائحة كوفيد 19، والآن أزمة الطاقة، من خلال إنفاق مبالغ طائلة من الأموال التي لم تكن تمتلكها، هي بالضبط ما ساهم في الوضع الفوضوي الذي يعرفه الاقتصاد العالمي اليوم.
إن الأزمة التي تواجههم عميقة للغاية، والتناقضات أكبر من أن يتم حلها على أساس رأسمالي. لقد استنفدوا كل ذخيرتهم في محاولتهم حل الأزمة الأخيرة. وهم الآن مضطرون إلى الترنح من أزمة إلى أخرى، دون الأسلحة الضرورية للتصدي لها.
عودة التضخم
على الرغم من تلك المفاهيم الجوفاء التي يستعملها الخبراء الاقتصاديون، فإن الضغوط التضخمية العميقة لم تختف. وفجأة صعدت إلى السطح وصارت خارجة عن السيطرة، مما تسبب في تعطيل سلاسل التوريد، وتدمير خطط الاستثمار، وتآكل المدخرات، وانهيار مستويات المعيشة، وإحداث فوضى عامة في الاقتصاد العالمي.
لقد أصبح نفس ذلك التضخم، الذي وصفه الاقتصاديون بأنه صار شيئا من الماضي، أحد السمات الرئيسية لهذه الأزمة. وهذا يمثل اختلافا مهما عن أزمة عام 2008.
في ذلك الوقت، كانت السمة الرئيسية هي الدين: الدين العام، أي الدين الحكومي، وديون الأسر وديون الشركات. إلا أن انخفاض معدل التضخم وأسعار الفائدة القريبة من الصفر، مكنا من زيادة الدين العام من أجل ضخ مبالغ ضخمة في الاقتصاد. كانت تلك الأموال، في الواقع، رساميل وهمية.
أما الآن، فبالإضافة إلى كل ذلك، هناك تضخم مرتفع ومتزايد. وبعد فوات الأوان اضطر الاقتصاديون إلى الاعتراف بما كان من المفترض أن يكون واضحا لأي شخص ذي تفكير عقلاني، أي: أن سياسة طباعة النقود لتمويل الدين الحكومي (“التيسير الكمي”) سياسة تضخمية بطبيعتها.
يدل هذا على نهاية النظام المالي الذي اعتاد على انخفاض معدلات التضخم وأسعار الفائدة المنخفضة. والحكومات الآن، مثلها تماما مثل المدمن الذي استيقظ في زنزانة الشرطة محروما من المخدرات التي كان يعتمد عليها، استيقظت فجأة لتجد نفسها في مواجهة ارتفاع تكلفة الاقتراض.
البرجوازية مجبرة الآن على اتخاذ إجراءات لعكس اتجاه كل ما فعلته من قبل. يطالب كل من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بإجراءات أكثر صرامة لمعالجة التضخم، حتى لو تسبب ذلك في حدوث ركود، لأنهما يعتقدان أن هذا هو السبيل الوحيد لوقف التضخم، الذي يُنظر إليه الآن على أنه الخطر الرئيسي.
الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي كان حتى الآن يتبنى موقف اللامبالاة -أو بالأحرى الاستسلام-، قد استحوذ عليه الذعر فجأة، وبدأ في رفع معدل الفائدة مرة تلو الأخرى، على الرغم من أن هذا يعادل تأثير الضغط على فرامل السيارة.
لكن المشاكل عميقة الجذور لدرجة أن أي إجراءات يتخذونها لن تكون كافية لحل أزمة تكلفة المعيشة. بل إنهم بدأوا يقولون بالفعل إن هذه الإجراءات غير كافية.
العامل الأوكراني
إن البرجوازيين، ونظرا لعدم فهمهم المطلق للنظرية الاقتصادية الحقيقية، يبحثون بيأس عن شخص ما يحملونه المسؤولية على محنتهم، وقد وجدوا في فلاديمير بوتين كبش فداء مناسب. لكن الحرب في أوكرانيا لم تكن سبب الكارثة التضخمية. لقد قدمت فقط الشرارة التي أشعلت برميل البارود الضخم، الذي كان على وشك الانفجار.
ومع ذلك فإنه من الناحية الديالكتيكية، يصبح السبب نتيجة، والنتيجة بدورها تصبح سببا. فعلى الرغم من أن الحرب لم تسبب الأزمة، فمن المؤكد أنها أدت إلى تفاقم مشكلة التضخم وتعطيل حركة التجارة العالمية.
سبق للعجوز كلاوزفيتز أن قال إن الحرب ليست سوى استمرار للسياسة بوسائل أخرى. لكن الإمبريالية الأمريكية أدخلت تعديلا طفيفا على هذا التعريف الصحيح.
لقد قامت منذ مدة بعسكرة التجارة، ومعاقبة أي بلد لا ينصاع لإرادتها. لذلك فإنه، في ظل الظروف الحديثة، تصبح التجارة مجرد استمرار للحرب بوسائل أخرى.
روسيا التي تعتبر أحد أكبر مصدري الوقود الأحفوري، تم إقصاؤها عن عمد من أسواقها في الغرب بسبب العقوبات التي فرضتها الإمبريالية الأمريكية ووافق عليها الاتحاد الأوروبي.
كان لذلك تأثيران غير مقصودين وغير متوقعين. لقد تسبب على الفور في أزمة طاقة، تسببت في ارتفاع التضخم في جميع أنحاء العالم، تضخم ضرب الولايات المتحدة أيضا. لكن وبسبب الزيادة الحادة في أسعار النفط والغاز، فقد كان ذلك مفيدا للغاية لتلك البلدان التي تنتج تلك المواد، وخاصة روسيا.
وهكذا، فإن النقص الذي عرفته المداخيل بسبب العقوبات، عوضه ارتفاع أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية. وفلاديمير بوتين يواصل تمويل جيوشه من تلك العائدات، بينما يواجه الغرب احتمال شتاء قارس مع ارتفاع فواتير الطاقة وتزايد الغضب الشعبي. في كرة القدم يسمى هذا، على ما أعتقد، “هدف ضد المرمى”.
الركود حتمي
تواجه البنوك المركزية معضلة حادة. إنهم محاصرون بين المطرقة والسندان. لقد رفعوا أسعار الفائدة من أجل كبح جماح الطلب، وبالتالي (كما يأملون) خفض التضخم. كانت تلك هي النظرية التي دفعت مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى رفع أسعار الفائدة، مما أجبر معظم السلطات النقدية في العالم على القيام بالشيء نفسه.
لكن مثل هذه الإجراءات تجعل الركود أمرا حتميا. لقد صار هذا واضحا للجميع باستثناء المفتقدين كليا للبصيرة. السؤال الوحيد هو: إلى أي مدى سيصل ذلك الركود وحتى متى سيستمر؟ ربما تكون بريطانيا في حالة ركود بالفعل، أو، إذا لم تكن كذلك، فهي تقف على حافة هاوية عميقة للغاية.
وعلى أي حال ستكون للركود آثار عميقة. إنه يعني إفلاس الشركات، والتسبب في إغلاق المصانع، وفقدان الوظائف، والتخفيضات القاسية في مستويات المعيشة. هذه وصفة ملائمة لتسعير حدة الصراع الطبقي والاضطراب السياسي العنيف. مما يعني القفز من المقلاة الساخنة إلى النار.
تغير الوعي
يقدم كل هذا صورة مقلقة للطبقة السائدة. دائما ما يلقي الرأسماليون مسؤولية التضخم على الأجور، بينما يعرف كل عامل، من تجربته الخاصة، أن الأجور تتبع الأسعار دائما.
لكن الزيادات في الأجور، إلى جانب زيادة أسعار المواد الخام، تعني زيادة التضخم، مما يؤدي بدوره إلى تصاعد المطالب مجددا بالرفع من الأجور.
وهذا بدوره يصب البنزين على نار الصراع الطبقي. لقد بدأنا نشهد بالفعل غليانا واسع النطاق وتشكيكا عاما في النظام القائم.
لا توجد فقط إمكانية اندلاع رد فعل عمالي في كل مكان، بل توجد أيضا بين فئات واسعة من المجتمع إمكانية ردة فعل هائلة ضد السوق وضد النظام الرأسمالي وجميع مظاهره.
هناك موقف نقدي للغاية تجاه جميع الأحزاب والمؤسسات السياسية. لقد اختفى ذلك الموقف المهادن القديم. وهذا يمهد الطريق لحدوث تحولات مفاجئة في الرأي العام.
“أيام مظلمة في الأفق…”
إن السبب وراء هذا الاضطراب العام هو أن الرأسمالية قد أكملت دورها التاريخي في تطوير قوى الإنتاج. وقد استنفذت الآن هذا الدور بشكل كامل. والمنظور الآن على الصعيد العالمي هو منظور صراع طبقي غير مسبوق.
يتطلع منظرو رأس المال إلى المستقبل بفزع. لقد لعب النظام الرأسمالي، لمدة 150 عاما، دورا تقدميا نسبيا في تطوير الصناعة والزراعة والعلوم والتكنولوجيا. والآن وصل ذلك إلى حدوده. هذا هو المعنى العميق للأزمة الراهنة.
ومن جانبه يكتب نورييل روبيني مثل طبيب متمرس قادر تماما على وصف الأعراض التي يعانيها شخص مريض جدا. لكن وفي حين أنه أثبت كفاءته العالية في وصف المشكلات، نجده يفشل تماما في تقديم أي وصفة لعلاج الأمراض التي قام بتشخيصها ببراعة.
ما الذي يمكن فعله لمواجهة تلك “التهديدات الضخمة”؟ يقول روبيني: ليس هناك الكثير مما يمكن فعله. الاحتمال الوحيد الذي يراه يكمن في الابتكارات التكنولوجية التي تؤدي إلى زيادة الإنتاجية الاقتصادية وتحسين الظروف البيئية.
يعتقد أن تحقيق نمو اقتصادي قوي وشامل ومستدام بأكثر من 5٪ سنويا يمكن أن يوقف العديد من تلك التيارات الخطرة، ويمكّننا من توفير دخل أساسي شامل. لكن كيف يمكن تحقيق ذلك الهدف؟
في ظل الرأسمالية يعتبر تحقيق نمو سنوي بنسبة 5٪ أمرا خياليا تماما. وعلى العكس من ذلك فإن جميع الاقتصاديين (وليس فقط “الدكتور شؤم”) يتوقعون حدوث انكماش حاد، تتبعه، في أفضل الأحوال، فترة طويلة من الركود الاقتصادي مصحوبة بمستويات عالية من التضخم.
ويختتم روبيني بتحذير صارم للبرجوازية: “توقعوا أياما مظلمة كثيرة، يا أصدقائي”.
هذا التحذير مناسب جدا. لكن الأيام المظلمة بالنسبة للبرجوازية هي أيام مشرقة بالنسبة لنضال الطبقة العاملة من أجل تغيير المجتمع.
التفاؤل الثوري!
إن التشاؤم العميق الذي تشعر به البرجوازية يجب أن يملأنا بالتفاؤل بمستقبلنا: مستقبل الثورة الاشتراكية التي ستطيح بنظام استغلالي وحشي منحط، وتمهد الطريق إلى يوم جديد وأكثر إشراقا للبشرية.
في ظل الاقتصاد الاشتراكي المخطط بشكل متناغم، لن يكون هدف النمو بنسبة 5٪ سنويا هدفا طموحا، بل سيكون هدفا متواضعا للغاية. سيكون من السهل تحقيق هدف مضاعف، مما سيمكّن المجتمع من حل العديد من المشكلات الحالية التي وصفها روبيني.
إنني أكتب السطور الأخيرة من هذا المقال في ذكرى ثورة أكتوبر، التي هي أعظم يوم في تاريخ البشرية. من الممكن اليوم النظر إلى ذلك الحدث العظيم على أنه كان أمرا حتميا؛ وأنه نجح لأنه كان مقدرا له حتما أن ينجح.
لكن مثل هذه النظرة خاطئة تماما وغير تاريخية على الاطلاق. من المؤكد أن الأمر لم يبد بهذه الطريقة لهؤلاء الرجال والنساء الذين قاموا بالثورة. بل وعلى العكس من ذلك، كان احتمال حدوث ثورة اشتراكية منتصرة في روسيا القيصرية الرجعية المتخلفة، يبدو للغالبية العظمى من المراقبين الأكثر تبصرا، وكأنه حلم خيالي، لا يمكن تصديقه إلا من طرف أكثر الطوباويين إغراقا في الوهم.
إلا أن ذلك ما حدث بالفعل.
انتصرت الثورة رغم كل الصعوبات. وقد تم ضمان انتصارها بفضل شجاعة وبصيرة ومثابرة الحزب البلشفي، تحت قيادة لينين وتروتسكي. لقد كان العامل الذاتي حاسما تماما.
إلا أن ذلك العامل كانت له بدايات متواضعة للغاية. إذ قبل عقدين فقط من ثورة أكتوبر، كان الماركسيون مجرد مجموعة صغيرة، معظمهم من الطلاب، الذين نجحوا في النهاية في كسب فئة من العمال الأكثر تقدما إلى صفهم.
لقد رأوا الحزب ينمو مع تصاعد ثورة 1905، لكنهم عانوا أيضا من مرارة الهزيمة، عندما تم تحطيمه مرة أخرى من خلال الاعتقالات والإعدامات والسجن والنفي.
كانت سنوات الحرب العالمية الأولى هي الأصعب ربما. كان لينين في المنفى في سويسرا، حيث ألقى في يناير [1917] محاضرة أمام الاشتراكيين الشباب السويسريين قال فيها:
«أنا رجل عجوز وربما لن أعيش لأرى الثورة الاشتراكية».
إلا أنه بعد تسعة أشهر على ذلك، كان البلاشفة في السلطة. هذا الإنجاز المذهل يظهر الأهمية الحيوية للعامل الذاتي، أي القيادة الثورية.
لقد دارت عجلة التاريخ عدة مرات منذ ذلك الحين. وها نحن الآن نراها تدور مرة أخرى. يجد النظام الرأسمالي نفسه في أعمق أزمة في تاريخه. والطبقة العاملة، على الصعيد العالمي، هي الآن أقوى ألف مرة مما كانت عليه في عام 1917. وقد بدأت في النهوض إلى النضال مجددا.
إن الظروف الموضوعية للثورة هي اليوم أكثر ملاءمة من أي وقت مضى. لقد رأينا هذا مؤخرا في سريلانكا وإيران. لكننا نرى أيضا أن العامل الذاتي مفقود. والعامل الذاتي أمر حاسم في الصراع الطبقي، مثلما الجنرالات الجيدون حاسمون في الحرب.
إن البرجوازية ومنظروها، كما أوضحنا في هذه السطور القليلة، غارقون في تشاؤم عميق.
ويشاركهم في ذلك هؤلاء الذين يسمون بـ “اليساريين”، الذين تخلوا منذ زمن بعيد عن أي تظاهر بالوقوف إلى جانب التغيير الاشتراكي للمجتمع؛ وأيضا أولئك “الماركسيين” البائسين السابقين من البرجوازيين الصغار الذين يقضون حياتهم في المقاهي، وهم يبكون ويتحسرون على المصير المؤسف للعالم.
لكن العالم يمر بهؤلاء السيدات والسادة دون حتى أن يلاحظ وجودهم. ليس للعمال والشباب الثوري أي وقت ليضيعوه في البكاء والنحيب. إن الواقع القاسي للحياة يدفعهم إلى النضال. وقد بدأت المعركة بالفعل.
يجب أن نستمد الشجاعة من الفوضى التي تسود في معسكر العدو، وأن نضاعف جهودنا لتعزيز القضية الوحيدة التي تستحق النضال من أجلها: القضية العظيمة للطبقة العاملة: قضية الثورة الاشتراكية العالمية.