قالوا: هذي أرضٌ لا تصلحْ
هذا طقس لا يسمحْ
هذا ظرف لا يسنحْ
قالوا: انتظر الفرصةَ، ثم تراخوا مرتاحين على النزفِ، فلا تُصغِ إليهم
حربك تصلح في كل مكانْ
في كل زمان
معركة اليوم بلا أملٍ بالنصر، وأنت تقاتل كي لا تخجل من نفسكْ
كي تجرؤ أن تنظر في عيني إبنكْ
كي لا تغرقك الأحلام المخزية، وكي تبقى انسان
[Source]
عشر سنوات على ثورة شقت السماء، عشر سنوات مرت بكل ما فيها من انتصارات مؤقتة وجروح غائرة. اليوم نتذكر ثورة كان يمكنها أن تغير الكثير في هذا العالم، ولا ابالغ إن قلت إن سيرورة الثورة في المنطقة، وبالتالي العالم، كانت متوقفة على ما سوف يحدث في مصر؛ انتصار الثورة المصرية كان سيفتح الباب على مصراعيه للثورة العالمية. أقول هذا ليس للتباهي أو التباكي وإنما لإدراك حجم الفرصة التي فاتتنا وللاستعداد للفرصة القادمة، للمد الثوري القادم. هذه دعوة لدراسة تجربتنا المريرة للاستعداد للمستقبل، وليس من أجل أن نظل حبيسي الماضي.
اليوم ونحن نرزح تحت وطأة الديكتاتورية العسكرية مهددين بسجونها في أي لحظة، نعيش واقع حرب اقتصادية واجتماعية طاحنة، دفعت وستدفع الطبقة العاملة والجماهير ثمنها غالياً، في خضم أعمق أزمة عاشتها الرأسمالية حتى الآن، ومجتمع منهك أشد الإنهاك، هناك حاجة لنقف ونلتقط الأنفاس لندرس أخطائنا التي أدت بنا لما نحن فيه اليوم، في وضع فيه القمع والخوف يُستنشقان مع الهواء، وفراغ سياسي مصنوع ومحكوم بقبضة حديدية لا تلين، ووضع اقتصادي يرزح فيه أكثر من نصف الشعب تحت خط الفقر، وخطط حكومية لجعل الرأسماليين آلهة علينا، وظرف موضوعي صعب أصاب الكثيرين بالإحباط واليأس وأوقع الكثير من المناضلين في براثن العدمية والاكتئاب.
لا شيء يأتي من العدم:
الثورة هي النقطة القصوى في التراكم الكمي للصراع الطبقي. ثلاثون عاماً عاشتها الجماهير تحت حكم حسني مبارك وزمرته كانت مليئة بكل ما يدعو للانتفاض والانفجار الاجتماعي.
حرب بين اليمين واليمين “الإسلاميين والدولة” استمرت أكثر من عقد من الزمان، خصخصة وبيع واسع لكثير من المؤسسات والموارد لصالح مجموعة من رجال أعمال الداخل والخارج، لم تكن بحجم خطة الخصخصة الحالية لكنها كانت الأكبر حينها، فتح السوق لهيمنة الامبريالية -وهي الخطة التي كان قد بدأها السادات قبل أن يُقتل- تحول الاقتصاد المصري ليصبح اقتصاد أكثر ريعية وهشاشة، ارتكاب جرائم في أحداث سياسية خارجية (الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، العدوان الأمريكي على العراق 2003، الحرب على قطاع غزة 2009) كان لها أثر على الجماهير والشباب المصريين، اقتصاد يحقق معدلات نمو مرتفعة -بشكل نظري- تثري أقلية ضئيلة في الوقت الذي كان الشباب المصري يسعى للهجرة ولو في قوارب ليهربوا من هذا الجحيم و يعبروا البحر الأبيض المتوسط، مستوى من تردي الخدمات والإهمال لم يسبق له مثيل لدرجة حصد عشرات الأرواح بين كل فترة وأخرى، مجتمع بوليسي تتمدد فيه أجهزة الأمن السرية لتعد الأنفاس على الجماهير، توحش أجهزة الأمن في التعامل مع الجماهير -الفقيرة بشكل خاص- في الشوارع لدرجة موت عديد من المصريين تحت التعذيب في أقسام الشرطة، مجال سياسي تم مصادرته و تجريفه لمدة عقود، ترافق هذا مع بداية نهوض عمالي وشبابي، بدأ منذ العام 2000، وشهد ذروته في إضراب عمال المحلة 2008، أزمة اقتصادية عالمية منذ العام 2008، مشروع لتسليم السلطة لنجل حسني مبارك، وهو ما كان له تأثير سيئ حتى في قمة النظام والطبقة الحاكمة. هذه وصفة مثالية للانفجار الثوري، كما تحدث لينين من قبل، أزمة في القمة، مع صعوبة التحكم في الجماهير بالطرق القديمة، وأزمة اقتصادية وسياسية أدت لتجذر حتى فئات من الطبقة الوسطى، الشباب منهم بشكل خاص.
وكان قيام الثورة في تونس، وتحقيقها لانتصار ثوري مهم وكبير مثل إسقاط زين العابدين بن علي، بمثابة أقوى محفز للجماهير والشباب المصريين، وبدأ تأثير الدومينو. أتذكر أنه قبل الثورة بعدة أيام شهدت مظاهرة بالصدفة لبضع عشرات من الشباب في الشارع، وقبل أن يتم قمعهم كانوا يهتفون “ثورة في تونس بكرة في مصر”، وقد كان مثلما قالوا.
ثورة عظيمة:
مارد رفض وانتفض… زلزل عروش العار
الشمس ولا الجبل… ولا المحيط هدّار
ولا القمر في السما… فجر سحّاب النار
ولا الربيع انتشر… غطى الوجود ثوار
ولا النشيد انطلق… عالي على الأسوار
طيّر سلاح الحرس… من لمسة الأوتار
ولا نسيم الصبا… ولا هوا الإعصار
أنت الجميع كلهم… والكل فيك حضّار
يا شعب لما رفض… يا شعب لما اختار
سطر بدم الشرف… أنشودة الأحرار
نار الخيانة حطب… نار الشعوب صبار
(أحمد فؤاد نجم)
ثارت الجماهير متحدية إطلاق الرصاص ودهس مدرعات الشرطة واجرام بلطجية النظام، اشتباكات يومية ضربت فيها الجماهير المعنى الحرفي للبطولة والتضحية، احتلت الجماهير الشوارع والميادين في ملحمة اسطورية أُجبرت فيها الشرطة على التراجع والهروب من زحف الجماهير الغاضبة، ظلت الجماهير صامدة لأيام عديدة، والنظام في حالة ارتباك يحاول امتصاص الغضب الشعبي سواء بالخطابات العاطفية أو اللعب علي وتر المخاوف الأمنية، إلى أن تدخلت الطبقة العاملة بثقلها في الأحداث وبدأت سلسلة إضرابات كلية، منذ يوم 07 نوفمبر، حينها أدرك المجلس العسكري، والقوى الامبريالية من خلفه، أن لا سبيل إلا تقديم تنازلات جدية للجماهير وإسقاط حسني مبارك.
حينها احست الجماهير بقوتها الجماعية وبقدرتها على التأثير في مجريات الأحداث، الجماهير حينها لم تكن تعرف تحديداً ماذا تريد لكنها كانت تعرف بالضبط ما لا تريد، وفي ظل غياب قيادة ثورية والعفوية التي كانت السمة السائدة للفعل الثوري الجماهيري حينها، كان من الحتمي التعلم من التجربة ومن مدرسة الواقع والأحداث القاسية.
بعد رحيل حسني مبارك، تحالف المجلس العسكري الذي كانت الجماهير تطالب برحيله، كونه جزء من النظام القديم، مع الإخوان المسلمين، ودخلوا في صفقة أشبه بثورة مضادة ناعمة برعاية أمريكية. حينها كانت تعلم الجماهير تحديداً انها لا تريد المجلس العسكري المعين من طرف مبارك، ولكن كانت لديها أوهام حول الإخوان المسلمين، بوصفهم التيار المعارض العلني الذي كان يُسمح له بالعمل في عهد مبارك مع بعض المظلومية المعهودة من طرف الأحزاب الإسلامية. وقد ساهم “ثوريونا” و”ماركسيونا” في تثبيت تلك الأوهام، أوهام بأن ”الإخوان المسلمين يمكنهم أن يكونوا تيارا اصلاحيا تحت ضغط الأحداث”، وما إلى ذلك من الهراء، لقد لوث هؤلاء راية الاشتراكية الثورية والماركسية في مصر.
عندما تولى الإخوان المسلمون السلطة واتبعوا نفس الإجراءات الاقتصادية الرأسمالية، وعقدوا تحالفات مع المجلس العسكري واستخدموا الشرطة ضد المتظاهرين… حينها أدركت الجماهير أن لا فرق بين الإخوان المسلمين والمجلس العسكري ومبارك، فجميعهم يدافعون عن مصالحهم، كأجزاء من نفس الطبقة الحاكمة ذاتها.
حينها انتفضت الجماهير وأعلنت العصيان، واستغلت قوى النظام القديم فراغ المعارضة وتلويث الثوريين رايتهم بدعمهم “النقدي” للإخوان المسلمين وخيانة الاصلاحيين والليبراليين، فحاولت قوى النظام القديم الظهور بمظهر المدافع عن الشعب ومطالبه.
التصاعد المستمر في الصراع الطبقي المكشوف الذي لم يجد له معبرا سياسيا، والتشنجات السياسية المتكررة، جميعها أشياء كانت قد بدأت تصيب المجتمع بالإنهاك. بعد ثلاث سنوات من ثورة بدون تحقيق نتائج ملموسة، الأوضاع الاقتصادية صارت أصعب، وأسعار ترتفع باستمرار، وتشنج مجتمعي، وبطالة تتزايد… أمام كل هذا تصبح الديمقراطية كلمة فارغة بالنسبة للعمال والفقراء ما لم تساعدهم في تحسين أوضاعهم المزرية، الديمقراطية البرجوازية، وحق الكلام والتنظير، ليس لها بالنسبة للعمال والفقراء قيمة إلا بمقدار ما تفتح الطريق أمام تطور الصراع الطبقي، وهو ما لم يحدث، بسبب أن وسائل الإنتاج والاقتصاد ككل ظلوا، رغم كل شيء، في أيدي نفس الطبقة الرأسمالية، وظل جهاز الدولة كما هو رغم ضربات الجماهير له.
حينها تمكنت الطبقة الحاكمة وقوى النظام القديم من استغلال سخط الجماهير على الإخوان المسلمين وإنهاك الجماهير من خلال الدعوة للعودة للاستقرار، وتحميل الإخوان المسلمين وحدهم فاتورة الأزمة. وبالطبع لم يكن الاستقرار الذي كان هؤلاء يقصدونه هو الاستقرار المأمول من الجماهير، ولكن في النهاية أثبتت قوى النظام الجمهوري الرأسمالي أنها قادرة على قراءة الواقع والمزاج الجماهيري أكثر من “مثقفينا” و”ثوريينا” و”ماركسيينا” الذين تصدروا مشهد المعارضة والثورة.
قادتنا “الثوريون” لم يدركوا ما أدركه لينين منذ أكثر من مئة عام حول أن البرجوازية ستميل في النهاية، خصوصاً في بلد مثل مصر بالمناسبة، إلى إرساء ديكتاتورية، وأن هذه الديمقراطية التي تحققت بعد الثورة إنما تحققت بفعل تصاعد الصراع الطبقي والمد الثوري الذي كان بدأ يخبو. كتب لينين في عام 1905: «إن البرجوازية في مجموعها سوف تتحول حتما نحو الثورة المضادة، نحو الحكم المطلق، ضد الثورة، وضد الشعب. وبمجرد ما ستتم الاستجابة لمصالحها الضيقة والأنانية، سوف تتخلى عن الديمقراطية المتسقة (وقد بدأت بالفعل تتخلى عنها!)».
لم يدركوا واقع أن السبيل الوحيد للحفاظ على المكاسب الديمقراطية التي انتزعتها الجماهير في الثورة هي بالمضي قدما في انتزاع مزيد من المكاسب وصولاً إلى استيلاء الجماهير، بقيادة الطبقة العاملة، على السلطة السياسية والبدء في إنشاء مجتمع جديد يقوم على بناء الصناعة وتطوير الزراعة بجانب منظومتي التعليم والصحة، لتكون أول خطوة في مسيرة التحويل الاشتراكي للمجتمع.
في النهاية كان يجب أن يتم حسم هذه الجولة من الحرب الطبقية المفتوحة بهيمنة إحدى الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع، إما الطبقة العاملة التي تقود الجماهير الفقيرة، وأما إعادة تأكيد هيمنة الطبقة البرجوازية، تلك الطبقة التي لا تستطيع تقديم تنازلات وهامش المناورة لديها ضيق جدا، خصوصاً في أوقات الأزمات الاقتصادية، وهو ما كان يعني في الحالة المصرية -وغيرها من البلدان في المنطقة مثل السودان- أن المؤسسة العسكرية ستتدخل في النهاية لتضع حدا لهذه الجولة وتعلن استمرار هيمنة البرجوازية على المجتمع.
ما حدث حينها هو أنه في ظل غياب حزب ثوري يقود الجماهير نحو النصر، وصلت الثورة إلى طريق مسدود بلا أفق ولا بديل، فتقدمت القوات المسلحة، درع الرأسمالية الأقوى، وأعلنت نفسها فوق المجتمع، مستغلة الغضب الجماهيري المستحق ضد الإخوان المسلمين، وتصلب موقف الاخوان المسلمون حينها، والإنهاك المجتمعي والرغبة في العودة لنوع من الاستقرار بعد ثلاث سنوات من احتجاجات وإضرابات واضطرابات لا تهدأ.
خيانة الثورة:
تتبع مسار تدخل الأحزاب اليسارية الإصلاحية، وحتى بعض التنظيمات التي تدعي الثورية وتبنيها للماركسية، تتبع مسارات هؤلاء في الثورة يؤكد أن الجميع خانوا الثورة والطبقة العاملة والجماهير. لينين قال ذات مرة “في الثورة لا فرق بين الخيانة عن قصد أو دون قصد”، وهذا صحيح، فجميعها خيانة تؤدي للهزيمة، تؤدي بنا لدفع ضريبة باهظة من قتلى ومعتقلين ومزيد من تسلط السلاح والمال علينا والأهم تضييع فرصة ثورية لا نعلم متى يمكن أن تكرر.
أنا هنا لا أتحدث عن الليبراليين والاخوان المسلمين ورجال الأعمال والجنرالات، فجميعهم بالنسبة لنا، نحن الماركسيون، أعداء طبقيون واضحون لا أمل فيهم أو شفاعة. من أقصدهم بكلامي هم هؤلاء الذين تصدروا المشهد من معسكر الثورة واعتلوا منبر اليسار والماركسية، هؤلاء الذين ارتكبوا من الأخطاء الكثير والكثير، والأدهى هو عدم اعترافهم حتى الآن بارتكاب الأخطاء. دليل نزاهة وشرف الشخص والحزب ليس عدم ارتكاب أخطاء، تحتاج أن تكون نائماً مدى الحياة لكي لا ترتكب أخطاء، إنما دليل النزاهة والشرف هو الاعتراف العلني بارتكاب أخطاء، وفهم ثم شرح الأسباب التي أدت لارتكاب تلك الأخطاء، ثم تقديم ضمانات بعدم ارتكابها مجدداً. هذا جزء أساسي من خبرة مناضلي الطبقة العاملة العالمية خلال المائتي عام الماضية. ماركس وانجلز ولينين وتروتسكي وغيرهم جميعهم ارتكبوا أخطاء، ولكن جميعهم كانوا نزهاء وشرفاء ولهذا كانوا يعترفون بارتكابهم لتلك الأخطاء. طبقاً لهذا المعيار نحن في مصر ليس لدينا تيار أو حزب أو منظمة سياسية وحيدة تتحلى بالشرف والنزاهة.
اليسار في مصر انقسم إلي معسكرين كبيرين: معسكر داعم للقوات المسلحة من أجل عودة ما سموه “الاستقرار”، ولو على ظهور الدبابات خوفاً مما أسموه المد الاسلامي والوهابي ودفاعاً عن المدنية، وهؤلاء هم الستالينيون والقوميون والناصريون؛ ومعسكر دعم الإخوان المسلمين، وإن بشكل مستتر أو “دعم نقدي” كما يحبون أن يقولوا، دفاعاً كما يعتقدون عن الديمقراطية ومن أجل ضمان عدم عودة النظام القديم. وما بين هؤلاء وأولئك تمت إضاعة كثير من الفرص الثورية وتم استهلاك وإتلاف كثير من أنقى الشباب الثوري الذين كان من الممكن الاعتماد عليهم ليكونوا رافعة بناء حزب الطبقة العاملة وانتصار الثورة.
من اليساريين الإصلاحيين والناصريين الذين وضعوا أيديهم في أيدي الليبراليين ورجال النظام القديم والجنرالات في جبهة الإنقاذ، إلى شيوخ وموتى اليسار لاعقي الأحذية العسكرية في كل زمان ومكان في حزب التجمع والحزب الشيوعي، إلى “الثوريين” الذين دعموا الرجعيين الإسلاميين باسم سياسة “أهون الشرين” التي لم تؤد في النهاية إلا لتهيئة الظروف لظهور شر أعظم، ثم عادوا تأرجحوا وتذيلوا الحركة فدهستهم، جميعهم خانوا الثورة وخانوا الطبقة العاملة، وإن بدرجات متفاوتة.
والحق أن سبب خيانة “قادتنا” اليساريين والماركسيين للثورة ليس عدم معرفتهم بالنظرية الماركسية، بل السبب هو عدم ثقتهم في قدرة الجماهير والطبقة العاملة على إنجاز مهمة انتصار الثورة. بالنسبة لهؤلاء المثقفين المترفين “الجماهير غير واعية ولديها الكثير من الأوهام ولا تستطيع فهم رسالتنا الثورية، والوقت غير مناسب أو الظروف غير مواتية والمجتمع غير مستعد دائماً وأبداً”. لكن هؤلاء السيدات والسادة نسوا، أو تناسوا عامدين، أن تلك بالضبط هي مهمتهم، مهمتهم بالضبط هي إرشاد الجماهير طريق النصر، هي قول الحقيقة وتبديد الأوهام الاصلاحية أو غيرها من وعي الجماهير، والا لو كانت الطبقة العاملة واعية برسالتها الطبقية والتاريخية ولا تتأثر بأفكار ودعاية الطبقة الحاكمة، لما كان هناك جدوى لوجود حزب ثوري أصلاً، ولا جدوى للقيادة الثورية.
تصور أن الجماهير بمجرد أن تثور ستعي مهمتها الطبقية وتعي طبيعة النظام الرأسمالي وتتخلص من الأفكار المزروعة فيها من قبل الطبقة الحاكمة، هكذا بضربة واحدة بمجرد الانتفاض، هو تصور مثالي وميكانيكي وساذج مع افتراض حسن النية، لينين قال عن هؤلاء “أن من يتصور ثورة اجتماعية نقية لن يعيش ليراها، مثل هذا الشخص يتحدث باستمرار عن الثورة، دون أن يفهم ما معنى الثورة”، وكأن هذه العبارة كتبت من أجل أن تلخص حالة الكثير من “القادة” الماركسيين في مصر.
والحق أيضاً أنه ما من تنظيم أو حزب يساري أو ماركسي في الثورة المصرية سعى أصلاً نحو تغيير المجتمع أو اسقاط الرأسمالية، جميعها إما حاولت أن تحصل على نصيب من الكعكة، وهؤلاء الخونة الاصلاحيين، وإما حاولت أن تتحول إلى رقم في المعادلة السياسية المصرية وذهبت تعقد تحالفات غير مبدئية بهدف الظهور الإعلامي وبحجة الاتصال بالجماهير وعدم الانعزال، وهؤلاء كانت الحركة تسبق وعيهم بأميال -مع افتراض حسن النية-، ولكن مجدداً كما قال لينين “لا فرق بين الخيانة عن قصد أو دون قصد”، جميعهم لوثوا راية الماركسية والاشتراكية الثورية، اليسار بجميع ألوانه تذيل اليمين بجميع ألوانه في الثورة المصرية.
ولنعلم بُعدا آخر من أبعاد التأثير الرجعي لهؤلاء على سيرورة الصراع والوعي الطبقي في مصر -وهذا مجرد غيض من فيض أخطائهم-، علينا أن نلقي نظرة على مآلات تلك الأحزاب والتنظيمات وبماذا خرجوا من مد الثورة، الحقيقة هي أنهم فشلوا في كل شيء، جميعهم خرجوا من الثورة أقل عددا مما كانوا قبلها، فقدوا عديد من مناضلي قواعدهم، لم ينجحوا في مد الاتصال بالعمال والجماهير، ولم ينجحوا بالطبع في نشر الوعي الطبقي والماركسي الثوري في المجتمع، بالعكس جميعهم نشروا أوهام إصلاحية ورجعية تصب جميعها في مجرى التماهي والتعاون الطبقي، والأهم، كما سبق لي أن قلت، أنهم أتلفوا كثيرا من العمال والشباب الثوري ولوثوا راية الماركسية والاشتراكية الثورية أمام أعين مزيد العمال والشباب الثوري، وهو الشيء الأكثر إجراما وسوف يحتاج لمجهود كبير ليتم تجاوزه لتنقية الراية الماركسية الثورية من أخطاء وحماقات وخيانات هؤلاء مدعي “الثقافة” و”الثورية”.
تروتسكي قال واصفاً بعبقرية ووضوح هذا النوع من “القادة” المترفين :”بالنسبة لغالبية الاشتراكيين -وأقصد الشريحة العليا- ليست اشتراكيتهم سوى قضية جانبية، ليست سوى انشغال ثانوي يتوافق مع ساعات فراغهم. يكرس هؤلاء السادة ستة أيام من الأسبوع لمهنهم الحرة أو التجارية، يحسنون ثرواتهم بشكل جيد بما فيه الكفاية، وفي اليوم السابع يوافقون على تكريس أنفسهم لخلاص أرواحهم […] من الواضح أن عددا كبيرا من هؤلاء السادة قد نجحوا في التنكر في صورة شيوعيين. إن هؤلاء ليسوا خصوما فكريين، بل أعداء طبقيون. […] ليس هناك ما هو أكثر إثارة للتقزز ولا أخطر في النشاط الثوري من البرجوازي الصغير الهاوي المتحفظ الراضي عن نفسه، وغير القادر على التضحية في سبيل فكرة عظيمة.
على العمال المتقدمين أن يتبنوا بحزم قاعدة واحدة بسيطة لكنها ثابتة وهي أن هؤلاء القادة أو المرشحون للقيادة الذين هم، في الأيام العادية السلمية، غير قادرين على تكريس وقتهم ومواهبهم وأموالهم لقضية الشيوعية، هم الأكثر احتمالا أن يتحولوا، في المرحلة الثورية، إلى خونة أو أن ينتقلوا إلى معسكر هؤلاء الذين ينتظرون لرؤية إلى جانب من سيكون النصر”. (تروتسكي: “مهام المعارضة الأمريكية “، 1929).
هل كان هناك مسار آخر:
يبقى السؤال هل كان هناك أمل في النصر، هل كان يمكننا تفادي ذلك المصير الذي حاق بنا، هل كان يمكن أن تكلل مساعينا بشيء غير الهزيمة؟
أقول إنه كان من الممكن ذلك، الظرف الموضوعي واحتدام الصراع الطبقي والوضع الإقليمي والعالمي المتفجر كان يسمح بذلك، فقط لو كان يوجد حزب ثوري كان سوف يستطيع استغلال زخم ثلاث سنوات من المد الثوري. خلال ثلاث سنوات لم يتبق مصنع أو مؤسسة أو جامعة لم تعلن العصيان. لو كان هناك حزب ثوري، حتى ولو كان قليل العدد، يرفع راية الاستقلال الطبقي، يدفع لنشر دعاية ثورية، يتبع نصيحة لينين “لنشرح بصبر”، يعمل على ضم طليعة العمال والشباب الثوري، حزب مثل هذا كان يمكن أن يحقق النصر.
دعونا نتذكر أن الحزب البلشفي في فبراير 1917 كان يضم حوالي 8000 عضو في بلد يتعدى عدد سكانه 150 مليون شخص، وفقط من خلال الحفاظ علي الراية البلشفية الثورية نظيفة من المساومات والتنازلات والشرح الصبور للعمال أن بداية حل مشاكلهم هو في الاستيلاء على السلطة واسقاط الرأسمالية، فقط بهذا مع العمل الدؤوب والصبر والعمل على تجذير الحركة الجماهيرية استطاعوا الاستيلاء علي السلطة وإسقاط الرأسمالية بعد ثمانية أشهر مليئة بالصعاب، والتي كان فيها حتى القادة البلاشفة، ومنهم لينين ذاته، مهددين بالاعتقال والقتل، لكن هذا لم يردعهم أو يقلل من عزيمتهم الثورية وايمانهم الصلب الذي لا يلين بصدق وعدالة قضيتهم. أما في حالتنا المصرية ماذا فعل “قادتنا الثوريون”، لقد آثروا السلامة والجبن بحجة أن وعي الجماهير غير ناضج بما فيه الكفاية ولا يفهمون “رسالتهم”، لكني أقول ما قاله الشهيد الفلسطيني غسان كنفاني: “إن الحياة لا قيمة لها قطّ إن لم تكن دائماً واقفة قُبالة الموت”.
لو كان هناك حزب ثوري يستثمر المد الثوري ويوفر له البوصلة والبرنامج الثوريين لكان يمكن أن يتغير الكثير. منذ الثمانية العشر يوماً الأولى، مروراً بانتفاضات محمد محمود ومجلس الوزراء وماسبيرو، ووصولاً للمظاهرات التي حدثت بعد المئة يوم الأولى من حكم محمد مرسي والثلاثين من يونيو، وخلالهم و بعدهم المئات والآلاف من المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات العمالية والطلابية والجماهيرية، لو كان هنالك منظمة ثورية مكافحة تحمل برنامج ماركسي ورؤية ثورية عن كيف يمكن أن تنتصر الثورة المصرية، ترتبط مع تلك النضالات العديدة وتشرح للعمال والشباب الثوري بصبر أن لا سبيل لتحقيق أبسط المطالب الاقتصادية والديمقراطية والاجتماعية إلا باستيلاء الجماهير بقيادة الطبقة العاملة على السلطة وإسقاط الرأسمالية. لو كان جرى العمل خلال تلك السنوات على كسب الطليعة في كل احتجاج وإضراب، من خلال عمل تنظيمي وتحريضي دؤوب ودائم لدعوة جماهير العمال والفقراء والشباب الثوري لتنظيم الصفوف والانضواء تحت راية الثورة الاشتراكية والقيادة العمالية الثورية، لكان لدينا منظمة ثورية حقة تحدث الفارق في مجريات الأحداث والمستقبل.
لو كان هذا لكانت احتمالية الانتصار عالية جداً، لكان من المؤكد أن الجماهير عندما تتخلص من أوهامها الاصلاحية أو الرجعية من خلال التجربة الحية -والتجربة ذات وتيرة سريعة في أوقات الثورة- ستلتفت للحل الثوري وللراية الثورية التي لم تُلوث والمنظمة التي صارحتهم بحقيقة ما يحدث ونبهتهم بحقيقة ما سوف يتعرضون له.
لكن ما حدث هو أنه في غياب الحل الثوري استغلت الدولة، ممثلة في القوات المسلحة، انهاك الجماهير والرغبة في الوصول لحل، وعجز وخيانة الاصلاحيين و”الثوريين”، ورفعت نفسها فوق الجميع وأظهرت نفسها كحكم بين الجميع، أي أظهرت نفسها حكما بين الطبقات، لصالح الحفاظ على النظام الرأسمالي ووضع حد للثورة بالانقلاب العسكري والقوة المسلحة.
نحو بناء تنظيم ماركسي ثوري:
الآن في الذكرى العاشرة للثورة، وبعد أن جرت مياه كثيرة في النهر، وبعد أن خان من خان وارتزق من ارتزق وتراخى من تراخى، ووقع في اليأس والإحباط والعدمية من وقع… الآن حان وقت البناء من جديد. يجب أن نبدأ في بناء تنظيمنا الثوري مستندين إلى تجارب الماضي وناقدين لها، متسلحين بالنظرية الماركسية، النظرية الوحيدة القادرة على مساعدتنا على فهم الواقع بشكل مادي وعلمي وعلى استشراف إمكانيات المستقبل.
يجب أن يبدأ الماركسيون والثوريون في دراسة النظرية الماركسية، ولنذكر أنفسنا بأول ما فعله لينين بعد هزيمة ثورة 1905، لقد قام بإعادة دراسة الماركسية من جديد. فلننظم مجموعات وحلقات للدراسة النظرية، مع مراعاة المخاطر الأمنية بالطبع، لنتبع نصيحة الشهيد الفلسطيني باسل الأعرج “عيش نيصاً وقاتل كالبرغوث”، لنختفي عندما يكون الاختفاء مفيداً ونظهر عندما يكون الظهور مفيداً. لا ينبغي أن يجتمع أكثر من ماركسي في مكان بدون أن ينشئوا حلقة دراسة وعملا تنظيميا فيما بينهم. فلنعمل على التجهز والتراكم النظري الذي سيمكننا تحويله لعمل تنظيمي جدي في وقت من الأوقات، عاجلاً وليس آجلاً. من أكبر خطايا التنظيمات الماركسية في الثورة المصرية أنها أهملت النظرية ووقعت في فخ الحركية المفرطة، وهذا أيضاً من أسباب تقلص عددها بشكل كبير بعد الهزيمة، لأنها لم تُعد شبابها وكوادرها بشكل نظري جيد ولم تهيئهم لما هو قادم. فتحلق الكثير حول الرايات الأكثر ثورية وقت المد الثوري بدون أساس نظري سوى الحماسة المفرطة وهجروها بعد الهزيمة.
يجب أن نعمل علي بناء تنظيم ماركسي وحمل راية ثورية نقية من الخيانات الطبقية التي لوث بها العديدون الماركسية. النظرية ثم النظرية يا رفاق، لننشئ خلايا ثورية في كل مكان نتواجد فيه وكل مكان نستطيع الوصول إليه، لنبدأ بدراسة النظرية الماركسية ونحن نسير في خط التنظيم والتحليل. بدون نظرية لن يوجد تحليل ولن يوجد تنظيم، والجملة الأشهر للينين تعبر عن هذا الموقف: “لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية”. خلاصة اخفاقات تدخل التنظيمات الماركسية في الثورة المصرية هي الخيانة الطبقية وإهمال النظرية.
خاتمة:
اليوم ونحن نمر من أعمق أزمات النظام الرأسمالي وأكثرها تعقيداً، وبعد هزيمة الثورة المصرية وعديد من ثورات المنطقة، ها نحن قد بدأنا نشهد نهوضا ثوريا جديدا في العديد من بلدان المنطقة والعالم -مثل السودان وتشيلي وغيرها- وبداية احتجاجات عاصفة في تونس، تهدم أسطورة التحول الديمقراطي ويبدأ طور جديد من الصراع الطبقي هناك. نحن نعيش في أكثر الفترات اضطرابا ولا توجد بقعة على الأرض في مأمن من احتدام الصراع الطبقي والانفجارات الاجتماعية، كما برهنت على ذلك الأحداث في الولايات المتحدة الأمريكية. ومصر بالطبع ليست استثناء، وكل ما حدث في العشر سنوات الماضية داخلياً وخارجياً والأزمة الحالية التي دفعها الوباء، ستكون له آثار كبيرة على وعي العمال والشباب الثوري.
الاحتجاجات المتقطعة والضعيفة التي بدأت خلال 2019، والمقاومة الشعبية ضد قانون التصالح في العام الماضي، والنضالات والإضرابات العمالية البطولية في شركة الدلتا للأسمدة وشركة الحديد والصلب وغيرهم، ضد التسريح والاقتطاعات وبيع الشركات العامة وتصفيتها، حتى وإن كانت هذه النضالات ماتزال تندلع بشكل دفاعي ومحملة بأوهام إصلاحية وأحياناً أوهام اقتصادوية ونقابية ضيقة، لكن هكذا هي عادة الجماهير إنها لا تلجأ للحلول العاصفة مثل الثورة إلا عندما ينسد الأفق بشكل كامل، وهذا لم يحدث حتى الآن في مصر. والأهم أنه لدينا جيل من الشباب الثوري والمناضلين الذين تعلموا وشبوا في معمعان الثورة المصرية وما تلاها، شهدوا وخبروا مد الثورة وجزرها ومحملين بوعي ودروس الماضي. كل هذا يجعلنا نستبشر بالمستقبل الحافل بالأحداث الثورية، التي من الممكن ألا تكون على مرمى حجر من الآن، ولكنها بالتأكيد ليست على بعد عشرات السنوات كما يحب أن يتخيل أصدقاؤنا المثقفين المتشائمين.
لكننا المرة القادمة يجب أن نكون نحن، الماركسيون، أكثر المستعدين لها، محملين بإرث هزائمنا ودروس أخطائنا وأخطاء رفاقنا في الطبقة العاملة العالمية خلال تجربة مديدة تمتد حوالي مائتي سنة من النضال ضد سلطة رأس المال.
يجب أن نتحلى بحس الاستعجال في التجهز لهذا المستقبل الذي من الممكن أن يكون على بعد سنوات قليلة من الآن. لينين في عام 1916، أي قبل الثورة بأقل من عام، تحت وطأة اليأس والإحباط قال: “على الأغلب لن يشهد جيلنا الثورة الاشتراكية”، ولكن هذا المزاج المحبط لم يدفع هذا المناضل الحديدي للركون للاستسلام والعدمية، وإنما دفعه للمضي قدما نحو بناء الأداة التي ستمكنه، هو أو غيره، حتى وإن لم يبق هو على قيد الحياة، من إنجاز مهمة انتصار الثورة وإسقاط الرأسمالية، هذه الأداة هي: الحزب الثوري.
- المجد للشهداء والحرية للمعتقلين
- نحو بناء تنظيم ماركسي ثوري
- تسقط قوات قمع الشعوب (الشرطة والجيش)
- تسقط حكومات رجال الأعمال
- لا حل سوى انتصار الثورة الاشتراكية بقيادة حكومة عمالية