تحتوي طبعة العام الجديد لمجلة دير شبيغل (Der Spiegel ) على مقالة مثيرة للاهتمام، مليئة بالملاحظات الذكية حول حالة الرأسمالية، تحت عنوان: “هل كان ماركس محقا في آخر المطاف؟”. إنها مقالة تفضح قلق الطبقة السائدة. لكن “الحلول” التي تقترحها -والتي هي أفكار رجعية وطوباوية قائمة على الحفاظ على الرأسمالية، مثل: “تقليص النمو” والكينزية- ليست في الحقيقة حلولا على الإطلاق.
“هل كان ماركس محقا في آخر المطاف؟”، هذا هو السؤال الذي تطرحه المجلة الأسبوعية الأشهر في ألمانيا على غلاف عددها للعام الجديد. يبدو أن الخوف قد استحوذ على هيئة تحرير مجلة دير شبيغل. هناك شيء ما خاطئ في الرأسمالية.
وكما يشرحون هم بأنفسهم فإن هذا الخوف منتشر على نطاق واسع بين صفوف الطبقة السائدة. يستشهد المقال بتصريح لراي داليو، وهو مدير صندوق تحوط تبلغ قيمته 22 مليار دولار، الذي يعتقد أن “الرأسمالية بحاجة ماسة إلى إصلاح جذري. وإلا فإنها ستهلك وتستحق ذلك”. صحيفة “فاينانشيال تايمز” تشعر بدورها بنفس القلق. كما أن شركتي Goldman Sachs وBosch، هما من بين الشركات العملاقة التي تشكك في مرونة السوق في مواجهة الكارثة التي تلوح في الأفق.
«إنه لأمر معبر جدا عن حالة العالم اليوم، عندما يبدأ كبار الرأسماليين فجأة في الظهور وكأنهم معجبون بكارل ماركس… ففي العديد من الأماكن، يتم طرح سؤال جوهري كبير، في أروقة الحكومات ومقرات الشركات، من قبل رواد الفكر والبراغماتيين مفاده: هل يمكننا أن نستمر بهذا النظام الاقتصادي؟».
هل في امكان الرأسمالية البقاء؟ إن طرح مثل هذا السؤال الوجودي من قبل المحللين الرأسماليين الجادين أنفسهم هو أمر بالغ الأهمية. لقد فقدوا الثقة في نظامهم وفي حقهم في الاستمرار في السيطرة. ثم تتوجه دير شبيغل إلى هؤلاء القراء الذين لم يدركوا بعد خطورة الوضع، فتوضح لهم أن الرأسمالية لا تمر بأزمة “طبيعية”. وأن عالم 2023 هو عالم “متعدد الأزمات”:
«[نقد] الرأسمالية ليس بالأمر الجديد. لكنه في بداية العام الرابع على الجائحة والعام الثاني على حرب أوكرانيا، صار يكتسب الزخم بشكل ملحوظ. أشياء كثيرة لم تعد تعمل: العولمة تنهار ومعها النموذج الألماني للازدهار. وصار العالم مقسما إلى كتل متصارعة. كما أن التضخم يتسبب في مزيد من التباعد بين الأغنياء والفقراء. وتقريبا لم تتحقق أي من الأهداف المتعلقة بالمناخ. ولم يعد بإمكان السياسيين الاستمرار في ترقيع جميع الشقوق الجديدة التي تظهر في النظام …
تتوالى المشاكل الكبيرة واحدة تلو الأخرى وكلها مترابطة. أزمة الطاقة، الحرب التجارية، وحرب عالمية تلوح في الأفق. كما أن الديمقراطية تتعرض للهجوم من قبل الشعبويين والمستبدين.
كان هناك، حتى وقت قريب، حل واحد لكل هذه المشاكل وهو أن السوق سيهتم بنفسه. لكن من الذي ما زال اليوم يؤمن بذلك؟ لا سيما بالنظر إلى التصاعد الهائل لجميع الاضطرابات وأزمة المناخ».
بما أننا افتتحنا مقالنا بهذا الاقتباس، فربما يتوهم القارئ أن هذه كلمات كاتب ماركسي. لكن كلا! هذه كلمات الناطق الأبرز بلسان الرأسمال الألماني. كل تلك الأزمات تتغذى على بعضها البعض، وتضاف إلى أزمة ثقة واسعة النطاق في الرأسمالية وفي مؤسساتها. وجدت دير شبيغل أن المزاج السائد بين الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 30 عاما، هو مزاج “الإحباط والاستسلام والغضب. وتجدد الحب تجاه الأفكار الاشتراكية”.
«نشهد منذ سنوات انتشار غضب واضح ضد الرأسمالية في البلدان الصناعية: ليس لأسباب أيديولوجية، بل لأن أسعار الإيجارات تتصاعد، ولأن ملكية العقارات أصبحت باهظة الثمن. وبالتالي لماذا يجب القبول بآلة للرخاء تستهلك الموارد في حين أنها لم تعد تنتج الرخاء للجميع؟».
ووفقا لاستطلاع رأي ورد في المقال، فإن 49% من الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما، في الولايات المتحدة لديهم رأي إيجابي تجاه الاشتراكية. في حين أن الاستطلاع الذي قامت به المجلة يقول إن ما يقرب من نصف الألمان يرون أن الرأسمالية هي التي قادت العالم إلى أزمة المناخ. وهكذا فإنه حتى أكثر المدافعين عن الرأسمالية حماسة لا يستطيعون إنكار هذه الحقيقة البسيطة.
لا بد من القيام بشيء ما. يقول المؤلف ساخرا: «يبدو أننا بحاجة إلى “Zeitenwende”»، مكررا بذلك تعبيرا شهيرا للمستشار شولتز. عبارة Zeitenwende إشارة إلى نقطة انعطاف في الوضع العالمي، وبالتالي في سياسة الرأسمالية الألمانية أيضا. إن استخدام كلمة “Zeitenwende” اليوم، سيجعل عيون معظم قراء الصحافة الألمانية تتألق، لأنها أصبحت الموضوع الرئيسي، المتكرر يوما بعد يوم ، على لسان الطبقة السائدة بأكملها. يقول الرأسماليون الألمان: «نحن نعيش في عالم أكثر خطورة، عالم متعدد الأقطاب، عالم “متعدد الأزمات”. لقد وصلنا إلى نقطة تحول. الوضع يتطلب ألمانيا قوية، مدعومة بجيش قوي». هذه هي الطريقة التي تواجه بها الطبقة السائدة الألمانية تلك “الأزمة المتعددة”: بالتقشف والعسكرة. بالتحضير للحرب بين الأمم وبين الطبقات.
لكن مؤلفينا لديهم رغبة تقية في نوع مختلف من Zeitenwende، نوع يتضمن “تطوير رأسمالية ألطف، وأكثر عدلا، وأكثر استدامة”. لقد حدد المؤلفون، بصفتهم ممثلين أذكياء لرأس المال، أعراض المشكلة بشكل صحيح عموما. نعم، فقط لو كانت الرأسمالية “أكثر لطفا”، و”أكثر عدلا”، و”أكثر استدامة”، عندها لم يكن نظامهم ليكون في هذه الفوضى. لكنها ليست كذلك ولا يمكنها أبدا أن تكون كذلك. وبالضبط عندما يتعلق الأمر على وجه التحديد بشرح السبب وتقديم الحل للمشكلة، تصل قدرة مؤلفينا على الرؤية إلى نهايتها. تراهم متمسكين بالقش مثل انسان يغرق.
طلب النجدة من الدولة؟
تطرح دير شبيغل السؤال على الجميع: كيف يمكننا الوصول إلى هذه “الرأسمالية اللطيفة”؟ وتستنتج ، كما هو متوقع، أننا بحاجة إلى العوة إلى المذهب الكينزي: المزيد من تدخل الدولة في السوق؛ المزيد من التنظيم؛ المزيد من “الإعانات الموجهة”.
يجد “الخبراء” الأكاديميون، الذين تستشهد بهم دير شبيغل، أنه من الغريب كيف أن الحكومات التي كان في إمكانها أن توزع مبالغ لا نهاية لها من الأموال لإنقاذ البنوك في عام 2008، أو أثناء الجائحة، لا تستخدم نفس تلك الإجراءات “لإجبار” قطاعات صناعية بأكملها على أن تكون أكثر اخضرارا وأكثر مسؤولية من الناحية الاجتماعية؟ وتتساءل دير شبيغل، لماذا لا يمكننا تقديم “دعم حكومي مشروط بخفض الشركات لانبعاثاتها”؟
إنه منطق غريب. الطبقة الرأسمالية، التي لا يحركها سوى دافع الربح فقط، لا تستطيع حل مشكلة تغير المناخ (أو أي من الأزمات الاجتماعية الأخرى التي يتضمنها اسم “الأزمة المتعددة”)، لماذا إذن لا تضخ تريليونات الدولارات في صناديقها لتحفيزها على ذلك؟ لماذا لا ترمى المزيد من الأموال بين براثن مصاصي الدماء الجشعين المسؤولين عن هذه الأزمات؟
هذه ليست فكرة ثورية على الاطلاق. إنها، في الواقع، تشكل الدعامة المركزية للسياسة الحالية التي تطبق في الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي. نحتاج فقط إلى إلقاء نظرة على “قانون بايدن لخفض التضخم لعام 2022 (IRA)”. إن أساسه هو بالتحديد تقيم الدعم المشروط “لحث” الرأسماليين على التصرف بطريقة معينة: تطوير الصناعة الخضراء، وإعادة الصناعات إلى الولايات المتحدة. لكن مجرد وجوب لجوء الدولة إلى المزيد من الدعم الهائل هو في حد ذاته إدانة دامغة للطبيعة الطفيلية للطبقة الرأسمالية ودليل ساطع على فشل اقتصاد السوق.
لكن هذه الإجراءات الكينزية لن تؤدي إلا إلى تفاقم المشكلة. قانون بايدن بدأ يثير بالفعل صيحات الألم من جانب الحكومات الأوروبية، التي تتوقع تراجع التصنيع في قارتها. إنه قانون يسعّر الحمائية. لكن ذلك القانون وعلى الرغم من اسمه والهدف المفترض الذي وضعه على كاهله، فإن التكلفة الصافية لاستعادة الاستثمارات الصناعية وضخ إعانات بمئات المليارات من الدولارات لن تؤدي إلا إلى زيادة التضخم. وهكذا فإن هذا “الغِذاء المجاني” المقدم للرأسماليين سيدفع ثمنه العمال بتآكل قيمة أجورهم.
وأخيرا فإن ما يفشل الكينزيون في فهمه هو أن السبب الأساسي لأزمة الرأسمالية، كما أوضح ماركس منذ فترة طويلة، ليس نقص الطلب الذي يجب على الدولة سدّه، بل فائض الإنتاج. وهذا ما فشل صحفيو دير شبيغل في فهمه. يمكن للدولة أن تدعم الطبقة الرأسمالية كما تحب، لكن عندما يكون السوق مشبعا بالفعل، فإن القدرة الإنتاجية الجديدة لا يمكنها إلا أن تؤدي إلى تفاقم فائض الإنتاج. وفي غياب أسواق جديدة مربحة، تسعى الطبقة الرأسمالية إلى تحقيق الأرباح بوسائل أخرى: بعربدة المضاربة، كما لاحظ كتّاب المقال، إذ قالوا:
«[في] عام 2022، أعلنت الشركات الأمريكية أنها ستستثمر حوالي تريليون دولار في عمليات إعادة شراء الأسهم بدلا من الاستثمار في منتجات جديدة ومستدامة».
“هذا جنون”، هذا ما قاله الخبير الأكاديمي في دير شبيغل. لكن هذا الجنون هو أحد أعراض مرض نظام يحتضر. الرأسمالية في مأزق. لقد انتهت فترة التعافي لما بعد الجائحة وها هو ركود جديد يلوح في الأفق. من المتوقع أن يدخل ثلث العالم في حالة ركود هذا العام، مع توقف المحركات الرئيسية للاقتصاد العالمي -الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين- كلها في وقت واحد. خبراء دير شبيغل يدركون بوضوح أن هذه ليست أزمة قصيرة المدى، بل هي صورة قاتمة للأوضاع تمتد إلى مستقبل غير محدد. بل إنهم، في الواقع، ذهبوا إلى حد التنبؤ بأن: “النمو الاقتصادي سينتهي في الغرب في المستقبل المنظور”.
أشار هؤلاء المؤلفون إلى أن هذا النمو كان شيئا جيدا جدا للرأسمالية بالأمس. إن النمو، في الواقع، هو شرط لا غنى عنه لاستمرار وجود أي نظام اجتماعي. وكما أوضح ماركس فإنه طالما كانت العلاقات الرأسمالية ما تزال قادرة على تطوير قوى الإنتاج، فإن وجودها كان مبررا من وجهة النظر التاريخية. لكن وبمجرد أن أصبحت عاجزة على القيام بذلك، «تتحول هذه العلاقات من أشكال لتطور قوى الإنتاج إلى قيود عليها. عندها تنفتح حقبة الثورة الاجتماعية».
وفي مواجهة هذه الحقيقة المخيفة، يلجأ محررو دير شبيغل الآن إلى التشبث بقشتهم الأخيرة الواهية أي: الفكرة التي تقول بأن نقص النمو ربما يكون في الواقع أمرا جيدا للغاية! فأمام خطر كارثة بيئية، ربما يتعين علينا أن ننظر بتفاؤل نحو مستقبل نستهلك فيه كميات أقل؛ حقبة “ما بعد النمو”، أو “تقليص النمو” (Degrowth) لمنحها اسمها الأكاديمي العصري.
يستشهد المقال بالعديد من أنصار هذه النظرة المنتشرة على نطاق واسع، بمن في ذلك الأكاديمي الياباني، ومؤلف كتاب رأس المال في العصر الأنثروبوسيني[1] ، الذي يسمي نفسه ماركسيا: كوهي سايتو؛ والناشط في حركة جمعات من أجل المستقبل… ونادي روما المالثوسي الجديد والعديد من الاقتصاديين اليمينيين. إن استمداد المجلات البرجوازية، مثل “دير شبيغل”، للطمأنينة من أفكار “تقليص النمو” هذه، يجب أن يدفع أصحاب تلك الأفكار من “اليساريين” إلى إعادة التفكير.
كيف استمدت دير شبيغل الطمأنينة من نظرية “تقليص النمو“
إن الفكرة وراء نظريات “تقليص النمو” بسيطة للغاية. تقوم الرأسمالية على أساس النمو الاقتصادي المستمر. لكن عالمنا الطبيعي، الذي هو مصدر كل الثروات، محدود. وبالتالي فإنه لا يمكننا الاستمرار على طول طريق لانهائي من النمو دون أن نتسبب حتما في تدمير بيئتنا. لذا علينا أن نختار “تقليص النمو”.
لكن الطريقة التي يطرح بها السؤال: هل نختار “النمو” أو “تقليص النمو”؟ سخيفة. النمو الاقتصادي في ظل الرأسمالية ليس شيئا يقوده ببساطة ومباشرة السياسيون، أو حتى الرأسماليون الأفراد أنفسهم. المدافعون عن فكرة تقليص النمو غالبا ما يزعمون أن النمو هو نتيجة لفكرة سيئة، نتيجة “لمبدأ النمو” الذي سيطر بشكل غير مفهوم على أذهان الرأسماليين.
وتأمل دير شبيغل أن تحرز أفكار أخرى تقدما في أذهان أرباب الصناعة، مستشهدة بالبيان المشترك لـ “المائدة المستديرة للأعمال” (Business Roundtable) لـ 200 شركة أمريكية، والتي تعهدت قبل ثلاث سنوات بخدمة “جميع أصحاب المصلحة”: الزبناء والموظفين والشركاء الاقتصاديين ، وليس فقط حاملي الاسهم.
قد نحس بالإعجاب تجاه النوايا اللطيفة وراء تصريحات الرؤساء التنفيذيين ومجالس الإدارة حول حماية مصالح “جميع أصحاب المصلحة”، لكنهم جميعا خاضعون في النهاية للمنطق الحديدي، الذي يشكل أساس الرأسمالية، أي: دافع الربح.
إن النمو في ظل الرأسمالية غير مقصود في حد ذاته. إنه نتيجة عرضية لسعي العديد من رؤوس الأموال وراء مصالحها الخاصة، والذي يأخذ شكل تراكم رأس المال. هذه هي القوة الدافعة الحقيقية “للنمو” في ظل الاقتصاد الرأسمالي.
يحدث تراكم رأس المال، كما أوضح ماركس منذ زمن بعيد، عندما يستثمر الرأسماليون جزءا من فائض القيمة، الذي يستخرجونه من الطبقة العاملة، في رأس مال جديد على شكل آلات وقوة عاملة. يتوجب على كل رأسمالي أن يسعى إلى مراكمة رأس المال وإلا فإنه مهدد بالانقراض. ومن خلال تثويرهم المتواصل للإنتاج يحافظ الرأسماليون على قدرتهم التنافسية، وينتجون بتكلفة أقل، ويستحوذون على حصة منافسيهم في السوق. فإذا ما فشلوا في القيام بذلك، سينجح آخرون وسيستحوذون على حصتهم في السوق. وهذا يتطلب إنفاقا متزايدا باستمرار لرأس المال، وبالتالي تراكما متزايدا لرأس المال.
ومع ذلك، فإن الحقيقة الغريبة هي أن طريقة اشتغال الرأسمالية الحديثة لا تؤدي إلى نمو كبير. وكما يوضح هذا المقال، فإن الاتجاه العام للرأسمالية هو الانكماش والركود والانحدار، أو تقليص النمو، إذا شئتم القول.
حمدا لله! هذا بالتأكيد انتصار لدعاة تقليص النمو!
في الواقع، هذا ليس انعكاسا لسياسة سيئة أو جيدة من جانب السياسيين أو رجال الأعمال، بل هو انعكاس للمأزق التاريخي للرأسمالية؛ للطبيعة الطفيلية للطبقة الرأسمالية اليوم، التي لا تستطيع تطوير قوى الإنتاج كما كانت تفعل من قبل. وهنا تأتي نظريات تقليص النمو (ربما عن غير قصد) لمساعدة الطبقة السائدة من خلال تحويل هذه الضرورة إلى فضيلة.
أما الرأسماليون أنفسهم، فهم أناس جادون، حيث لن يقفوا مكتوفي الأيدي، يطلقون المتمنيات، بينما دفاتر حساباتهم تسجل فترة “تقلص” في الأرباح. سيفعلون كل ما في وسعهم للحفاظ على ارتفاع الأرباح… وذلك على حساب القدرة الاستهلاكية للطبقة العاملة.
يقول أحد “الخبراء” لمجلة دير شبيغل: «إذا كانت غالبية السكان قد قررت تقليل البصمة البيئية عن طريق استهلاك عدد أقل من السلع المادية والتركيز بشكل أكبر على أوقات الفراغ والخدمات، فإنه لا خطأ مطلقا في اتخاذ هذا القرار من وجهة نظر اقتصادية»، على الرغم من كونه يحذر من أنه «سيتعين على المرء، خلال فترة انتقالية، أن يتعايش مع العواقب، التي تتراوح بين ارتفاع البطالة وانخفاض الدخل».
هذه هي المشكلة. يمكننا تقليص بصمتنا البيئية، لكن سيتعين على الطبقة العاملة أن تستهلك كميات أقل وتتحمل بطالة أعلى وأجورا أقل. في حين أننا نحن الماركسيون ندافع عن رفع القدرة الاستهلاكية للعمال، ضد محاولات الرأسماليين رفع أرباحهم على حسابها، مع الاستمرار طوال الوقت في التأكيد على الحاجة إلى اسقاط هذا النظام.
قد يعترض المدافعون اليساريون عن نظرية تقليص النمو بأنهم لا يقصدون “بالتقليص” تقييد استهلاك الطبقة العاملة، بل يقصدون فقط تقليص نمو صناعات وممارسات معينة ضارة. حتى ولو كان المقصود هو الزيادة في ما تستهلكه الطبقة العاملة ونمو صناعة مستدامة بيئيا، فإن كل هذا الحديث عن تقليص النمو لا يؤدي إلا إلى إخفاء وتشويش الغاية المنشودة. وتحت راية مشوشة مثل هذه، يمكن للبرجوازية أن تجد مساحة لنشر فكرتها عن “تقليص النمو”، بنفحة من المالتوسية.
من أجل اقتصاد اشتراكي مخطط
هناك أزمة وجودية مستعرة تجتاح جميع أنحاء كوكبنا. ونحن إذ نعترض على فكرة تقليص النمو، لا يعني ذلك أننا نستهين بخطورة هذه الأزمة، بل لأن هذا أمر خطير للغاية بحيث لا يمكننا أن نخدع أنفسنا بمفاهيم خاطئة.
لكن بينما يؤدي تراكم رأس المال إلى تدمير كامل للطبيعة وانزلاق متهور في اتجاه كارثة مناخية، فإن الانكماش الاقتصادي في ظل الرأسمالية لا يعني عكس ذلك بأي حال من الأحوال. انظروا فقط إلى العالم في عام 2023. فبينما يؤدي انحطاط الرأسمالية إلى تكثيف المنافسة بين الأمم، مما يؤجج الحروب وأزمة الطاقة، كيف هو رد القوى الكبرى؟ ردها هو الاستنجاد بمصادر الطاقة المتاحة بسهولة (والأكثر تلويثا): لقد عاد عصر الفحم مجددا.
فوفقا لرويترز: تخطط كل من الولايات المتحدة الأمريكية واليونان والدنمارك وإسبانيا ومقدونيا الشمالية وألمانيا وفنلندا والمملكة المتحدة لاستئناف النشاط في محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، والتي إما تم إيقاف تشغيلها أو كان من المقرر إيقاف تشغيلها. وتعتزم النمسا تحويل بعض محطات توليد الطاقة التي كانت تشتغل بالغاز إلى الاشتغال بالفحم. كما تعتزم إيطاليا وهولندا زيادة الإنتاج من محطات الطاقة القائمة على الفحم والنفط. وتعتزم الصين فتح محطات جديدة تعمل بالفحم بقدرة 8,3 جيغاوات. بينما تعتزم بولندا وصربيا تعزيز إنتاج مناجم الفحم. وقد أعلنت كل من بوتسوانا وجنوب إفريقيا وتنزانيا وأستراليا وكولومبيا عن زيادة كبيرة في صادرات الفحم. كل هذا يحدث بينما نتجه نحو الركود!
هذه هي النتيجة الطبيعية للفوضى الرأسمالية، حيث تتنافس كل عصابة من الرأسماليين ضد عصابة أخرى من الرأسماليين على الموارد والأسواق. وبدلا من ذلك، لكي نبدأ حقا في معالجة مشكلة تغير المناخ، يجب علينا مصادرة جميع الاحتكارات ووضعها في إطار خطة إنتاج اشتراكية. عندها سيمكننا إيقاف الصناعات الضارة بيئيا، بين عشية وضحاها تقريبا. سيمكننا استخدام موارد المجتمع بالكامل لأجل التحول بنسبة 100% وبسرعة فائقة إلى مصادر الطاقة الخضراء والمتجددة. وسيمكننا القيام بذلك مع زيادة كمية الطاقة المنتجة.
وعلى أساس خطة عقلانية للزراعة، سيمكن استعمال التكنولوجيا الأكثر تقدما بشكل موحد لزيادة إنتاج الغذاء بشكل كبير، مع تقليل الانبعاثات، بالإضافة إلى ترشيد استخدام المياه والطاقة والأراضي.
يوضح أحد الناشطين الشباب لمجلة دير شبيغل أنه بدلا من الاقتصاد الموجه نحو “النمو”، نحتاج إلى “اقتصاد موجه نحو الصالح العام”. نحن نتفق مع النقطة الأخيرة، لكن “الاقتصاد الموجه نحو الصالح العام” ليس نقيض “النمو”، إن التناقض الحقيقي هو بين الفوضى الرأسمالية والتخطيط الاشتراكي.