في هذا المقال يلقي الرفيق آلان وودز، محرر موقع marxist.com، نظرة على الحالة المضطربة للعالم في مستهل سنة 2021. الرأسمالية غارقة في أزمة عميقة. وبينما يواصل عدد قليل من أصحاب الملايير مراكمة ثروات فاحشة، تجد الغالبية العظمى نفسها محاصرة بين جائحة فيروس كورونا وبين الفقر. لكن الماركسيين يبقون، رغم ذلك، متفائلين. لقد بدأ العمال والشباب في تسخين عضلاتهم استعدادا للمعارك القادمة.
[Source]
«يزهر الأمل على نحو سرمدي في صدور البشر»، تحتوي هذه الكلمات الشهيرة لشاعر القرن الثامن عشر الإنجليزي العظيم، ألكسندر بوب، على حقيقة عميقة عن النفس البشرية. فالأمل في آخر المطاف هو الذي يمكننا من الاستمرار، إنه ما يدعمنا خلال مرورنا بتجارب ومحن الحياة.
وحتى في أحلك اللحظات، عندما نشعر بالإرهاق من الصعوبات التي تحيط بنا من جميع الجهات، فإن هذا الاعتقاد الراسخ بأن الأمور ستتحسن في النهاية هو الذي يوفر لنا القوة المعنوية اللازمة لمواصلة العيش والنضال، حتى عندما يبدو أن كل الاحتمالات تسير ضدنا.
لكن ما الذي سيحدث إذا انطفأ كل أمل؟ إن عالما بلا أمل سيكون مكانا مظلما حقا. سيكون من المستحيل العيش في مثل ذلك العالم. وإذا ما انتزعت من الناس الأمل في مستقبل أفضل، ستنتزع منهم كل ما تبقى من إنسانيتهم وكرامتهم.
إن افتقاد الأمل لا يترك سوى شعور واحد ممكن، وهذا الشعور هو اليأس. يمكن للناس الاستجابة لليأس بأشكال مختلفة. لكن في الأساس ليس أمامهم سوى طريقين: الأول هو طريق السلبية واللامبالاة، وفي النهاية الاستنتاج بأن الحياة لا تستحق أن تعاش. ثم هناك طريق آخر: فالبشر مخلوقات شديدة العناد، ولن يتوصلوا عن طيب خاطر إلى نتيجة مفادها أنه لا يوجد مخرج، لذا فالطريق الثاني هو: طريق الثورة.
سنة سعيدة؟
عند منتصف الليل، ومع تحول يوم 31 دجنبر إلى 01 يناير، من المعتاد أن يتمنى المرء لأصدقائه وعائلته سنة جديدة سعيدة. وهذه السنة لن تكون مختلفة، لقد كان بوب العجوز محقا تماما: فالأمل يزهر على نحو سرمدي في صدور البشر.
لذلك قمنا، كالمعتاد، برفع الأنخاب وتمنينا للجميع سنة مليئة بالسعادة والصحة والازدهار، على أمل أن تكون سنة 2021 أفضل من سنة 2020. وعلى كل حال فإنه من الصعب أن تكون أسوء!
لكن ومع ذلك، مع ذلك… كم منا يؤمن بالفعل، من أعماق قلبه، بهذه المتمنيات المتفائلة؟ في الحقيقة هناك القليل من الأدلة الملموسة لتبريرها.
ما تزال الجائحة تنتشر خارج نطاق السيطرة، وتعرض ملايين الناس للمعاناة والموت. في نهاية 2020، بلغ العدد الإجمالي لحالات الإصابة بفيروس كورونا على النطاق العالمي، ما مجموعه 82.421.447، وبلغ العدد الإجمالي للوفيات المسجلة 1.799.076.
ورغم ذلك فإنه ليس هناك من شك في أن هذه الأرقام الرسمية تقلل بشكل كبير من تقدير الوضع الحقيقي. من يمكنه أن يصدق الإحصاءات الرسمية للأشخاص الذين ماتوا بسبب هذا المرض المروع في الهند، على سبيل المثال؟
ولتأكيد هذه النقطة تكفي الإشارة إلى التزوير الصارخ للإحصاءات في بريطانيا، وغيرها مما يسمى بالبلدان المتقدمة، بهدف تقليل عدد الوفيات الناتجة عن الفيروس.
وبما أن الفيروسات لا تُظهر أي احترام للحدود الوطنية، فإنه حتى البلدان الأكثر ثراءً لم تنج. إذ يمكن العثور على بعض من أسوء الإحصائيات في الولايات المتحدة نفسها، حيث تعتبر فلوريدا حاليا بؤرة للوباء.
في أحد المستشفيات بلوس أنجلوس تجاوزت حالات الإصابة بكوفيد 19 طاقة المستشفى الاستيعابية، مما اضطرهم إلى رعاية ضحايا المرض في محل لبيع الهدايا. هذه هي حقيقة الوضع في أغنى بلد في العالم.
مسألة طبقية
قال تروتسكي ذات مرة، مستشهدا بكلمات الفيلسوف العظيم سبينوزا، إن مهمتنا هي: «ألا نبكي ولا نضحك، بل أن نفهم».
يُقال لنا باستمرار إنه يجب علينا أن نتحد لمواجهة عدو مشترك، عدو قاس لا يرحم وغير مرئي يسمى كوفيد 19. “نحن جميعا في مركب واحد”، هذا هو الشعار الخاطئ والمنافق الذي يسعى من خلاله الأثرياء والأقوياء إلى صرف انتباهنا عن الحقيقة الواضحة بأن الجائحة الحالية هي أيضا مسألة طبقية.
كلا لسنا “جميعا في مركب واحد”، بل الواقع هو العكس تماما. لقد ساعدت الجائحة على كشف الانقسامات العميقة بين الأغنياء والفقراء، أي خط الصدع الحقيقي الذي يقسم المجتمع إلى أولئك الذين هم محكوم عليهم بالمرض والموت بشكل مروع، وبين أولئك الذين ليسوا كذلك.
وفي أعقاب الجائحة جاء أعمق ركود اقتصادي في العصر الحديث. ضربت الأزمة الاقتصادية العالمية الولايات المتحدة بشدة. وخلال الجائحة تقدم 40 مليون أمريكي بطلب إعانة للبطالة. فكما هي العادة دائما: الفقراء هم أكثر من يعاني.
عام 2019 أفاد بنك الاحتياطي الفيدرالي أن أربعة من بين كل 10 أمريكيين ليس لديهم ما يكفي من المال في حساباتهم المصرفية لتغطية 400 دولار من النفقات غير المتوقعة. وقد أخذ هذا الوضع خلال الأشهر القليلة الأولى من عام 2020، منعطفا دراماتيكيا نحو الأسوء.
اضطرت الطبقة الحاكمة، التي أحست بالرعب من الخطر الذي يمثله هذا الوضع، إلى اتخاذ إجراءات طارئة. والدولة، التي عليها، وفقا لنظرية السوق الحرة، ألا تلعب أي دور في الحياة الاقتصادية قد صارت الآن الشيء الوحيد الذي يدعم النظام الرأسمالي.
في شهر مارس الماضي، وافق المشرعون الأمريكيون على صرف أكثر من 2.4 تريليون دولار كمساعدة اقتصادية للشركات والأسر، في محاولة لتخفيف الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها ملايين العائلات. في الواقع تم إنفاق معظم هذه الأموال على شكل منح سخية للأثرياء. لكن الأموال الممنوحة للعاطلين قد عملت بلا شك على تخفيف آثار الأزمة عن الفئات الأكثر فقرا وهشاشة في المجتمع.
لكن الدعم استمر يتضاءل منذ الصيف، ومن المقرر أن تنتهي صلاحية العديد من البرامج الرئيسية -بما في ذلك إعانات العمال المؤقتين والعاطلين عن العمل لأكثر من ستة أشهر- في نهاية دجنبر. وبسبب سحب الحكومة للدعم صار هناك عدد متزايد من الناس عاجزين عن توفير طعام كاف أو يتخلفون عن دفع الإيجار ومختلف الفواتير الأخرى.
الجوع في الولايات المتحدة
يجد الكثير من الناس الآن أنفسهم في وضع يائس. فبعد أن فقدوا فجأة وظائفهم، صاروا يواجهون خطر فقدان منازلهم. ليس لديهم دخل ولا أموال كافية لشراء الطعام. وتعاني ملايين العائلات من الجوع في أغنى بلد في العالم.
تضاعف انعدام الأمن الغذائي منذ العام الماضي، ووصل إلى أعلى مستوى له منذ 1998، أي السنة التي بدأ فيها لأول مرة جمع البيانات حول قدرة الأسر الأمريكية على الحصول على ما يكفي من الغذاء. ووفقا لاستطلاع حديث فقد قال واحد من بين كل ثمانية أمريكيين إنه لم يجد، في بعض الأحيان أو في كثير من الأحيان، ما يكفي من الطعام خلال شهر نوفمبر.
وقد قدم بنك الطعام في سان فرانسيسكو-مارين، الذي يعمل في إحدى أغنى مقاطعات الولايات المتحدة -سان فرانسيسكو ومارين- خدماته لحوالي 60 ألف أسرة، أي ضعف مستوى ما قبل انطلاق جائحة كوفيد 19. ويوم 14 دجنبر ذكرت بي بي سي نيوز أنه:
«على الرغم من أن الجوع ليس شيئا جديدا في أمريكا، فإنه قد كان للجائحة تأثير كبير. لقد أصبح انعدام الأمن الغذائي مشكلة وطنية منتشرة ولم تستثن حتى بعض المناطق الأكثر ثراء.
ومنذ أوائل نوفمبر، في مكان ليس بعيدا عن نادي ترامب الوطني للغولف في فيرجينيا، في منطقة كانت تشهد أدنى معدلات الجوع في البلاد، قدمت منظمة Loudoun Hunger Relief الطعام لما بين 750 و1100 أسرة في أسبوع واحد، بزيادة قدرها 225٪ عن المتوسط الأسبوعي لما قبل الجائحة.
وقالت المديرة التنفيذية جنيفر مونتغمري: “لقد رأينا أشخاصا لم يكونوا بحاجة إلى هذا النوع من الموارد من قبل”. وأضافت: “لقد كان من الواضح أنهم كانوا على بعد شيك واحد أو اثنين من الوقوع في مشكلة خطيرة”.»
“لقد فقدت كبريائي”
خذوا على سبيل المثال سائق شاحنة من فلوريدا، يدعى عمر لايتنر، يبلغ من العمر 42 عاما. لقد فقد وظيفته في فبراير بسبب الجائحة، وكان منذ ذلك الحين يعيش على مدخراته في نزل صغير في جاكسونفيل مع زوجته وأطفاله. لكن مدخراتهم تنفذ بسرعة.
قال لايتنر: «كانت مدخراتي 22 ألف دولار عندما ذهبنا إلى الإقامة في النزل. أدى ذلك إلى وصولنا إلى حوالي 17.300 دولار. صرفنا الباقي على كوبونات الغذاء. لقد ساعدنا ذلك كثيرا، لكن لدينا طفلان مصابان بالتوحد الشديد، وهناك دواء وعلاج يجب دفع ثمنهما».
وبينما يواصل لايتنر البحث عن عمل، فإن مصدر قلقه الأكبر والأكثر إلحاحا هو كيفية تأمين منزل لعائلته. لقد تراكمت عليهم أربعة أسابيع من الإيجار وهم الآن مهددون بالإخلاء.
وكجزء من سياسة الإخلاء التي يتبناها النزل، يمكن للإدارة إزالة التجهيزات التي تعتبرها غير ضرورية من غرفتهم. انتزعوا منهم هذا الأسبوع التلفزيون، وهو الشيء الذي يحتاجه الزوجان بشدة لتهدئة ابنهما جمال، الذي تجعله إصابته بالتوحد غير قادر على الكلام.
قال لايتنر: «نحن أسرة مكونة من خمسة أفراد، ولا توجد ملاجئ متاحة لاستقبالنا الآن».
وأضاف: «لقد فقدت كبريائي. نحن متشردون تقريبا الآن. كنت دائما رجلا معتزا بنفسه. لقد عملت طوال حياتي، وكان لدينا دائما منزل جميل وسيارات جميلة.
أعرف كيف نشأت، لقد كان علي العمل للحصول على تلك الأشياء. وقد تم انتزاعها مني دون أي خطأ مني».
هذا هو الوجه الحقيقي الوحشي للرأسمالية في القرن الحادي والعشرين. ولا يوجد وجه غيره. في الأول من يناير 2021، لم تكن كلمة ‘سنة سعيدة’ سوى عبارة جوفاء مرة بالنسبة لما لا يقل عن 12 مليون مواطن أمريكي.
سنة سعيدة للأثرياء
لكن مهلا! دعونا لا نكون مكتئبين جدا، إذ ليست كل الأخبار سيئة. ففي خضم هذا البحر اللامتناهي من البؤس البشري والمعاناة والجوع والموت، هناك أناس يبلون بشكل جيد بالفعل.
ففي الوقت الذي كان فيه أكثر من 40 مليون أميركي يتقدمون بطلبات للحصول على إعانة بطالة، شهد أصحاب الملايير زيادة ثرواتهم بأكثر من نصف تريليون دولار. لقد كانت سنة 2020 بالنسبة لهؤلاء الأشخاص سنة سعيدة جدا بالفعل. وليس هناك على الإطلاق أي سبب للشك في أن سنة 2021 ستكون أكثر سعادة.
خذوا فقط حالة رئيس شركة أمازون جيف بيزوس. لقد أصبح أول شخص على الإطلاق يمتلك ثروة إجمالية تزيد عن 200 مليار دولار. ومنذ بداية شهر مارس، عندما شهدت الولايات المتحدة أولى حالات الوفاة بسبب فيروس كورونا، تضخمت ثروة بيزوس بمقدار 74 مليار دولار، لذلك فإن هذا سبب كاف للاحتفال!
يجني السيد بيزوس الآن من الأموال في الثانية الواحدة أكثر مما يجنيه العامل الأمريكي العادي في أسبوع كامل. سيكسب المواطن الأمريكي العادي، الحاصل على درجة البكالوريوس، في حياته حوالي 2.2 مليون دولار، بينما يجني بيزوس حوالي 2.2 مليون دولار في 15 دقيقة.
وبامتلاكه لـ 190 مليار دولار، يعتبر الرئيس التنفيذي لشركة أمازون ثريا لدرجة أن بإمكانه إنفاق 02 مليون دولار مقابل كل دولار ينفقه مواطن أمريكي متوسط. إن ثروته تزيد عن ضعف ثروة النظام الملكي البريطاني بأكمله وأكبر من الناتج المحلي الإجمالي لبلدان بأكملها.
لكنه لم يكن الوحيد في حظه الجيد. فقد شهد قطب قطاع الكازينوهات، شيلدون أديلسون، ارتفاع ثروته بمقدار 05 ملايير دولار، بينما شهد إيلون موسك زيادة ثروته بـ 17,2 مليار دولار. وعند جمع هذه الأرقام معا تجد أن أصحاب الملايير في الولايات المتحدة قد رفعوا حتى الآن، أثناء جائحة كوفيد 19، إجمالي صافي ثروتهم بـ 637 مليار دولار.
وكما سبق لنا أن أشرنا فإن جزء كبيرا من ثروتهم الجديدة قد جاء مباشرة من المنح السخية التي قدمت لهم من الخزينة العامة. حيث أن القسم الأكبر من المبلغ الضخم الذي قدمته الحكومة لمواجهة الأزمة، قد ذهب مباشرة إلى جيوب 01% الأكثر ثراء.
ومن ثم فإن القوانين الضريبية الصديقة للأثرياء والثغرات تبقي هؤلاء المليارديرات في القمة. وليست هذه سوى السبل القانونية التي يتخذها الأثرياء لتجنب دفع الضرائب. قدر الباحثون، عام 2017، أن حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مخبأ في الملاذات الضريبية. ووجدت دراسة تمت في عام 2012 أن أغنى أغنياء العالم يخبؤون ما يصل إلى 32 تريليون دولار في الملاذات الضريبية.
إن الفجوة التي تفصل بين الذين يملكون وبين الذين لا يملكون اتسعت إلى هاوية لا يمكن رأبها، مما يؤدي إلى تعميق الاستقطاب الاجتماعي والسياسي وخلق مزاج متفجر داخل المجتمع. وقد تأكدت هذه الحقيقة بشكل واضح من خلال الأحداث التي شهدتها واشنطن في الأيام الأخيرة.
موقف دونالد جي ترامب الأخير
إن الحصول على تصور عقلاني حول طريقة عمل دماغ دونالد ترامب المعقد، مهمة تستحق مقدرة ذهنية أكبر بكثير من التي يمتلكها مؤلف هذا المقال. لكن ومع ذلك فإنه ليس من المستحيل تماما تقديم تخمين بشأن دوافعه في هذه المسألة.
كان الكونغرس قد وصل إلى طريق مسدود منذ الصيف بشأن حزمة مساعدات جديدة لمواجهة الجائحة كان من المفترض أن تساعد حوالي 12 مليون عامل مهددين بتوقف المساعدات في 31 دجنبر.
وفي النهاية توافق الجمهوريون والديمقراطيون على مشروع قانون حل وسط من شأنه، من بين أمور أخرى، أن يمدد مساعدة البطالة حتى نهاية مارس. لكن وأمام دهشة الجميع رفض الرئيس التوقيع. يحتج ترامب الآن على أن المبلغ الذي سيُقدم للمستفيدين قليل للغاية، وهذا صحيح تماما، وأنه يقف إلى جانب الأمريكيين الفقراء ضد الكونغرس المتشدد، وهذا ادعاء زائف تماما.
الحقيقة هي أن المبلغ البائس الذي تم تحديده كان نتيجة لتكتيكات المماطلة التي اتبعها الجمهوريون -أي حزب دونالد ترامب نفسه. لو أنه كان يعارض ذلك حقا، لكان في إمكانه توضيح وجهة نظره منذ فترة طويلة، وبالتالي توفير الكثير من الوقت والمتاعب. لكنه لم يفعل ذلك.
في الواقع لقد أيد الاقتراح الأصلي وظل صامتا حتى اللحظة الأخيرة التي وضعت فيها الفاتورة على مكتبه، قبل أسابيع قليلة من تلقيه الأمر بإخلاء المكتب البيضاوي. من الواضح أن الأمرين ليسا منفصلين.
هناك شيئان واضحان للغاية هنا: الأول هو أن دونالد جيه ترامب مرتبط بشدة بمنصبه كرئيس لأعظم قوة في العالم، وليس مستعجلا على الإطلاق في حزم حقائبه. بل إنه على العكس من ذلك ينوي التمسك بالسلطة حتى اللحظة الأخيرة، بنفس اليأس الذي يمسك به الغريق بالقش.
لكن ولسوء الحظ تقلصت إمدادات الرئيس من القش بشكل حاد خلال الأسابيع التي تلت الانتخابات. وفي حركة يائسة من جانبه، تذكرنا بحملة الجنرال كاستر الأخيرة، قام دونالد ترامب بالنفخ في البوق لحشد قواته حول العلم.
عدد قليل فقط من الجمهوريين في مجلس الشيوخ من لبوا الدعوة. بل حتى أنصاره الأكثر ولاء في التسلسل الهرمي للحزب الجمهوري، والذين قرأوا بشكل جيد موازين القوى، توصلوا إلى نتيجة منطقية مفادها أن الحذر أفضل من الشجاعة.
ولزيادة الطين بلة سرب بعض النمامين الماكرين (الذين صارت أعدادهم تتضاعف يوما بعد يوم) تسجيلا للرئيس وهو يحاول التنمر على سكرتير ولاية جورجيا، براد رافينسبيرغر، لـ “العثور” على 11.780 صوتا لإلغاء انتصار جو بايدن هناك. وقد كان هذا ربما عاملا في دفع أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين إلى اتخاذ قرارهم. لقد تخلوا عنه مثلما تهجر الجرذان سفينة تغرق.
تشكل أفعال عدم الولاء الجبان هذه إهانة عميقة لرجل لم يعتد لفترة طويلة على أي عصيان من أي نوع. لم يكن من الممكن نهائيا تخيل أن تمر خيانة بهذا الحجم بدون عقاب. وهكذا فبينما كان الآخرون منشغلين بتغليف هدايا عيد الميلاد الخاصة بهم، كان دونالدنا يعد مفاجأة عيد الميلاد الأخيرة لأصدقائه وحلفائه السابقين، وهي مفاجأة لن ينسوها سريعا.
وحتى لو كان ذلك يعني معاناة ملايين الأمريكيين الفقراء من الجوع، فسوف يسجله التاريخ كرئيس أراد تقديم المزيد من الأموال للفقراء. لقد كانت تلك مجرد كذبة بالطبع، وقد رفع هذا الرئيس فن الكذب إلى مستويات جديدة غير مسبوقة.
لكن الشيء الرئيسي ليس ما هو حقيقي، بل ما يعتقد الناس أنه حقيقي. وما يعتقده الناس سيكون مفيدا للغاية خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة، عندما سيعود دونالد جيه ترامب، على عكس الجنرال كاستر، للهجوم مرة أخرى.
يمكن للمرء أن يتخيل مشاعر البهجة الخبيثة التي أزاح بها الرئيس الوثيقة، الشيء الذي كان بمثابة إطلاق قنبلة يدوية على صفوف الجمهوريين في الكونغرس.
“ها أنتم أولئك يا أصدقائي الرائعين! عيد ميلاد مجيد وسنة سعيدة!”.
يشعر دونالد جيه ترامب بالرضا لأنه يعلم أنه حتى لو أُجبر على مغادرة البيت الأبيض، فسيكون قد فعل ذلك بضجة كبرى، وليس بتذمر. لقد تسببت تلك الخطوة في بث الذعر في الكونغرس. لكن ذلك لم يكن شيئا مقارنة بما سيأتي.
المواجهة
الديموقراطية البرجوازية نبات هش للغاية لا يمكنه أن يزدهر إلا في تربة معينة جيدة التغذية. إنه امتياز تاريخي لا تمتلكه سوى الأمم الرأسمالية الأكثر تقدما وازدهارا، حيث تمتلك الطبقة الحاكمة فائضا كافيا من الثروة لتقديم تنازلات للطبقة العاملة، فتتمكن بذلك من تخفيف حدة الصراع الطبقي، ومنع اندلاع صراع مفتوح بين الأغنياء والفقراء.
نجحت الطبقة الحاكمة لفترة طويلة جدا -أكثر من 100 عام في بلدان مثل الولايات المتحدة وبريطانيا- في إقامة درجة معينة من التوازن السياسي والاجتماعي، ليس باستخدام القوة المباشرة بل باستخدام نوع من الاتفاق الودي والحلول الوسط بين الطبقات المتناحرة.
تم تحقيق ذلك في حالة بريطانيا من خلال نظام الحزبين -حزب المحافظين وحزب العمال- اللذان استمرا يتناوبان على الحكومة على فترات منتظمة، دون أن يشكلا أي تحد لسيادة رأس المال. ويوجد ترتيب مماثل في الولايات المتحدة مع تقاسم السلطة بين الجمهوريين والديمقراطيين.
كان هذا الحل الوسط، في الواقع، قناعا مكن من إخفاء الانقسامات الجوهرية الموجودة في المجتمع، ومنع أي تحد جدي للوضع القائم. وكما قال الكاتب الأمريكي العظيم غور فيدال: «جمهوريتنا لها حزب واحد، حزب الملكية الخاصة، بجناحين يمينيين». لكن أزمة الرأسمالية غيرت كل شيء. لقد أدى الانقسام الحاد والمتزايد بين الأغنياء والفقراء إلى انهيار الإجماع القديم.
يوجد في كل مكان، تحت مظاهر الهدوء السطحي، غليان من السخط الذي يعبر عن نفسه في اندلاع موجات دورية للغضب الشعبي ضد النظام القديم ومؤسساته وأحزابه وقادته وأخلاقه وقيمه. صحيح أن هذا السخط يفتقر إلى تعبير سياسي واضح، فهو مشوش وغير متماسك، ويمكن له في بعض الأحيان أن يتخذ شكلا رجعيا.
هذا الافتقار إلى الوضوح ليس مفاجئا. إنه نتيجة لضعف العامل الذاتي، لحقيقة أن قوى الماركسية الحقيقية قد تراجعت طوال فترة تاريخية كاملة، تاركة المجال مفتوحا لجميع أنواع الإصلاحيين والإصلاحيين اليساريين المشوشين، والذين، بسبب عدم امتلاكهم هم أنفسهم لأفكار واضحة، عاجزون بنيويا عن تقديم أي حلول للمشاكل الملتهبة التي تواجه الجماهير.
وفي سياق سعيها الحثيث لإيجاد مخرج من الأزمة، تبحث الجماهير عن تعبير ومنفذ لغضبها تجاه مظالم النظام الاجتماعي والسياسي الحالي الفاقد للشرعية. وهو ما يمكن أن يتم استغلاله من قبل الديماغوجيين اليمينيين عديمي الضمير من أمثال دونالد ترامب.
لكن في مثل هذه الحركات المشوشة وغير المتجانسة، من الضروري لنا أن نتعلم كيفية التمييز بين ما هو رجعي وبين ما هو انعكاس للاحتجاج العفوي ضد الوضع القائم، وألا ننخدع بفعل العوامل الثانوية والنزعة الانطباعية العاطفية.
إن الانطباعيين السطحيين، من أمثال بول ماسون في بريطانيا وكثيرون غيره ممن يطلق عليهم اسم يسار، لا يرون سوى العناصر الرجعية في الترامبية، والتي يطابقون بحماقة بينها وبين الفاشية، دون أن يمتلكوا أدنى فهم لما تعنيه الفاشية حقا. لا يمكن لمثل تلك الأفكار المشوشة أن تساعدنا في فهم المعنى الحقيقي للظواهر المهمة.
يقودهم هذا الهراء مباشرة إلى مستنقع سياسات التعاون الطبقي. ومن خلال ترويجهم لفكرة “أهون الشرين” الخاطئة، يدعون الطبقة العاملة ومنظماتها إلى التحالف مع العدو الطبقي، أي الليبراليين البرجوازيين، الذين يزعمون أنهم “مدافعون عن الديمقراطية”.
والأسوء من ذلك هو أنهم، وبسبب عزفهم المستمر على وتر الخطر المزعوم للفاشية، من المحتمل أن يشلوا الطبقة العاملة عندما ستواجه تشكيلات فاشية حقيقية في المستقبل. إن منظري رأس المال الجديين، كما سنرى، يفهمون ما يحدث أفضل بكثير من هؤلاء اليساريين المزيفين الجاهلين والماركسيين السابقين، من أمثال بول ماسون.
لكن وبالعودة إلى الأحداث التي شهدتها واشنطن، فإن ما كشفت عنه في الأساس هو حقيقة أن الاستقطاب داخل المجتمع قد وصل إلى النقطة الحرجة حيث يتم اختبار مؤسسات الديمقراطية البرجوازية إلى درجة التدمير. وهذا هو السبب في أن الطبقة السائدة، وممثليها السياسيين في كل مكان، يشعرون بالرعب من سلوك دونالد جي ترامب.
ليس لترامب أي وزن في مجال التنظير السياسي الاستراتيجي. إنه تجريبي جاهل، هدفه الوحيد في الحياة هو التباهي بالذات والتمسك بالسلطة والمكانة. وهذه حقا وصفة مناسبة لرجل ليست لديه أي مبادئ من أي نوع. وعلى الرغم من أنه ليس ذكيا بشكل خاص، فقد وهبه خالقه جرعة غير قليلة من الدهاء الحيواني المنحط.
لا يمكن لترامب أبدا أن يتقبل فكرة خسارة المنصب بشيء مبتذل مثل الانتخابات. لقد كان قد قرر مسبقا أن النتائج مزورة (أي سبب آخر يمكن إعطاءه لتفسير الخسارة؟) وبالتالي فإن أفعاله اللاحقة كانت متوقعة تماما.
وبعد أن شعر بالخيانة من قبل زملائه القادة الجمهوريين (العديد منهم يكرهونه، لكنهم جميعا يخشونه)، لجأ إلى نقطة الدعم الوحيدة الموثوقة بالنسبة له، وهي قاعدته الجماهيرية، التي على الرغم من كل شيء، ما تزال موالية للرجل الذي يعتبرونه صوتهم وأملهم الوحيد في واشنطن الفاسدة والكلبية.
لذلك لم يكن مفاجئا أنه حاول حشد تلك القاعدة الجماهيرية فيما قد تكون آخر رمية لحجر النرد يقوم بها مقامر يائس. لقد كانت تلك بلا شك خطوة محفوفة بالمخاطر، لكن يبدو أن دونالدنا، مثله مثل كل المقامرين، يعشق الحركات الخطرة، خاصة عندما تكون الرهانات عالية جدا.
إلا أن هناك بعض الأشياء التي تترتب عن ذلك. فهذا الرجل الذي تسبب بأفعاله في تعميق جميع خطوط الصدع داخل المجتمع الأمريكي، وخلق ما يشبه إلى حد كبير حالة حرب أهلية بين الديمقراطيين والجمهوريين، قد أعلن الآن الحرب على حزبه الخاص، مهددا بشق صفوف الحزب الجمهوري من القمة إلى القاعدة.
من الواضح أن الهدف من وراء خطبه المجنونة كان هو تحريض الغوغاء الغاضبين أصلا لكي يتجمهروا أمام البيت الأبيض ومهاجمة الكونغرس، وبالتالي (كان يأمل) منع تأكيد فوز جو بايدن الانتخابي. لكنه كان من الواضح أن هدفه الرئيسي لم يكن هو الديمقراطيين، بل بالتحديد الجمهوريين في الكونغرس، وخاصة نائب الرئيس مايك بنس، الذي حثه على منع انعقاد الجلسة.
لكن بحلول هذا الوقت، كان بنس والقادة الرئيسيون الآخرون للجمهوريين قد قرروا أن هذا يكفي. لقد انفصلوا، في الواقع، عن ترامب، وانفصل ترامب عنهم. وقد تسببت هذه الأحداث في إلحاق جروح عميقة بالحزب الجمهوري، وهي جروح لن تندمل بسهولة. وإمكانية حدوث انشقاق مفتوح بين الجمهوريين ليست مستبعدة على الإطلاق.
من الصعب التنبؤ بما إذا كان السيد ترامب ما زالت لديه أي حيل أخرى في جعبته قبل تنصيب الرئيس الجديد. يبدو من رد فعله الأولي أنه فقد توازنه بسبب وابل الهجمات التي تلقاها من جميع الجهات، وهو يحاول القيام بتراجع سريع. لكن ذلك سيؤدي إلى إرباك أنصاره دون أن يمكن من إرضاء أعدائه في الكونغرس الذين يطالبون بإقالته من منصبه فورا.
هناك شيء واحد واضح، وهو أن الطبقة السائدة لم تستمتع بحيلته الأخيرة، التي لم تكن الشرطة (لأسباب غير واضحة) مستعدة لها. يمكننا أن نكون على ثقة تامة من أن يوم التنصيب سيشهد حشد قوات كبيرة من الشرطة لضمان عدم تكرار فوضى يوم أمس، وأن أي شخص سيحاول إفساد الحفلة سيكافأ بكسر في الجمجمة.
وبعد أن أدرك دونالد ترامب أخيرا أن اللعبة انتهت، بدأ يعد بأنه سيغادر بهدوء. وقد فعل ذلك لأنه يدرك تماما أن البديل سيكون هو حمله من طرف أصحاب الزي الأزرق إلى أقرب سيارة شرطة. وهذا على افتراض أنه لن يتعرض للعزل مرة ثانية، هذه المرة بتهمة أكثر خطورة وهي “التمرد” ضد الجمهورية.
بالطبع لن يكون هذا نهاية المطاف، بل على العكس من ذلك فإن الدراما الحقيقية ستكون قد بدأت للتو. جو بايدن بعد فوزه بمقعدين في مجلس الشيوخ في جورجيا، ستكون لديه الآن سيطرة آمنة إلى حد ما على الكونغرس. ولن يكون لديه أي عذر لعدم تنفيذ السياسات التي يتوقعها أنصاره.
لكن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، والتي ازدادت حدة بسبب الديون الهائلة، تعني أن إدارة بايدن ستخيب آمال هؤلاء الملايين الذين صوتوا لها على أنها “أهون الشرين”. ستنفتح الآن فترة جديدة وعاصفة من الصراع الطبقي، والتي ستحول المجتمع الأمريكي من القمة إلى القاعدة، وسيفتح الطريق أمام تطورات ثورية.
منظرو رأس المال يستخلصون النتائج
بدأت عواقب ذلك تظهر واضحة بشكل متزايد لممثلي الطبقة السائدة الأكثر نباهة، والذين لديهم فهم للمنظورات أوضح بكثير من هؤلاء “اليساريين” الأغبياء والانطباعيين الذين لا يستطيعون أن يروا أبعد من أنوفهم.
نشرت صحيفة “فاينانشيال تايمز”، يوم 29 دجنبر، مقالا بعنوان: “شكل أفضل من الرأسمالية ممكن”. جاء المقال بتوقيع هيئة التحرير، وبالتالي فإنه يحمل ختم الموافقة التحريرية من واحدة من أكثر الصحف موثوقية للبرجوازية. ولهذا السبب فإنه يجدر الاقتباس بشكل مطول منه.
نقرأ فيه ما يلي:
«إن هدوء فترة عيد الميلاد هي لحظة لنتذكر كيف تصف قصة الميلاد عائلة يسوع: كيف تم طردها بقوانين إدارية سخيفة، وتشريدها، ودخولها المخاض في ظروف غير كريمة.
يمكننا أن نلاحظ كيف يمكن أن تصف هشاشتها ظروف طبقة دنيا في أغنى المجتمعات التي عرفتها البشرية على الإطلاق. لقد سلطت الجائحة ضوء قاسيا على الأجزاء الضعيفة من أسواق العمل في البلدان الغنية.
يعتمد معظمنا -فعليا في بعض مراحل حياتنا- على الأشخاص الذين يقومون بملء الرفوف وتوصيل الطعام وتنظيف المستشفيات ورعاية المسنين والعجزة. ومع ذلك فإن العديد من هؤلاء الأبطال المجهولين يتقاضون رواتب منخفضة ويعملون فوق طاقتهم ويعانون من هشاشة ظروف العمل وانعدام الأمن أثناء العمل.
تمت صياغة مصطلح جديد لوصفهم -“Precariat”[1]– وهو مصطلح مناسب. لقد فشل العمل، على مدى العقود الأربعة الماضية، في تأمين دخول مستقرة وكافية لأعداد متزايدة من الناس. ويظهر هذا في ركود الأجور وفي الدخل غير المنتظم وعدم وجود مدخرات مالية لحالات الطوارئ وانخفاض الأمن الوظيفي وظروف العمل الوحشية، إلى حد وقوع أحداث مروعة مثل وضع تلك المرأة مولودها في المرحاض خوفا من التخلف عن الوردية.
يعاني الكثيرون من تصاعد مخاطر التشرد والأوبئة الناجمة عن المخدرات والأمراض المرتبطة بالكحول. يمكن لأنظمة الرعاية أن تساعد، لكن يمكنها أيضا أن تحبس الأشخاص المعرضين للهشاشة أصلا، في فخ المتاهات الإدارية.
هذه مشكلة قديمة، لكنها تفاقمت بشكل حاد في عام 2020. معظم الوظائف الهشة (Precariat) تتطلب تواجدا فعليا للقيام بالأعمال اليدوية، مما يجعل العمال أكثر عرضة سواء لعدوى فيروس كورونا أو لفقدان الدخل بسبب عمليات الإغلاق».
نجد هنا شرحا للمشكلة المركزية بوضوح مثير للإعجاب. لكن ما هو الحل؟ يقول لنا المؤلف:
«إن مساعدة المحتاجين واجب أخلاقي، إلا إن انتشال الناس من الهشاشة الاقتصادية يصب أيضا وبشكل كبير في المصلحة الخاصة للأغنياء».
هذه مشاعر جديرة بالثناء حقا! هذه السطور تعيد إلى ذهننا رواية تشارلز ديكنز الشهيرة “ترنيمة عيد الميلاد”، حيث ينتهي سكروج، الرأسمالي البخيل الكاره للبشر والمحب للمال، إلى الاقتناع بشكل تدريجي بإصلاح نفسه ومشاركة شيء من ثروته مع الفقراء والمحرومين، ويصبح بشكل عام شخصا طيبا ولطيفا.
تلك النهاية العاطفية هي بلا شك أضعف جزء في الرواية، ولا تعبر سوى عن أوهام المؤلف. إن الجزء القيم في الرواية حقا هو بدايتها التي تصف بدقة الأخلاق الحقيقية للرأسمالية.
يبدو أن مؤلفي مقال فايننشل تايمز يدركون بأسف عدم جدوى أي محاولة لمناشدة المشاعر الطيبة للأقلية الفاحشة الثراء التي تهيمن على المجتمع، على أساس “الواجب الأخلاقي لمساعدة المحتاجين”.
كان هذا واضحا بالفعل لتشارلز ديكنز، الذي وصف المحاولات العبثية لأشخاص ذوي نوايا حسنة للحصول على تبرع من سكروج لصالح جمعية خيرية بمناسبة عيد الميلاد:
«قال سكروج: “ألا توجد سجون؟، ألا توجد مراكز للأشغال الشاقة؟”.
قال الرجل المحترم: “أجل توجد. ومع ذلك فإني أتمنى لو أقول إنها غير موجودة. الكثير لا يمكنهم الذهاب إلى هناك؛ بينما يفضل الكثيرون الموت على أن يذهبوا هناك”.
رد سكروج: “إذا كانوا يفضلون الموت، فمن الأفضل أن يفعلوا ذلك، ويقللوا من فائض السكان”.»
لدينا هنا الصوت الحقيقي للرأسمالية: صوت الحساب البارد لاقتصاديات السوق، وصوت الرجعي مالثوس، صوت الانحطاط الأخلاقي والجشع والأنانية والقسوة لرجال ونساء المال، والذي بقي على حاله منذ أيام ديكنز إلى وقتنا الحالي.
وإدراكا من المؤلفين بعدم جدوى مناشدة عواطف الرأسماليين النبيلة، انتقلوا إلى مناشدة مصالحهم الخاصة (أي: جشعهم وأنانيتهم). نحن هنا على أرض أكثر صلابة!
«لا يتعلق الأمر فقط بأن الأغنياء هم الذين سيخسرون أكثر إذا ما أدى الاستقطاب الاقتصادي المستمر إلى رفض الرأسمالية، بل إنهم سيكسبون أكثر من وراء معالجته».
لكنه لا يمكن لأي قدر من الوعظ الأخلاقي أن يمارس أي تأثير على هذه المخلوقات، تماما مثلما لم يكن له أي تأثير على سكروج، الذي لم تكن الدواعي الأخلاقية هي ما جعله يغير رأيه، بل كان الخوف: الخوف والقلق اللذين تسببت فيهما الأشباح التي أرسلها ديكنز لمطاردته.
لذلك اتخذ مؤلف مقال فايننشل تايمز قرارا حكيما بتخويف البرجوازيين من خلال مواجهتهم بالنتائج الحتمية للوضع الحالي. إنه احتمال مخيف أكثر بكثير من شبح عيد الميلاد التي لم يأت بعد:
«بدأت المجموعات التي تضررت بفعل التغيير الاقتصادي تستخلص بشكل متزايد أن المسؤولين لا يهتمون بمعاناتهم، أو الأسوأ من ذلك أنهم قاموا بإفساد الاقتصاد لمصلحتهم ضد المهمشين.
يؤدي هذا، ببطء لكن بثبات، إلى وضع الرأسمالية والديمقراطية في حالة تناقض مع بعضهما البعض. ومنذ الأزمة المالية العالمية أدى هذا الشعور بالخيانة إلى تغذية رد فعل سياسي عنيف ضد العولمة ومؤسسات الديمقراطية الليبرالية.
قد تزدهر الشعبوية اليمينية نتيجة لرد الفعل العنيف هذا، بينما تبقى الأسواق الرأسمالية في مكانها. لكن ونظرا لعدم قدرتها على الوفاء بوعودها للمحبطين اقتصاديا، فلن تكون سوى مسألة وقت فقط قبل أن تخرج المذاري ضد الرأسمالية نفسها، وضد ثروة أولئك الذين يستفيدون منها». (خط التشديد من عندي، آ. و)
أجل إن المنظرين البرجوازيين الجادين يفهمون التداعيات الثورية للوضع بشكل أفضل بكثير من هؤلاء الإصلاحيين قصيري النظر. يمكنهم أن يروا أن التقلبات العنيفة للرأي العام نحو اليمين يمكنها بسهولة أن تكون تهيئة لتقلبات أكثر عنفا نحو اليسار، بحيث يمكن للجماهير الساخطة (المسلحة بالمذاري، في إحالة إلى الثورة الفرنسية أو ثورة الفلاحين) أن تتحول في اتجاه مناهض للرأسمالية.
ويواصل المقال قائلا:
«يعكس وباء الوظائف منخفضة الأجر وغير الآمنة فشلا في نشر أساليب الإنتاج الأكثر تقدما من حدود الاقتصاد إلى الهوامش البعيدة. إن مجرد وجود البريكاريا دليل على تعرض الموارد -البشرية والمادية والتنظيمية- للهدر».
«الاقتصاد المستقطب ليس فقط غير عادل، بل إنه غير فعال كذلك».
أجل، كل هذا صحيح تماما. إن النظام الرأسمالي في الواقع نظام مبذر وغير فعال. هذا ما نعرفه منذ وقت طويل جدا. لذلك يجب استبداله بنظام مختلف: نظام يقوم على اقتصاد متناغم ومخطط عقلانيا تكون فيه القوة الدافعة هي إشباع احتياجات الأغلبية، وليس السباق المجنون للحصول على الثروة الفاحشة لصالح الأقلية.
هذا الاستنتاج لا مفر منه نهائيا. لكنه بعيد تماما عن متناول مؤلفنا حسن النية، الذي يستنتج (دون إعطاء أي براهين) أن: “البدائل أسوء للجميع”.
لم يشرح لنا مطلقا لماذا يجب أن يكون هذا هو الحال. لا يستطيع المؤلف أن يرى أي شيء يتجاوز النظام الرأسمالي القائم، وبالتالي فإنه يحلم بإصلاحه ليصير أفضل. لكن الرأسمالية لا يمكن إصلاحها، على عكس ما يتصوره الإصلاحيون الأغبياء، الذين يعتبرون أنفسهم واقعيين، لكنهم في الواقع أسوأ أنواع الطوباويين.
يقول المؤلف إنه من أجل إنقاذ الرأسمالية يجب على أتباعها “تلميع أطرافها الخشنة”. ويعلن بانتصار أن “الرياح تتغير”.
«فالسياسيون من جو بايدن إلى بوريس جونسون لديهم تفويضات “لإعادة البناء بشكل أفضل”؛ لقد تخلى حماة العقيدة الاقتصادية الأرثدوكسية عن وجهة النظر القائلة بأن عدم المساواة هو ثمن النمو. يمكن تحويل الرأسمالية لتصير قادرة على ضمان الكرامة للجميع».
يا لها من صورة جميلة!
يتحول كل شيء إلى حلم بنوع مختلف من الرأسمالية: رأسمالية ألطف وأظرف وأكثر إنسانية، تماما مثلما حلم ديكنز بسكروج ألطف وأظرف وأكثر إنسانية. لكن غني عن القول إن هذا الحلم حلم طوباوي وبدون جدوى، مثله مثل الحلم الآخر.
لماذا نحن متفائلون
«وإجمالا إن الأزمة كانت تختبئ بعيدا مثل الخلد العجوز البارع». (رسالة من ماركس إلى إنجلز، بتاريخ 22 فبراير 1858)
إن النظام الرأسمالي مريض، مريض مرض الموت. وأعراض هذا واضحة جدا. تحت السطح، في كل مكان، يوجد غضب شديد وسخط ومرارة وكراهية تجاه النظام القائم وأخلاقه المنافقة والظلم وعدم المساواة التي لا تطاق واللامبالاة القاسية تجاه المعاناة الإنسانية.
المؤسسات القديمة، التي كان ينظر إليها باحترام فيما مضى، صار ينظر إليها الآن بازدراء مطلق من قبل الجماهير، التي تشعر بأنها تعرضت للخيانة والإهمال. السياسيون والقضاة والشرطة ووسائل الإعلام والكنائس، كلهم ينظر إليهم على أنهم أعداء وفاسدون.
لقد استندت مؤسسات الديمقراطية البرجوازية الرسمية إلى الافتراض بأنه في الإمكان احتواء الهوة بين الأغنياء والفقراء ضمن حدود يمكن السيطرة عليها. لكن النمو المستمر لعدم المساواة الطبقية أوجد مستوى من الاستقطاب الاجتماعي لم نشهده منذ عقود.
إنه يختبر الآليات التقليدية للديمقراطية البرجوازية إلى أقصى حدودها، بل وما وراء تلك الحدود. ظهر هذا بوضوح شديد خلال الأحداث التي وقعت في الولايات المتحدة خلال العام الماضي.
لقد كانت الانتفاضات العفوية التي اجتاحت البلاد في أعقاب مقتل جورج فلويد، وما تلاها من أحداث غير مسبوقة سبقت وتلت الانتخابات الرئاسية، نقطة تحول في الوضع برمته. لدينا هنا في حالة جنينية الخطوط العريضة للتطورات الثورية التي سنشهدها في المستقبل.
ستكون سنة 2021 سنة لا مثيل لها. هل ستكون سنة سعيدة مثلما يتوقع المتفائلون؟ ستكون، بالطبع، سنة سعيدة لتلك الأقلية الصغيرة التي لديها أسباب تجعلها سعيدة، أي هؤلاء الذين يشكلون أقل من 01% من السكان، الذين يتمتعون بسيطرة غير محدودة على الثروة التي تنتجها الأغلبية العظمى.
لكن بالنسبة للأغلبية لا يمكن أن تكون السنة سعيدة. فبالنسبة لهم، لا يمكن أن يكون المستقبل في ظل الرأسمالية سوى قاتما. ومع ذلك فإننا نظل بعناد وتحد متفائلين المستقبل، ليس مستقبل النظام الرأسمالي، بل مستقبل الصراع الطبقي الثوري الذي سوف يؤدي إلى الإطاحة بالنظام الرأسمالي مرة وإلى الأبد.
إن الطريق إلى بناء مستقبل سعيد يعتمد على القطيعة الجذرية مع الماضي. إن الطريق أمامنا سيكون شاقا. سوف تدخل الطبقة العاملة مدرسة قاسية للغاية، إلا أنها سوف تتعلم في تلك المدرسة الدروس الضرورية.
لقد بدأت الطبقة العاملة، وبعد فترة طويلة من الخمول النسبي، تمدد أطرافها، مثلما يفعل رياضي يستعد للدخول في مسابقة حاسمة. هذا، وهذا وحده، هو ما يمنحنا الأمل والتفاؤل بمستقبل البشرية.
هوامش:
[1] بريكاريا: مصطلح يطلقه الاقتصاديون البرجوازيون للدلالة على فئة تعيش أوضاعا هشة اقتصاديا واجتماعيا – المترجم.