بحلول هذا العام، الذي يوافق الذكرى المائوية لوفاة لينين، يكون قد حان الوقت لكي يستعيد الثوريون لينين الحقيقي: لينين المناضل الثوري، ومؤسس البلشفية والأممية الشيوعية، وأحد أعظم المنظرين الماركسيين في التاريخ. ولتحقيق هذه الغاية، نحن فخورون بإصدار سلسلة جديدة عنوانها: لينين خلال عام، لإبراز جواهر من أعمال لينين النظرية المذهلة ـالتي بعضها معروف، والبعض الآخر أقل شهرة. تهدف هذه السلسلة إلى نقل تلك الكتابات التي ما تزال تحتفظ بكل قيمتها، إلى الثوريين اليوم، وتوضيح مدى ارتباطها الوثيق بالجدالات والنضالات السياسية التي ميزت حياة لينين، والتي من خلالها تم تشكيل البلشفية.
[Source]
سنعمل كل أسبوع على تقديم نص جديد للقراء. وسوف نبدأ بأحد أقدم أعمال لينين الكبرى، وهو كتاب: «من هم “أصدقاء الشعب” وكيف يحاربون الاشتراكيين الديمقراطيين»، الذي كتب عام 1894، وسط فترة من الإضرابات العاصفة للعمال في المدن الروسية. كان لينين في ذلك الوقت يلعب دورا قياديا في الحلقات الماركسية التي كانت تنمو في سان بيترسبورغ.
ولفهم هذه المادة بشكل أعمق نوصي جميع الرفاق بقراءتها إلى جانب السيرة الجديدة للينين التي كتبها روب سيويل وآلان وودز، والتي عنوانها: دفاعا عن لينين. إن هذا الكتاب الجديد من منشورات دار النشر Wellred، ليس مجرد سيرة للينين: إنه كتاب نظري حيوي حول كيفية بناء الحزب الثوري، وتعتبر دراسته مسألة حيوية لكل شيوعي ثوري جدي اليوم.
إن أفكار لينين وإرث البلشفية هي حجر الأساس لمنظمتنا، التي تستعد لاتخاذ خطوة مهمة، والتي هي خطوة إعلان الأممية الشيوعية الثورية في شهر يونيو. إننا ندعو جميع الشيوعيين، الذين ألهمتهم حياة لينين وأعماله، إلى التسجيل في الكونفرانس التأسيسي للأممية الشيوعية الثورية!
«من هم “أصدقاء الشعب” وكيف يحاربون الاشتراكيين الديمقراطيين؟»
نشر لينين كتابه الأول الذي كان بعنوان: «من هم “أصدقاء الشعب” وكيف يحاربون الاشتراكيين الديمقراطيين»، في عام 1894، عندما كان عمره 24 عاما فقط. ولهذا السبب فإن له أهمية تاريخية كبرى. لكنه، رغم ذلك، أبعد ما يكون عن عمل “غير ناضج”، بل على العكس إنه يظهر بالفعل فهما عميقا للمنهج الماركسي ونظريات المادية التاريخية والاقتصاد الماركسي والمهام التي يواجهها الثوريون الروس.
في ثمانينيات القرن التاسع عشر، أسس بليخانوف الحركة الماركسية في روسيا من خلال إطلاق كتابات جدالية ضد الشعبويين (النارودنيين). كانت المسألة الرئيسية في ذلك الجدال هو مسار التطور الذي ينتظر روسيا، والمهام التي يفرضها على الثوريين. كان إثبات بليخانوف أن روسيا (على عكس ما يعتقد النارودنيون) ليس لديها طريق فريد نحو الاشتراكية، وأنها لم تكن معفاة من السيرورة التاريخية وقوانين التطور، قد ساعد في جذب لينين إلى الحركة الماركسية.
يمثل هذا النص إذن انتقال دفة القيادة في ذلك الصراع الأيديولوجي، من يد مؤسس الماركسية الروسية، إلى يد من أصبح أعظم قادتها. لأن ذلك الكتاب هو أيضا جدال مع النارودنية، وتحديدا مع الليبرالي النارودني ميخائيلوفسكي، الذي كان يشن حملة لا هوادة فيها ضد الماركسية في مجلته النظرية، روسكوي بوغاتستفو (الثروة الروسية).
في ذلك الوقت، كان من الصعب جدا على الثوريين الشباب الحصول على أي مادة نظرية لتثقيف أنفسهم. وبالتالي فإن حملة ميخائيلوفسكي -الممولة جيدا والمنتشرة على نطاق واسع، بفضل أنصاره الليبراليين من الطبقة المتوسطة- هددت بإحداث ضرر حقيقي، حيث لم يكن هناك سوى القليل جدا لمعارضة أو دحض “حججه”.
ولهذا السبب فإنه، كما يقول البلشفي سيماشكو: «عندما ظهر كتيب الرفيق لينين… الذي يحتوي على مادة إحصائية ثرية، كان بالنسبة لنا بمثابة إنجيل حقيقي. لقد قمنا، طوال ليالي كاملة، بإعادة طباعته على الهكتوغراف، على الرغم من حجمه، وقمنا بإخفائه في أماكن يصعب على الشرطة الوصول إليها في حالة التفتيش، وحفظناه عن ظهر قلب تقريبا».
وتتذكر كروبسكايا، زوجة لينين قائلة: «كم أسعدنا ذلك جميعا. لقد تم في ذلك الكراس تحديد أهداف النضال بوضوح مثير للإعجاب»، بينما وصف مارتوف كيف «أظهر الكراس كلا من الموهبة الأدبية والحكم السياسي الناضج لرجل منسوج من ألياف يصنع منها قادة الحزب».
عند تلك النقطة، كانت النارودنية قد توقفت عن أن تكون حركة جريئة وبطولية لإرهابيين أفراد يناضلون من أجل الإطاحة بالدولة القيصرية. وكما كتب لينين فإنه: «عندما ظهرت [النارودنية] لأول مرة، في شكلها الأصلي، كانت نظرية متماسكة إلى حد ما: بدءا من وجهة نظر لأسلوب معين لحياة الشعب، فقد آمنت بالغرائز الشيوعية للفلاح “المشاعي”، ولهذا السبب اعتبرت الفلاحين مناضلين طبيعيين من أجل الاشتراكية».
وبعبارة أخرى، فقد كانت لدى النارودنيك وجهة نظر غير تاريخية عن المجتمع الروسي. بالنسبة لهم، كانت روسيا استثناء. إذ اعتبروا أن الصناعة واسعة النطاق والمدن الكبرى ذات البروليتاريا الحضرية لم تكن السمات العامة الحتمية للرأسمالية، بل كانت ببساطة أشياء خاصة بأوروبا الغربية. لقد كانوا يعتبرون أن روسيا سوف تجد طريقها الخاص نحو الاشتراكية والتحرر، وذلك من خلال الكومونة الفلاحية التقليدية.
وكما يشرح لينين فإن ذلك «الإيمان بالغرائز الشيوعية للموجيك [الفلاح الصغير] يتطلب بطبيعة الحال من الاشتراكيين أن يضعوا السياسة جانبا وأن “يتجهوا نحو الشعب”. وقد شرع عدد كبير من الأشخاص النشطين والموهوبين للغاية في تحقيق ذلك البرنامج، لكن الممارسة أقنعتهم بسذاجة فكرة كون غرائز الموجيك شيوعية» (خط التأكيد من عندنا).
اصطدمت النارودنية بالواقع، ودخلت في طريق مسدود وأزمة. وحتى “نجاحهم” الأعظم، والذي كان وهو اغتيال القيصر ألكسندر الثاني عام 1881، لم يؤد إلى إسقاط النظام القيصري، بل أطلق العنان لموجة من القمع الوحشي الذي قطع رأس النارودنية بشكل كامل، من خلال إعدام وسجن ونفي أكثر عناصرها بطولية. وبحلول أواخر القرن التاسع عشر، وبعد أن فشل النارودنيون في جذب الفلاحين إلى الاشتراكية من خلال “التوجه نحو الشعب”، وفشلوا في اسقاط القيصرية بحملة من الإرهاب الفردي، أصبح العديد منهم ليبراليين خالصين.
وهكذا، فإن جدال لينين كان في الواقع مع مفكر ليبرالي. وهذا ما يجعل ذلك الكتاب راهنيا في وقتنا الحالي.
يعتبر “المنظرون” البرجوازيون الصغار، الذين ينشرون الليبرالية اليوم، أن تناقضات الرأسمالية ومظالمها مجرد سمات عرضية: نتيجة لأفكار خاطئة، وأحكام مسبقة، وممارسات مؤسفة تحتاج ببساطة إلى تصحيحها أو تعديلها، وذلك تماما كما رأى النارودنيون أن التطور الرأسمالي في حد ذاته شيء غير ضروري على الإطلاق في روسيا في تسعينيات القرن التاسع عشر.
كان ميخائيلوفسكي أثناء مهاجمته للمادية التاريخية، يعتقد أن من الأفضل وجود نوع من الانتقائية التاريخية. لماذا علينا أن نكون مقيدين بالقوانين التاريخية، وبقيود النظام الاجتماعي، بينما يمكن للمرء أن يقوم فقط بانتقاء واختيار أفضل الأجزاء من التاريخ، ودمجها في مجتمعه؟
«[يقول ميخائيلوفسكي] “يجب أن نأخذ ما هو جيد من أي مكان نستطيع؛ أما مسألة ما إذا كان الأمر يخصنا أم كان من الخارج، فهي ليست مسألة مبدأ، بل مسألة فائدة عملية. هذا بالتأكيد، أمر بسيط جدا وواضح ومفهوم لدرجة أنه لا يوجد حتى ما يمكن مناقشته بخصوصه”. صحيح كم هو بسيط! “خذ” ما هو جيد من كل مكان، وبهذا تكون الخدعة قد تمت! فمن أشكال القرون الوسطى “خذ” العامل المالك لوسائل الإنتاج، ومن الأشكال الجديدة (أي الرأسمالية) “خذ” الحرية والمساواة والتنوير والثقافة. لم يبق هناك ما يمكن مناقشته! هنا يكون المنهج الذاتي في علم الاجتماع برمته واضحا وضوح الشمس…
إن كامل فلسفتهم تتلخص في التذمر من أن الصراع والاستغلال موجودان لكنهما “قد” لا يكونان موجودين … لو لم يكن هناك مستغِلون. ماذا كان يقصد المؤلف بهذه العبارة التي لا معنى لها؟».
ينتقد لينين بشدة هذه النظرة المثالية التي ترى التاريخ من منظور كيف كان ينبغي له أن يتطور، كما يتصوره عقل الإصلاحي، كما لو أن التاريخ يمكن تشكيله حسب الرغبة. وفي مقابل ذلك، يطرح لينين المنهج العلمي المادي للماركسية، الذي ينطلق من كيف تطور التاريخ بالضرورة، وعلى هذا الأساس، كيف يمكننا نحن الثوريين أن نتدخل في هذه السيرورة. وقال:
«إن ما أسماه ماركس وإنجلز المنهج الديالكتيكي -في مقابل المنهج الميتافيزيقي- ليس سوى المنهج العلمي في علم الاجتماع، والذي يقوم على اعتبار المجتمع كائنا حيا في حالة تطور مستمر (وليس كشيء مترابط بصورة ميكانيكية وبالتالي يسمح بكل أنواع التركيبات الاعتباطية بين مختلف العناصر الاجتماعية المنفصلة)» (التأكيد من عندنا).
لقد صور ميخائيلوفسكي وأمثاله الماركسية بشكل كاريكاتيري على أنها جامدة، تختزل كل شيء إلى قوانين اقتصادية ثابتة لا يمكن الانحراف عنها، حتى بالنسبة للفرد، الذي لا يمكن أن يكون له أي تأثير على هذه القوى القدرية المزعومة. يشير لينين إلى أن كتاب ماركس رأس المال لا يدعي وضع قوانين اقتصادية أبدية ثابتة صالحة لجميع مراحل التاريخ، بل كان دراسة لقوانين محددة للاقتصاد الرأسمالي، وكيف تتفاعل هذه القوانين مع المجتمع بشكل عام، بمن في ذلك الفرد، لأنه، كما أشار لينين: «كل التاريخ يتكون من أفعال الأفراد، الذين هم بلا شك شخصيات فاعلة».
يشرح لينين أنه قبل المادية التاريخية لماركس، كان علماء الاجتماع والاقتصاديون ينظرون إلى المجتمع كما لو كانت جميع المجتمعات البشرية متشابهة، وتنتظر فقط بعض العباقرة لكي يكتشفوا الأفكار “الصحيحة” لتحسين ذلك المجتمع، وقال:
«وتماما مثلما وضع داروين حدا لوجهة النظر التي ترى أن الأنواع الحيوانية والنباتية غير مترابطة، وعرضية، و”خلقها الله”، وغير قابلة للتغيير، وكان أول من وضع علم الأحياء على أساس علمي صلب من خلال إثبات تغير الأنواع وتعاقبها، كذلك وضع ماركس حدا لوجهة النظر التي ترى أن المجتمع عبارة عن تجمع ميكانيكي للأفراد يسمح بكل أنواع التغيرات وفقا لإرادة السلطات».
لا يتوقف الليبراليون والمثقفون العصريون في يومنا هذا عن مهاجمة الماركسيين بسبب تبنيهم لمثل هذه الأفكار “القديمة” و”المتجاوزة” ولأنهم بالتالي “دوغمائيون”. وهم يفعلون ذلك بدلا من تقديم حجج وحقائق جدية ضد الماركسية، لأنهم لا يملكون أي حجج. إن جدال لينين ضد ميخائيلوفسكي يمثل ردا رائعا على رفاقه في الأوساط الأكاديمية اليوم.
لقد كان لينين واضحا جدا في تأكيده على أن الماركسية تبدأ بالحقائق لأنها نظرية علمية جدية. بينما اليسار البرجوازي الصغير، وعلى العكس من ذلك، كان ما يزال يتبنى التخمينات والمناشدات الأخلاقية والمشاريع الطوباوية. وعلى النقيض من ذلك، كان لينين مفكرا رزينا للغاية، انطلق من تقييم موضوعي للحقائق، ومن خلاله وضع خطة عمل ثورية جريئة لتغيير العالم.
يقدم هذا الكتاب مثالا ملهما لهذه الطريقة بالضبط وما يمكن أن تحققه. وقد خصص معظم فقرات كتابه لتحطيم أوهام النارودنية في الإنتاج الريفي الصغير ومستقبله في روسيا. لم يكن من المفترض أن يتم تحويل القرية الروسية إلى مثال أعلى سياسي، لأنها في الواقع كانت تحكم على الفلاح، في أحسن الأحوال، بـ»الاستياء الغبي وغير المتماسك… وبالتمرد المشتت، التافه، الذي لا معنى له». إن ظهور الرأسمالية كان حدثا تقدميا «على الرغم من كل أهوال اضطهاد العمال، والانقراض التدريجي، والوحشية، وشل أجساد النساء والأطفال، وما إلى ذلك، لأنها توقظ عقل العامل».
لكن ما يلفت النظر حقا في هذا الكتاب هو أن لينين، حتى في تلك المرحلة المبكرة من حياته ومن تطور الطبقة العاملة في روسيا، كان يدرك أن روسيا كانت بالفعل مجتمعا رأسماليا، وأن التمايز الطبقي بين الفلاحين كان جاريا على قدم وساق في القرية الروسية القديمة.
إن دور الماركسيين، وفقا للينين، لا يتمثل في الانتظار بشكل سلبي حتى يأخذ التطور الرأسمالي مجراه، ولا في السير وراء الليبراليين، بل دورهم هو تنظيم الطبقة العاملة وتسليحها سياسيا حتى تتمكن من الوصول إلى قيادة النضال ضد القيصرية، ولكي تشكل الثورة الروسية على هذا النحو حلقة في سلسلة الثورة البروليتارية العالمية:
«وبناء على ذلك، فإنه على الاشتراكيين الديمقراطيين أن يركزوا كل اهتمامهم وجميع أنشطتهم على الطبقة العاملة. وعندما يستوعب ممثلوها المتقدمون أفكار الاشتراكية العلمية، وفكرة الدور التاريخي للعامل الروسي، وعندما تنتشر هذه الأفكار، وعندما تتشكل منظمات مستقرة بين العمال لتحويل الحرب الاقتصادية المتفرقة الحالية التي يخوضها العمال إلى صراع طبقي واعي، عندها سينهض العامل الروسي على رأس جميع العناصر الديمقراطية، ويطيح بالحكم المطلق ويقود البروليتاريا الروسية (جنبا إلى جنب مع بروليتاريا جميع البلدان) على طريق النضال السياسي المفتوح نحو الثورة الشيوعية المنتصرة».
في الأسبوع المقبل، سنواصل هذه السلسلة من خلال الخوض في جدال كبير آخر ضد النارودنية، كتبه لينين بينما كان يحاكم ثم في المنفى بسبب أنشطته الثورية بين عامي 1896 و1899، أي كتابه: تطور الرأسمالية في روسيا. لقد نسف ذلك التقييم النظري الدقيق للتطور الاقتصادي لروسيا وجهة النظر التي كان يتبناها النارودنيون بأن التطور الرأسمالي في روسيا كان مصطنعا، ومجرد نتيجة لسياسة تقودها الدولة، ويمكن تجنبه بشكل كامل.