في حلقة هذا الأسبوع من سلسلة لينين خلال عام، نلقي نظرة على إحدى مقالات لينين الأقل شهرة، وهي عبارة عن جدال ضد التيار الذي يطلق عليه الماركسيون عادة اسم النزعة “اليسارية المتطرفة”. كتب لينين مقال: “فصيل أنصار الأوتزوفية وبناء الله” في عام 1909، وتطرق فيه لمسائل رئيسية حول التكتيكات والفلسفة الماركسية التي كانت مجموعة يسارية متطرفة غير مبدئية داخل الفصيل البلشفي تسعى إلى مراجعتها.
[Source]
لقد هزت ثورة 1905 النظام القيصري من أساسه. ومن الواضح لنا الآن أن انتفاضة دجنبر في موسكو كانت أعلى نقطة ستصلها الحركة قبل أن تبدأ بالتراجع. لكن وبينما كانت الحركة قد بدأت تتراجع بشكل عام في العاصمتين [سان بيترسبورغ وموسكو]، فإنها كانت بالكاد قد بدأت في المقاطعات، واستمرت في التصاعد طوال عام 1906.
كان لينين الأقل ميلا إلى إعلان نهاية الثورة. لكن وبحلول عام 1907، كان الجزر قد بدأ يظهر بوضح، وبحلول عام 1909 كانت الثورة المضادة قد انتصرت بشكل كامل. وكان من الضروري على الماركسيين أن يعملوا على تقييم الوضع بواقعية.
كان العمال والفلاحون مطأطئي الرؤوس. أرسل النظام القيصري الحملات العقابية إلى القرى. وسُجن الآلاف وأُعدم آلاف آخرين. اكتسبت المشانق اسما جديدا وهو: “ربطة عنق ستوليبين”، في اشارة إلى اسم رئيس وزراء حكومة القيصر آنذاك.
صار المزاج قاتما في جميع أنحاء روسيا. وحل التشاؤم واللامبالاة محل التفاؤل الثوري، وتخلى العمال والفلاحون بأعداد كبيرة عن النضال الجماعي. وبدلا من ذلك، سعوا إلى الهروب الفردي في لجة الترفيه، والكحول، وما أسماه لينين “الخمر الروحي” أي الدين، والنزعات الصوفية.
تأثر الحزب بدوره بتلك الحالة المزاجية من التصوف والردة الفلسفية. كان هذا هو السياق الذي أصدر فيه بوغدانوف مؤلفه، “المذهب التجريبي”، مروجا للفلسفات المثالية التي كانت على الموضة آنذاك، لاثنين من العلماء الأوروبيين: إرنست ماخ وريتشارد أفيناريوس.
إلى جانب ذلك، ظهرت داخل الحزب نزعة غريبة كانت تسمى “بناء الله”. كان لوناتشارسكي وغوركي متحمسين بشكل خاص لهذه الموضة الجديدة، وتابعاها بحماسة من منفاهما بجزيرة كابري، بالقرب من خليج نابولي، حيث كانا مع بوغدانوف.
أعلن “بناة الله” أنه يتعين على الماركسيين التكيف مع تيار القمامة الصوفية الذي كان يكتسح روسيا، ويسعوا إلى بناء نوع من الدين يقوم على مبادئ علمانية أو لاأدرية مثل “حب الإنسانية” و”الأخوة العالمية”، في مقابل الطوائف الدينية التقليدية التي كانت تنتشر كالنار في الهشيم. لكنها بقيت مجرد نسخة “علمانية” لنفس الخمر الروحي.
يمكن العثور في كل فترة من فترات الردة الرجعية، على من يسمون بـ”الماركسيين” الذين يرغبون في المزاوجة بين الماركسية وبين مد الأفكار الغريبة عن الطبقة العاملة التي تجتاح الحركة العمالية. يعتقد البعض بصدق أن هذه هي الطريقة المثلى لكسب الجماهير وكسر عزلة الماركسيين. لكن ومهما كان صدق هؤلاء، فإن هذا الاتجاه يخدم دائما كجسر إيديولوجي لأولئك الذين يسعون إلى التخلي عن الماركسية تماما.
وبالتالي فإن النضال ضد مثل تلك التيارات يصبح مسألة حياة أو موت بالنسبة للحركة. ولهذا السبب قرر لينين أن يشن هجوما كاسحا ضد بوغدانوف، في رائعته التي صدرت عام 1909 تحت عنوان: “المادية والمذهب النقدي التجريبي”، فضلا عن أعمال مثل “فصيل أنصار الأوتزوفية وبناء الله”.
“الأوتزوفيون“
ارتبطت بهذا التيار الفلسفي مجموعة من البلاشفة المعروفين باسم الأوتزوفيين، والتي كانت تتبنى مواقفا يسراوية متطرفة، هاجمها لينين بشدة.
كان التراجع المنظم مسألة ضرورية في فترة الردة الرجعية. كان على الحزب أن يحافظ على صفوفه سليمة قدر الإمكان، أيديولوجيا وماديا. كانت صفوف الحزب قد تضخمت بسبب التدفق القوي للعمال في 1905-1906، لكنه ضعف خلال فترة الردة الرجعية بسبب الإحباط والاعتقالات.
تعرضت منظمات حزبية محلية بأكملها للسحق على يد الشرطة السرية. والقادة، الذين كانوا قد عادوا إلى المنفى مرة أخرى، كانوا بالكاد قادرين على الحفاظ على اتصالات قليلة ثمينة مع الداخل الروسي. بينما استسلم العديد من المنفيين للعزلة والإحباط.
كانت تلك الظروف الصعبة هي السياق الذي فُرض فيه على الحزب اتخاذ منعطف تكتيكي حاد.
في سنوات المد الثوري، 1905-1906، ركز البلاشفة على الاستعداد للانتفاضة. وكانت الانتفاضة على رأس جدول الأعمال. كانت المهمة آنذاك هي تدريب العمال على استخدام الأسلحة النارية، استعدادا للمواجهة مع النظام القيصري. وفي ذلك السياق، قاطع البلاشفة، عن حق، انتخابات مجلس الدوما الأول في عام 1906. كانت مهمة الإطاحة بالنظام الأوتوقراطي القيصري مهمة آنية. وبالتالي فإن المشاركة في تلك المهزلة البرلمانية في مثل ذلك الوقت كانت ستؤدي فقط إلى زرع الارتباك بين صفوف الحركة. وقد اتضحت صحة هذا التكتيك بعد ما يزيد قليلا عن شهرين، عندما قام القيصر بحل مجلس الدوما الأول بشكل مخزي.
لكن وبحلول عام 1907، كانت الأمور قد تغيرت. كان على البلاشفة أن يتخلوا عن أي منظور للانتفاضة. إذ لم تعد ممكنة. وقد أصر لينين على أن يبدأ البلاشفة في الابتعاد عن تلك الجماعات المسلحة التي ظهرت خلال الفترة السابقة. عندما كانت الجماهير في مرحلة المد، كانت الميليشيات العمالية المسلحة بمثابة رأس رمح الثورة. لكن بقدر ما استمرت تلك الجماعات المسلحة في البقاء منفصلة عن الجماهير بعد انتهاء فترة المد، انحطت إلى روح المغامرة والإجرام.
لم يعد الاستعداد للانتفاضة على جدول الأعمال، بل كانت العودة إلى الدعاية الصبورة والتحريض هي المهمة الملحة. آنذاك، في ظل تلك الأجواء الخانقة التي سادت روسيا في عهد ستوليبين، كان لا بد للحزب أن يستغل أي طريق مفتوح أمامه للوصول إلى العمال. وقد شمل ذلك المشاركة في انتخابات مجلس الدوما عام 1907، والتي كان الحزب قد قاطعها سابقا؛ وذلك إلى جانب العمل الصبور في ما كان قد تبقى من منظمات عمالية قانونية. لم يكن ذلك لأنه يمكن توقع أي تغيير على الإطلاق من مثل تلك البرلمانات الرجعية العاجزة، بل لأن وجود نواب ماركسيين داخلها من شأنه أن يمنحهم منصة للتواصل مع جمهور واسع، منصة يمكنهم من خلالها تحريض وإعداد الوعي لانتفاضة ثورية جديدة.
لكن أعضاء آخرين في الحزب استمروا عالقين في ترديد نفس العبارات القديمة، التي حفظوها عن ظهر قلب، من الأيام الثورية التي مضت. لقد أيد الفصيل الأوتزوفي (“المقاطع”)، كما أصبح يعرف، سحب النواب الاشتراكيين الديمقراطيين من الدوما ومقاطعة الانتخابات. وكان من بين أنصار الأوتزوفيين بوغدانوف، الذي ادعى أن الحزب في ظل ظروف الرجعية الزاحفة، لن يتمكن من “تنظيم حملة انتخابية كبيرة ومؤثرة، ولا الحصول على تمثيل برلماني جدير بالاهتمام”. وحث الحزب على أن يقوم بدلا من ذلك… بمواصلة تدريب المجموعات المسلحة واختراق القوات المسلحة القيصرية!
وكما أوضح لينين في مقاله “فصيل أنصار الأوتزوفية وبناء الله”:
«توضع أعلى أشكال النضال، التي لم تنجح أبدا في أي مكان في العالم دون هجوم مباشر من جانب الجماهير، في المقدمة ويوصى بها باعتبارها “ممكنة” في فترة الردة الرجعية الشديدة، في حين أن أشكال النضال الأدنى، التي لا تفترض أي انتهاك مباشر للقانون من خلال النضال الجماهيري، بقدر ما تقوم على استخدام القانون لغرض الدعاية والتحريض، وإعداد عقول الجماهير للنضال، يتم اعتبارها “غير ممكنة”!!».
في الظاهر كان اقتراح بوغدانوف يبدو جذريا للغاية، لكنه في الحقيقة كان مجرد خطاب فارغ لم تعد له أية علاقة بالواقع. لقد كان مجرد ضجيج فارغ لبرجوازي صغير لم يتعلم شيئا من الحزب البروليتاري “سوى بعض النصوص والشعارات “البراقة” التي حفظها عن ظهر قلب”.
في منتصف عام 1909، ومن منفاهم في جزيرة كابري النائية في البحر الأبيض المتوسط بعيدا عن مراكز نشاط المنفيين الأخرى، مثل باريس حيث كان لينين، أسس بوغدانوف ولوناتشارسكي وغوركي ما أسموه “مدرسة الحزب”. وباسم الحزب، جلبوا عمالا من روسيا لتثقيفهم، ليس على أساس أفكار الحزب، بل على أساس أفكارهم حول الأوتزوفية، والتجريبية، و”بناء الله”. إن ما كان موجودا في كابري لم يكن في الواقع مدرسة على الإطلاق، بل كان مركزا لفصيل سري.
لقد داس بوغدانوف على ديمقراطية الحزب من خلال تأسيسه لتلك “المدرسة”. ومثله مثل كل الفردانيين البرجوازيين الصغار، أكد على حقه في قول ما يريد باسم الحزب. لقد وضع ذلك الحق فوق حق أعضاء الحزب في محاسبة الأفراد بشكل ديمقراطي، وتحديد ما الذي يمكن قوله باسمهم. ونتيجة لذلك، فقد تم طرده في البداية من هيئة تحرير صحيفة “بروليتاري”، ثم من الفصيل البلشفي بالكامل.
النزعة اليسراوية المتطرفة والمثالية
كان بوغدانوف حريصا جدا على ألا يتم وصفه بأنه أوتزوفي، وكان غوركي ولوناتشارسكي حريصين على تجنب وصفهما بـ “بناة الله”، لكنهم لم يتخلوا عن نزعتهم الانشقاقية. لقد كانوا، في الجوهر، وعلى الرغم من احتجاجاتهم، يمثلون اتجاها مثاليا ويسراويا متطرفا.
كانت الأفكار الأوتزوفية، التي حاربها لينين في عام 1909، بمثابة نوع من العصبوية اليسراوية المتطرفة، وهي النزعة التي عاد لينين ليتصدى لها ببراعة مرة أخرى في كتيبه الصادر عام 1920 بعنوان “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية”.
في كل مرة تظهر فيها هذه النزعات العصبوية اليسراوية المتطرفة، نرى نفس السمات تتكرر. فبدلا من القيام بتحليل شامل للواقع، واستخلاص محتوى الظواهر كما هي موجودة بشكل موضوعي، يقتصر العصبوي على الأشكال الخارجية فقط: “هذا برلمان برجوازي، وبالتالي لا علاقة لنا به”؛ “هذه نقابة رجعية، لذلك لا يمكننا العمل داخلها”؛ “مهمتنا هي الإطاحة بالنظام القيصري، لذلك يجب علينا شن هجوم فوري”. يتم تشكيل الواقع ليناسب مخططا مسبقا. وبدلا من التعامل مع ما هو موجود (مهما كان غير مستساغ في بعض الأحيان)، يتعامل العصبوي فقط مع ما ينبغي أن يكون. يعتقد العصبوي أن أفعالنا تنطلق من المخطط. وباختصار، فإن منهج العصبوية صوري ومثالي، ويشبه إلى حد كبير أفكار ماخ الفلسفية، التي استلهم منها بوغدانوف.
كانت توجد في داخل روسيا مقاومة طبيعية من جانب العديد من البلاشفة لموقف المشاركة في انتخابات مجلس الدوما. كان هؤلاء مناضلين طبقيين كانوا يأملون، عكس ما هو واقع، في أن يكون النضال حتى النهاية ضد النظام القيصري ما يزال على رأس جدول الأعمال. ولذلك مال الكثير منهم إلى التعاطف مع دعوة الأوتزوفيين لمقاطعة الانتخابات، وحاولت مجموعة بوغدانوف ممارسة نفوذها عليهم، من خلال إغراءهم بالانضمام إلى مدرستها.
لكن التجربة علمت بسرعة عمال الحزب داخل روسيا أنه لم يكن هناك أي احتمال واقعي لشن نضال فوري ونهائي ضد النظام القيصري. أثبتت الأحداث أن لينين كان على حق، وانتصرت أفكاره. وحتى في مدرسة بوغدانوف الفصائلية في كابري، سرعان ما ثار نصف الحاضرين، واحتجوا على أنهم تعرضوا للخداع وأن المدرسة كانت تبشر بأفكار تتناقض تماما مع مواقف الحزب.
وهكذا فقد كان النضال ضد الأوتزوفية يمثل فصلا هاما في تاريخ البلشفية، تعلمت منه كوادر الحزب دروسا مهمة، وعزز النفوذ السياسي للينين في نظرهم.
في الأسبوع المقبل، سنلقي نظرة على نص قصير للينين، كتبه عام 1913، ما يزال حتى يومنا هذا نصا أساسيا ضروريا لجميع الرفاق الذين يسعون إلى فهم أصول الماركسية، وهو مقال: المصادر الثلاثة للماركسية وأجزاؤها المكونة الثلاثة.