إن قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، والتي ستجري جولتها النهائية هذا الأسبوع، يسبب صداعا حادا للبرجوازية. وقد بدأ احتمال خسارة ماكرون للأغلبية البرلمانية يثير بالفعل الذعر في الأسواق. كما أن صعود حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، بقيادة مارين لوبان، يستفز مئات الآلاف للنزول إلى الشوارع احتجاجا.
[Source]
منذ نجاح التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقا) في انتخابات البرلمان الأوروبي قبل شهر، شارك مئات الآلاف في احتجاجات ضد الحزب. وقد أثار احتمال تشكيل حكومة للتجمع الوطني غضب الشباب والعمال المعارضين لسياسات الحزب المثيرة للانقسام.
في 15 يونيو، شارك أكثر من 600 ألف شخص في 150 مظاهرة ضد التجمع الوطني في جميع أنحاء البلاد. وقد أعقب ذلك عدد من المظاهرات الأصغر حجما والأكثر كفاحية، حيث هتف المشاركون بشعارات ضد الفاشية، وضد ماكرون، وتضامنا مع فلسطين والمهاجرين.
بعد إعلان نتائج الانتخابات، في 30 يونيو، صار الغضب ضد ليونة زعماء اليسار ملموسا. ففي احتجاج شارك فيه 8000 شخص في باريس، لصالح الائتلاف اليساري “الجبهة الشعبية الجديدة”، عبر المحتجون عن استهجانهم لزعيم الحزب الاشتراكي، إذ يتذكر العديد منهم سياسة الحزب خلال مشاركته في الحكومة. كما تعرض زعيم حزب فرنسا الأبية، جان لوك ميلنشون، للنقد بسبب سحبه لمرشحين عن الحزب لصالح حزب ماكرون تطبيقا لاتفاق “الجبهة الجمهورية” ضد حزب التجمع الوطني.
المزاج السائد بين الجماهير كفاحي وأبعد ما يكون عن السعي إلى المساومات والحلول الوسط.
الطبقة السائدة في حالة ذعر
وفي المقابل نرى الطبقة السائدة مرعوبة. إذ أنه مهما كانت النتيجة بعد الجولة الثانية، فلن تكون هناك حكومة مستقرة. إن ما تحتاج إليه هو حكومة قوية لتنفيذ الهجمات على الطبقة العاملة التي يتطلبها الوضع.
ترزح فرنسا تحت ثقل ديون ضخمة وعجز عمومي كبير. كانت هجمات ماكرون على المعاشات التقاعدية قد أدت إلى خفض هذا العجز، إلى حد ما، لكنه ما يزال عند 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يعني أنه مقابل كل 20 يورو يتم إنفاقها في فرنسا، تتكبد الحكومة ديونا إضافية بقيمة يورو واحد.
يبلغ إجمالي الدين الحكومي 110% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أحد أعلى المعدلات في أوروبا. ومع ارتفاع تكلفة الاقتراض الحكومي، يدفع هذا تكلفة سداد الفائدة إلى الارتفاع على نحو متزايد. تقدر هذه التكلفة هذا العام، بنحو 55 مليار يورو، وهي تزداد بمقدار 8 مليارات يورو كل عام.
لقد أدى هذا الوضع إلى إصدار الاتحاد الأوروبي تحذيرا لفرنسا مفاده أنه يتعين عليها خفض عجزها. من الواضح أنه لتحقيق التوازن في الحسابات، تحتاج البرجوازية إلى هجمات ضخمة على الطبقة العاملة، إما عن طريق رفع الضرائب (كما رأينا في كينيا، مع نتائج متفجرة) أو من خلال المزيد من الاقتطاعات وتدابير التقشف. كان هذا هو برنامج ماكرون، لكنه لم يتمكن من حشد الدعم الكافي له في التشكيل البرلماني السابق، والانتخابات الجديدة ستجعل هذه المشكلة أسوء وليس أفضل.
كان ائتلاف ماكرون، معا (Ensemble)، يمتلك 245 مقعدا في الجمعية الوطنية، من أصل 577، لكنه من المتوقع أن يخسر أكثر من نصف تلك المقاعد في هذه الانتخابات. ومن المقرر أن يخسر حلفاؤه في حزب الجمهوريين اليميني التقليدي أكثر من 25 من مقاعدهم، مما سيزيد من مشاكل ماكرون. في حين يتطلع معظم الآخرين إلى لوبان، على أمل أن ينقذهم الاتفاق معها من السقوط في لجة النسيان.
يمكن لحزب لوبان أن يحصل على ما يصل إلى 260 مقعدا، مقابل 89 مقعدا في الجمعية الوطنية الأخيرة. ومن المرجح أن تحصل “الجبهة الشعبية الجديدة” على حوالي 180 مقعدا، مقابل 131 مقعدا سابقا. وبالتحالف مع بقايا حزب الجمهوريين، يمكن لحزب التجمع الوطني تشكيل حكومة، وهو الأمر الذي ألمحت إليه لوبان في الأيام القليلة الماضية.
هذه نتيجة لانهيار الوسط. ففي الجولة الأولى، حصل حزب معا على 21%، مقابل 26% في الانتخابات السابقة. وحصل حزب الجمهوريين، الحزب اليميني التقليدي، على 6.5%، مقابل 13% في الانتخابات السابقة. مما يعني أن هذين الحزبين يمتلكان 27% من الأصوات، مقابل 40% قبل عامين، وبنصف الدعم الذي حصلوا عليه في عام 2017. ومن الواضح تماما أنهما لم يعودا يستطيعان توفير قاعدة مستقرة يمكن للبرجوازية الاعتماد عليها.
وعلى العكس من ذلك، فقد وسع حزب التجمع الوطني قاعدة دعمه بالضعف تقريبا، حيث انتقل من 19% إلى حوالي 33%. كما زاد دعم اليسار إلى حد ما، حيث حصل حزب الجبهة الوطنية الجديدة على 28% من الدعم، مقابل 26% التي حصل عليها الائتلاف اليساري السابق (الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد) في عام 2022.
ويقدم جدعون راشمان من صحيفة فاينانشال تايمز، في تحليله للوضع، منظورا كئيبا للغاية، حيث يقول:
“إن برلمانا يهيمن عليه التطرف السياسي من شأنه، في أفضل الأحوال، أن يغرق فرنسا في فترة طويلة من عدم الاستقرار. ومن شأنه، في أسوء الأحوال، أن يؤدي إلى تبني سياسات مسرفة وقومية من شأنها أن تثير بسرعة أزمة اقتصادية واجتماعية في فرنسا”. (قد تتسبب فرنسا في أزمة اليورو التالية).
في الأساس، إن أفضل سيناريو، بالنسبة لراشمان، هو استمرار الأزمة والشلل. أما أسوء سيناريو فهو تشكيل حكومة بالفعل، لأن مثل هذه الحكومة من شأنها أن تخلق المزيد من الاضطرابات، سواء في المجال الاقتصادي أو في شكل احتجاجات ومقاومة جماهيرية. وعند مقارنته للوضع الحالي بحكومة تروس قصيرة العمر في بريطانيا، عبر راشمان عن خشيته من عدم وجود إمكانية للتخلص من مثل هذه الحكومة:
“في المملكة المتحدة، كانت هناك آلية لإقالة تروس بسرعة واستعادة حكومة عقلانية. لكن هذه المهمة ستكون أكثر صعوبة في فرنسا”.
وهكذا فإنه في بريطانيا، تمكنت الأسواق والبنك المركزي، وكذلك نواب حزب المحافظين نفسه، من استبدال رئيسة وزراء لم تكن الطبقة السائدة تريدها، واستعادة “حكومة عقلانية” (أي حكومة في مصلحة الشركات الكبرى)، لكن راشمان لا يرى امكانية حدوث نفس الشيء في فرنسا.
الأزمة في أوروبا
أثار ماكرون نفسه احتمال “حرب أهلية” إذا ما تمكن اليسار أو اليمين من الوصول إلى السلطة. من الواضح أن هذا مبالغة، وهي إحدى صفات ماكرون. لكن هناك عنصر قوي من الحقيقة في ما يقوله. يحبل الوضع برمته بالصراع الطبقي، وسوف تعمل حكومة يسارية أو يمينية على تسريع السيرورة.
وعلاوة على ذلك، فإن المعلقين البرجوازيين المؤيدين للاتحاد الأوروبي، مثل راشمان، ليسوا قلقين بخصوص فرنسا فحسب، بل وأيضا بخصوص التأثير الذي قد تخلفه هذه الانتخابات على الاتحاد الأوروبي ككل.
إن ميثاق الاستقرار المالي يفرض شروطا صارمة على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وخاصة على الدول الأعضاء في منطقة اليورو. وهذا لضمان عدم اضطرار بعض البلدان (أي: ألمانيا) إلى تغطية ديون البلدان الأخرى (أي فرنسا وإيطاليا واليونان). ليس هناك، بطبيعة الحال، سوى عدد قليل جدا من البلدان التي تمتثل للقواعد، بعد ستة عشر عاما من الأزمة، لكن فرنسا هي واحدة من أسوء المخالفين.
من أجل ضمان استمرار الاستقرار، سوف يطالب الاتحاد الأوروبي أي حكومة فرنسية بخفض الإنفاق وتطبيق التقشف. وللوصول إلى الهدف المطلوب، تحتاج الحكومة إلى خفض الإنفاق بمقدار 70 مليار يورو. لكن من غير الواضح كيف ستتعامل حكومة التجمع الوطني مع مثل هذه المطالب. فمن جهة يزعم الشخص الذي من المتوقع أن يكون وزير مالية حزب التجمع الوطني في المستقبل، جان فيليب تانجوي، أن الحزب سوف يلتزم بميثاق الاستقرار (“لصالح الشعب الفرنسي”)، كما أن الحزب قد تخلى علنا عن مطلبه بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي. في حين أنه، من جهة أخرى، يريد خفض مساهمات فرنسا في الاتحاد الأوروبي بمقدار 7 مليارات يورو، وهو ما لن يلقى استحسانا في بروكسل.
البرجوازية منقسمة بشأن كيفية التعامل مع الموقف. يسعى قسم منها إلى إعادة حزب التجمع الوطني إلى الصف، ومحاولة جعله “مسؤولا”. أي بعبارة أخرى: جعل برنامج الحزب متوافقا مع برنامج البرجوازية، مما يجعله أكثر قابلية للتأثر بضغط الطبقة السائدة.
وفي تقرير نشرته صحيفة فاينانشال تايمز حول كيف تنظر الشركات الكبرى الآن إلى حزب التجمع الوطني كشريك محتمل، كتبت:
“قال أحد قادة الشركات المسجلة في مؤشر كاك 40 [أي أكبر 40 شركة] عن حزب لوبان، الذي يتقدم على الأحزاب الأخرى في الفترة التي تسبق التصويت على جولتين، في الثلاثين من يونيو والسابع من يوليوز: “إن السياسات الاقتصادية لحزب التجمع الوطني أشبه بصفحة بيضاء يعتقد أصحاب الأعمال أنهم قادرون على المساعدة في الدفع بها في الاتجاه الصحيح. بينما من غير المرجح أن يخفف اليسار من أجندته المتشددة المناهضة للرأسمالية”. (أي أن الشركات الفرنسية تتقرب من مارين لوبان بعد أن أصابها الفزع من سياسات اليسار).
وفي هذا الأسبوع، نجد الكاتب الصحفي مارتن ساندبو يتساءل عما إذا كان ينبغي إسقاط “الحجر الصحي” عن حزب التجمع الوطني لمكافأته على تعديل نفسه: “إن محاولة لوبان لنزع صفة التشدد عنه وتراجع الحزب المحموم عن وعوده، تشير إلى اهتمام الحزب بالنجاح داخل النظام بدلا من محاولة هدمه”. (لكن الحجر الصحي الأوروبي ضد اليمين المتطرف قد لا ينجح).
والمثال الذي تم الاستشهاد به هو رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، التي تخلت بكل لطف عن معارضتها للاتحاد الأوروبي، ودعمت الحرب في أوكرانيا، ووافقت على اتباع القواعد المالية للاتحاد الأوروبي. أي أنها، بعبارة أخرى، أصبحت سياسية “مسؤولة”، وتوفق مصالحها مع مصالح الطبقة السائدة و”النظام”. فهم لا يمانعون هجماتها على حقوق النساء والمهاجرين وما إلى ذلك. فالنظام يمكنه أن يستوعب ذلك، طالما أنها تلتزم بالخط عند التعامل مع القضايا التي تهم البنوك والشركات الكبرى.
لكن الأمل في أن تتحول لوبان، أو مرشحها لرئاسة الوزراء بارديلا، إلى ميلوني أخرى، هو أمل لا يتقاسمه الجميع. ويعترف ساندبو نفسه بأن “النخب” غير مقتنعة بالتجمع الوطني.
إن المخاطر عالية. وبالفعل، قد بدأت الأسواق في التعبير عن الخوف، وهي تشعر بالقلق، على وجه الخصوص، إزاء احتمال حدوث صدام مع الاتحاد الأوروبي. ونظرا للتصريحات القومية العدوانية التي اشتهر بها الحزب، فإن السؤال الذي يدور في أذهان الرأسماليين هو: هل يمكن الوثوق بهم؟ إنهم قلقون أيضا من أن التجمع الوطني لن يستمر في دعم فرنسا لأوكرانيا، وهو الأمر الذي كان الحزب غامضا بعض الشيء بشأنه.
يقترح ساندبو أنه ربما ينبغي لهم أن يضعوا ثقتهم في “المؤسسات”. أي أنه يعني، بعبارة أخرى، أن الدولة والصحافة، وغيرهما من ركائز المجتمع البرجوازي، سوف تعمل على تعديل سياسة التجمع الوطني وتوجيهه بما يتماشى مع مصالح البرجوازيين ونظامهم. وفي النهاية، ربما لن يكون أمامه الكثير من الخيارات.
انهيار الوسط السياسي
يمكن للعديد من البرجوازيين أن يروا الحقيقة، أي أن حزب ماكرون (معا) لن يستطيع أن يلعب دور الحزب الرئيسي للبرجوازية الفرنسية، ونفس الشيء يمكن أن يقال عن حزب المحافظين التقليديين كذلك. فهما معا يسيطران على أقل من 30% من الناخبين. كما أن هذا الأخير منقسم إلى نصفين بين أولئك الذين يريدون التحالف مع حزب التجمع الوطني وأولئك الذين يريدون التحالف مع الوسط.
في حين يبذل حزب “معا”، من جانبه، قصارى جهده لربط الائتلاف اليساري بمعسكره. وقد أعلن الآن، تحالفه مع الجبهة الشعبية الجديدة، لتشكيل “جبهة جمهورية” ضد حزب التجمع الوطني، حيث يسحب حزب “معا” مرشحيه في الدوائر الانتخابية التي تكون فرصهم في الفوز ضئيلة، لصالح حزب الجبهة الشعبية الجديدة. بينما يقوم، في الوقت نفسه، بالضغط على قادة الجبهة الشعبية الجديدة للنأي بأنفسهم عن ميلنشون وفرنسا الأبية؛ أي عن يسار الحركة.
من الصعب أن نرى كيف يمكنهم جعل الأرقام تعمل، لكن من الواضح أن فكرتهم هي فصل العناصر الأكثر اعتدالا عن حركة فرنسا الأبية، بزعامة ميلنشون، وحملهم على دعم الوسط. إن هذا من شأنه أن يتماشى تماما مع تاريخ الحزب الشيوعي الفرنسي والخضر والحزب الاشتراكي. وكما تفاخر أحد زعماء الحزب الاشتراكي في مقابلة أجريت معه هذا الأسبوع، فإن أصواتهم هي التي أوصلت ماكرون إلى السلطة.
سيكون على أي “جبهة جمهورية” أن تخطب ود فرنسا الأبية لدعم أي حكومة جديدة، وذلك لأن فرنسا الأبية يسيطر على نصف مقاعد حزب الجبهة الشعبية الجديدة. وبالفعل فقد اقترحت افتتاحية صحيفة فاينانشال تايمز، هذا الأسبوع، هذه السياسة على وجه التحديد. لكن حزب معا يرفض أن تكون له أي علاقة بميلنشون، مفضلا العمل فقط مع شركائه “الجمهوريين”.
لقد وقف حزب فرنسا الأبية على مدى العام الماضي في مواجهة الأحزاب اليسارية الأخرى. إذ أن معارضة الحزب للحرب وللإمبريالية، وخاصة للحرب في غزة، إلى دفع الأحزاب “اليسارية” الأخرى إلى شن هجمات شرسة ضده بشكل عام، وضد ميلنشون بشكل خاص. إنه من المثير للاشمئزاز أن نرى زعماء الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الاشتراكي يهاجمون ميلنشون بتهمة “معاداة السامية”، وذلك لأنه عارض غزو إسرائيل لغزة. لقد تقربوا هم أنفسهم من ماكرون في كل قضايا السياسة الخارجية المهمة.
كان هذا هو السبب الذي جعل شيوعيي منظمة الثورة [الفرع الفرنسي للأممية الشيوعية الثورية] يعارضون تشكيل الجبهة الشعبية الجديدة. والحقيقة هي أن الوسط هو من عبد الطريق لصعود التجمع الوطني، وذلك أولا مع حكومة هولاند، ثم تطبيق سياسة “أهون الشرين” المتمثلة في دعم ماكرون ضد لوبان. كل ذلك ساهم في تمهيد الطريق لـ”الشر الأكبر”.
لقد ربط الاشتراكيون والخضر مصيرهم بماكرون. وفي الوقت نفسه، ربطت فرنسا الأبية وميلنشون مصيرهما بالاشتراكيين والخضر. والنتيجة المترتبة عن هذا هي أن السخط الهائل في المجتمع الفرنسي وجد تعبيره المشوه من خلال الحزب الوحيد الذي ظل في المعارضة، وهو أقصى اليمين.
إن هؤلاء اليمينيين لا يقدمون من جانبهم، بطبيعة الحال، سوى الديماغوجية، كما يمكن ملاحظة ذلك مع ميلوني منذ توليها للسلطة. إذ أن اليمين المتطرف يقف، من حيث الجوهر، على أساس نفس البرنامج الفاسد الذي يتبناه ماكرون. ومع ذلك، فإن سلوك زعماء اليسار، بدءا من الحزب الاشتراكي والخضر والحزب الشيوعي، قد مهد الطريق فعليا أمام حزب التجمع الوطني.
برنامج حزب الجبهة الشعبية الجديدة أضعف حتى من برنامج الائتلاف اليساري السابق لعام 2022، لكن البرجوازيين ما زالوا غير راضين عنه. يتضمن برنامجه رفع الحد الأدنى للأجور، وعكس إصلاحات ماكرون لصناديق التقاعد، ووضع ضوابط للأسعار على السلع الأساسية، والقيام باستثمارات ضخمة. وهو ما يشكل تهديدا لمصالح الشركات الكبرى ويتعارض تماما مع برنامج هذه الأخيرة المتمثل في الاقتطاعات والهجمات على حقوق العمال. ومع ذلك، فقد كان لدى رئيس أكبر مجموعة بورصة في أوروبا هذه الكلمات المعزية للأسواق:
“لا أستطيع أن أتخيل أنه في حال وصول إحدى هاتين القوتين [حزب التجمع الوطني أو حزب الجبهة الشعبية الجديدة] إلى السلطة، سوف يكونان قادرين على تنفيذ كل ما يعدان به، وذلك بسبب كل من وكالات التصنيف، والنقابات، والضغوط من الاتحاد الأوروبي وسلطة الرئيس، والتي من شأنها أن “تخفف من تأثير أي حزب شاذ [أو غير متمرس] في أن يفعل ما يريده”. (يقول الرئيس التنفيذي لشركة يورونيكست إن الشركات بحاجة إلى الهدوء بشأن الانتخابات الفرنسية).
في الأساس، تستطيع البرجوازية من خلال مؤسساتها أن توقف تنفيذ برنامج الجبهة الشعبية الجديدة. كان الرئيس الاشتراكي، فرانسوا هولاند، قد فاز بالرئاسة في عام 2012 بعد أن وعد بفرض الضرائب على الأغنياء لوقف التقشف. وانتهى به الأمر إلى التخلي عن برنامجه لصالح تخفيضات ضريبية لصالح الشركات وفرض التقشف على الطبقة العاملة.
ومع وجود مثل هذه السوابق، فلا عجب في نفور العمال من الحزب الاشتراكي وحلفائه الأقربين، الخضر والحزب الشيوعي الفرنسي. ففي النهاية، إنها مسألة سياسية: عندما تواجه الاختيار بين الرأسمالية والبرنامج الذي انتخبت من أجله، فماذا ستختار؟ لقد أظهرت تلك الأحزاب بالفعل أن وعودها لا تستحق الورق الذي كتبت عليه.
لذا فإنه من المنطقي تماما أن تتجه شريحة من الطبقة العاملة الآن نحو حزب التجمع الوطني في حالة من الاستياء الشديد، قائلين: “ربما، وفقط ربما، يمكنهم إحداث فرق”. من المؤكد أن الأحزاب الأخرى لم تكن قادرة على ذلك. وسوف تستمر لوبان ورئيس وزرائها في تطبيق نفس سياسات ماكرون القائمة على الاقتطاعات والتقشف، لكن مع إضافة السم والتعصب.
هذا أمر بغيض بالنسبة للشباب، الذين يستطيعون أن يروا ديماغوجية اليمين المتطرف، ولكنهم في نفس الوقت يحتقرون ماكرون وحزبه. لقد صوت 48% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما، و38% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 عاما، لصالح حزب الجبهة الشعبية الجديدة في الجولة الأولى. بينما فاز حزب التجمع الوطني بأصوات الناخبين في منتصف العمر، في حين يحظى ماكرون بدعم الناخبين الذين تزيد أعمارهم عن 70 عاما. 9% فقط من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما هم من دعموا حزب “معا”.
من أجل بديل عمالي
يمكن للشباب أن يروا بوضوح أكبر من ساسة حزب الجبهة الشعبية الجديدة. لقد انتهى الوسط، ويجب أن يكون الطريق إلى الأمام مبنيا على أساس طبقي، أي على أساس قطيعة واضحة مع ماكرون وأولئك الذين يحاولون إبقاءه في السلطة.
إن أزمة الرأسمالية الفرنسية تنعكس الآن في أزمة سياسية عميقة. يبدو أن الحكومة الوحيدة المتاحة هي تلك التي سيقودها حزب التجمع الوطني، إما هذا أو استمرار الأزمة السياسية، والبقاء بدون حكومة. إن الوضع برمته يصرخ طلبا لبديل عمالي.
منذ عام 2016، كانت هناك عدة فرص للإطاحة بماكرون في سياق الصراع حول قوانين العمل، وحركة السترات الصفراء، وحركة العام الماضي ضد سياسة ماكرون لإصلاح نظام التقاعد، وما إلى ذلك. لو تمكنت أي من تلك النضالات من إسقاط الحكومة، لكان ماكرون قد واجه تحديا من جانب اليسار، وليس من جانب اليمين. والآن، يمكن للوبان وحزب التجمع الوطني أن يستغلا فشل تلك الحركات.
وكما أشار الرفاق في منظمة الثورة، فإن مهادنة وخجل قيادات الطبقة العاملة يعيقان الحركة. وهؤلاء الرفاق يؤسسون الحزب الشيوعي الثوري لأولئك الذين هم على استعداد لخوض هذا النضال. إن هذه خطوة مهمة لتوحيد أفضل العمال والشباب تحت راية ثورية مشتركة.