“عندما يتحدث القادة عن السلام، يعرف عامة الناس أن الحرب قادمة”. (بيرتولد بريخت)
[Source]
كانت هذه مجرد مقتطفات من محادثة قد يسمعها المرء بالصدفة البحتة، ثم ينساها بعد ذلك. حدث ذلك في صباح أحد الأيام، عندما كنا نتجول على طول شاطئ خلاب في منتجع إسباني في سانتاندير. كانت الشمس مشرقة. والبحر، الذي كان هائجا إلى حد ما في السابق، صار هادئا كبحيرة، وكان كل شيء يوحي بالسلام والهدوء التام.
“هل تستطيع أن ترى تلك السحب السوداء في الأفق؟”
“كلا، لا أستطيع رؤيتها، أين هي؟”
“هل تستطيع أن تسمع صوت الرعد في المدى؟”
“كلا، كل ما أسمعه هو ارتطام الأمواج على الشاطئ”
تلاشت تلك المحادثة، فجأة كما بدأت، وعاد كل شيء إلى الهدوء والسلام مرة أخرى. لكن هذه المحادثة، التي تبدو غير ذات أهمية، جعلتني أعود بذاكرتي إلى الوراء في الزمن. في خيالي، كنت أرى شواطئ أخرى في زمن آخر: شواطئ في بلدي. أماكن للمتعة والهدوء، مليئة بالعائلات مع أطفال صغار يبنون قلاعا من الرمل سيكتسحها المد القادم قريبا.
كان الأطفال يضحكون، ويأكلون الآيس كريم، ويلعبون، ويبدو كل شيء طبيعيا وبديهيا وحتميا، حتى أن المشهد بدا وكأنه مجمد في الزمن إلى الأبد، وكأن لحظات الرضا والسعادة هذه مقدر لها أن تدوم إلى الأبد. لكن ذلك كان أبعد ما يكون عن واقع الحال. ففي غضون بضعة أشهر، تم اجتياح ذلك السلام الدائم وتدميره تماما، كما حدث مع تلك القلاع الرملية المبنية بعناية.
كان تاريخ ذلك المشهد هو صيف عام 1939.
يبدو أن هناك شيئا ما في النفس البشرية يبتعد غريزيا عن كل أفكار العنف والشقاء. لا تهتم بالسياسة! لا تهتم بالغد! دعنا نستمتع بالحياة ما دمنا قادرين على ذلك، لأننا جميعا نعلم أننا لن نعيش إلى الأبد.
أجل، إن مثل هذه الأفكار مفهومة تماما. لكن من الحماقة أن نصدق بوجود جنات زائفة يمكن أن تزول في لحظة، مثل قلعة رملية لطفل.
والآن، تشكل سحب العاصفة التي تتجمع بسرعة في الشرق الأوسط، تهديدا خطيرا للغاية لحياة الملايين من البشر، بمن في ذلك العديد من الذين يعيشون بعيدا جدا عن أنقاض غزة المحترقة، والذين يعتقدون، خطأً، أن العاصفة لن تصل إلى شواطئهم أبدا.
العاصفة المحدقة
بينما أكتب هذه السطور، يمكن للمرء سماع دقات طبول الحرب بوضوح أكبر من أي وقت مضى، إذا ما بذل ما في وسعه للاستماع إليها. إنها مثل صوت الرعد البعيد الذي لا يمكن سماعه في البداية، لكنه يصبح أعلى وأعلى مع اقتراب العاصفة.
إن الوضع في الشرق الأوسط أشبه بحقل ألغام حقيقي، ينتظر فقط الشرارة الأولية التي ستشعل انفجارا هائلا ومرعبا. ويبدو أن الممثلين في هذه الدراما يلعبون أدوارهم بنوع من القدرية العمياء التي لا يستطيعون التنبؤ بخطوتها التالية. فهم يتصرفون وفقا للحتمية القاتلة التي تتصرف بها الروبوتات المبرمجة لكي تتحرك بطرق لا يمكنها فهمها، بل وحتى التحكم فيها.
وكما هو الحال في كل دراما، فهناك أبطال وأشرار. ومثلما هو الحال في كل حرب، تقاتل قوى الشر ضد قوى الخير. لكن كلتا القوتين، اللتين تبدوان عدائيتين ومتناحرتين، تتآمران لإنتاج كارثة ذات بعد عالمي.
إن هذه الدراما ليست جديدة، بل إنها تعود إلى ما يقرب من قرن من الزمان. لكن أحدث وأشد أعمال العنف فتكا بدأت في ذلك اليوم المشؤوم، السابع من أكتوبر 2023، عندما اخترقت قوات حماس الحواجز الأمنية التي كان الشعب الإسرائيلي يعتقد، خطأً، أنها تجعله في مأمن من الهجوم.
من غير الضروري، في هذه اللحظة بالذات، أن نتأمل وحشية ذلك الهجوم الذي أرعب الرأي العام العالمي. بدا الأمر آنذاك وكأن إسرائيل هي الضحية، وإذا كان هناك من دور تتقن لعبه دوائرها الحاكمة، فهو على وجه التحديد لعب دور الضحية.
إن العالم كله يعرف الفظائع المروعة التي ارتكبها النازيون ضد اليهود. وهذا يوفر لدولة إسرائيل الحالية ذريعة جاهزة لارتكاب كل أنواع الفظائع الرهيبة ضد الآخرين، في حين تشير باستمرار بأصابع الاتهام إلى المحرقة، والتي من المفترض أن توفر مبررا لأي شيء مهما كان.
كل من يجرؤ على انتقاد تصرفات الدولة الإسرائيلية في الوقت الحاضر، يُتهم تلقائيا بجريمة معاداة السامية. لكن هذه كذبة خبيثة. فليست هناك أية علاقة على الإطلاق بين انتقاد جرائم الدولة الإسرائيلية وحكومتها الحالية، وبين موقف العنصرية السامة والتحيز ضد اليهود بشكل عام.
إذا كان هناك من شيء تسبب في تشويه اسم إسرائيل وعزلها في نظر الرأي العام العالمي، فهو على وجه التحديد تصرفات نتنياهو وحكومته بعد السابع من أكتوبر.
يقول الكتاب المقدس: “العين بالعين، والسن بالسن، والنفس بالنفس”. لكن عندما نفحص تصرفات الدولة الإسرائيلية، نجد أن الحال ليس كذلك نهائيا. إن الأمر لا يتعلق بـ “نفس مقابل نفس”. فحياة مواطن إسرائيلي واحد تدفع ثمنها دماء مئات وآلاف الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين الأبرياء. ففي السابع من أكتوبر ، قُتل نحو 1200 إسرائيلي واختطف 251 آخرون. لكن ومنذ ذلك الحين، قُتل أكثر من 40130 فلسطيني في غزة، الأغلبية الساحقة منهم من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء.
هذه ليست عدالة، ولا حتى انتقاما، بل هي سياسة إجرامية يمارسها شعب ضد شعب آخر. ويحتج الإسرائيليون بصوت عال ضد اتهامهم بالإبادة الجماعية. لن نجادل حول الكلمات. لكن إذا لم تكن هذا إبادة جماعية، فهي شيء قريب جدا منها، قريب جدا منها إلى الحد الذي يجعل من المستحيل تقريبا التمييز بينهما.
لكن ما هي الصلة المحتملة بين دولة إسرائيل الحديثة القوية -الدولة الوحشية العدوانية، المسلحة حتى الأسنان بأحدث أسلحة الدمار وأكثرها شراسة، والمدعومة بشكل كبير من قبل الإمبريالية الأميركية- وبين هؤلاء اليهود المساكين العزل في أوروبا الشرقية، الذين ساقهم النازيون إلى غرف الغاز في أوشفيتز وبيلسن؟
كلا! الحقيقة هي أن الأدوار هنا قد انعكست تماما. فالناس المساكين المضطهدون هنا ليسوا الإسرائيليين، بل الفلسطينيين، الذين طردوا بلا رحمة من أراضيهم، وأجبروا على الهجرة من مكان إلى آخر، من طرف عدو قاس وعدواني. وهم الآن مضطرون إلى اللجوء إلى شريط بائس من الأرض، يفتقر إلى كل الموارد، ويتعرضون للقمع والتعذيب بلا رحمة، تماما كما كان اليهود يعذبون ويدفعون من طرف أعدائهم “المتفوقين” إلى الغيتوهات.
أجل، قد يحتج البعض على أن هذه المقارنة غير عادلة. فليحتج بقدر ما يريد. لكن الحقائق في هذه القضية تتحدث عن نفسها. والحقائق أشياء عنيدة.
مأساة غزة
ليس من الضروري هنا أن نذكر الفظائع المروعة التي ارتكبتها وترتكبها القوات الإسرائيلية يوميا ضد سكان غزة. فالحقائق معروفة جيدا ولا تحتاج إلى مزيد من التفصيل.
دعونا نقتصر على أحدث الإحصائيات المحزنة. فمنذ بداية الهجوم الوحشي على شعب غزة، قُتل أكثر من 40 ألف فلسطيني في غزة، وفقا لوزارة الصحة في القطاع. لكن الرقم الحقيقي سيكون أعلى بكثير من هذا، حيث ما يزال عدد لا يحصى من الضحايا مدفونين تحت أنقاض منازلهم.
شهد العالم، بالطبع، العديد من الأمثلة المروعة للأعمال الحربية اللاإنسانية التي ارتكبتها الإمبريالية ضد شعوب البلدان الفقيرة. وحالة اليمن ليست سوى أحدث مثال، حيث نهج النظام السعودي، المدعوم والمسلح علنا من قبل حكومات ما يسمى بالدول الغربية الديمقراطية المتحضرة، سياسة القصف والتجويع ضد شعب ذلك البلد التعيس لإرغامه على الاستسلام. في حين التزمت وسائل الإعلام الغربية الصمت المنافق المتواطئ إزاء تلك الوحشية المروعة.
لكن هناك شيء مثير للاشمئزاز بشكل خاص في المعاملة القاسية التي يتعرض لها شعب غزة. أين يمكن أن نجد مثالا لما يحدث لسكان يبلغ عددهم نحو 2.23 مليون نسمة (قبل الحرب) مسجونين قسرا في شريط صغير من الأرض، يساوي مساحة لاس فيغاس، حيث يحرمون من كل ضروريات الحياة، الغذاء والمأوى والدواء، بل وحتى الماء نفسه؟ المثال الذي يتبادر إلى الذهن هو على وجه التحديد غيتو اليهود في وارسو.
آلاف الناس العزل يتعرضون لقصف متواصل لا يرحم ولا يميز بين الأهداف المدنية والعسكرية، بل يواصل عمله الدموي، ليل نهار، بلا هوادة، ولا رحمة ولا تمييز. حتى أولئك الذين يسعون إلى تقديم بعض المساعدة للسكان المرعوبين والجوعى يُعَدون أهدافا مشروعة للقوات الإسرائيلية.
إن مشاهد الخراب والموت والدمار في غزة تشكل مصدرا دائما للاستفزاز للجماهير، ليس فقط في العالم العربي، حيث ينزلون إلى الشوارع احتجاجا، بل وفي كل بلدان العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها.
كان الهدف المعلن للنظام الإسرائيلي هو تدمير حماس. ولا شك أن أضرارا جسيمة قد ألحقت بها، وإن كان ذلك بتكلفة فادحة على السكان المدنيين. ومع ذلك، فإنه رغم مرور عشرة أشهر على بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية، فالأمور لا تسير كما كان متوقعا.
لم يتم إطلاق سراح الرهائن، وما تزال حماس موجودة وتقاوم. وفي مقابل كل مقاتل يُقتل، تستطيع الحركة أن تعتمد على إمدادات مستمرة من المجندين الجدد من الشباب الغاضبين في غزة، المليئين بالكراهية ضد المعتدين والعازمين على الانتقام.
وعوض أن تجعل حرب نتنياهو على شعب غزة إسرائيل أكثر أمنا، جعلتها أكثر انعداما للأمن وعُرضة للخطر بألف مرة. داخل إسرائيل، هناك استياء متزايد من الحكومة، التي تلام على إطالة أمد الحرب والفشل في تأمين إطلاق سراح الرهائن.
الاحتجاجات في إسرائيل تتزايد، حيث يطالب عشرات الآلاف بإجراء انتخابات مبكرة والتي من المؤكد أنها ستؤدي إلى الإطاحة بنتنياهو والذي ربما سيواجه المحاكمة. لكن وعوض أن تدفع نتنياهو إلى الاستسلام، فإن لها تأثير معاكس تماما. فهو أكثر تصميما من أي وقت مضى على مواصلة الحرب، وحتى توسيعها إلى صراع أكثر تدميرا وخطورة، لتلتهم المنطقة بأكملها.
أجندة نتنياهو
غالبا ما نسمع الحجة القائلة بأن “نتنياهو في موقف شديد الصعوبة، لأنه إذا كان هناك اتفاق، فهناك فرصة كبيرة جدا لأن يخسر ائتلافه”. صحيح تماما أن حلفاء نتنياهو من أقصى اليمين تعهدوا بالانسحاب من الحكومة إذا هو وافق، على سبيل المثال، على إطلاق سراح أعداد كبيرة من السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية في مقابل الرهائن.
لكن هذا تفسير لا يفسر شيئا. إن نتنياهو، في الواقع، لا يحتاج إلى توجيه أصابع الاتهام إلى شركائه في الائتلاف من أجل تبرير أفعاله. إن ما يسمى “اليمين المتطرف” ليس هو الذي يملي سياسات الحكومة الإسرائيلية، بل نتنياهو نفسه.
إن قاعدة حكمه تتآكل من جميع الجوانب. لقد تبين أن تفاخره بأنه وحده القادر على ضمان أمن إسرائيل كان مجرد كلام أجوف بعد أحداث السابع من أكتوبر. ولم تسفر الحرب على غزة عن النتائج المرجوة، بل أثارت استياء هائلا ومتناميا داخل إسرائيل.
نتنياهو سياسي كلبي وعنيد له سجل حافل بالمناورات غير المبدئية والفساد. وهو يعلم جيدا أنه إذا انتهت الحرب في غزة فسوف يخسر السلطة ويجد نفسه في مواجهة عقوبة السجن. ومن الطبيعي أن لا يكون احتمال إنهاء حياته السياسية خيارا جذابا بشكل خاص بالنسبة له. كما أن احتمال إقامة طويلة في زنزانة سجن إسرائيلي هو احتمال أقل جاذبية.
إن أمله الوحيد في إنقاذ شيء من سمعته هو تقديم نفسه كزعيم قوي: زعيم حرب. لكن زعيم الحرب، من حيث التعريف، لابد أن تكون لديه حرب يقودها. ومن هذه المعادلة غير المعقدة للغاية، يصبح الاستنتاج الوحيد الممكن واضحا على الفور.
إن المظاهرات الجماهيرية التي تعبر عن السخط الشعبي في إسرائيل تشكل مصدر إزعاج دائم له، لكنها غير كافية لإجباره على تغيير مساره. وربما تكون المظاهرات الجماهيرية في شوارع لندن ونيويورك سببا في قلق الساسة في تلك البلدان، لكن تلك مشكلتهم بالكامل، ولا تهم رئيس الوزراء الإسرائيلي.
كل الكلمات أو عبارات التوسل أو محاولات الإقناع أو حتى التهديدات، من جانب الأمريكيين (والتي يعرف أنها لا تحمل أي محتوى على الإطلاق) لن تحدث أي فرق. إن نتنياهو يحتاج إلى الحرب بقدر ما يحتاج إلى الهواء للتنفس. ولن ينحرف عن المسار القاتل الذي اختاره.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: أي حرب؟ إن الحرب في غزة، كما رأينا، قد غرقت الآن في مستنقع لا أمل في الخلاص منه. وبعد أن دمرت المنطقة بأكملها، أصبح الجيش الإسرائيلي بلا أي أهداف قابلة للتطبيق. حتى أن بعض الجنرالات أعربوا عن استيائهم من الوضع.
لذلك فإنه لا بد لنتنياهو أن يفكر في شيء آخر. لا بد له أن يقنع الشعب الإسرائيلي بأنهم يواجهون تهديدا وجوديا من أعداء أقوياء من الخارج، وأنه لابد من مواجهة هؤلاء الأعداء بالقوة، لأن هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمونها.
إن ما يحتاج إليه نتنياهو حقا هو التورط المباشر للجيش الأميركي في مواجهة أوسع نطاقا في المنطقة، مواجهة من شأنها أن تجبر الولايات المتحدة وكل حلفائها على الانحياز علنا إلى جانب إسرائيل. ولتحقيق هذه الغاية، نتنياهو عازم على إثارة صراع إقليمي من شأنه أن يجبر الولايات المتحدة على الانخراط بشكل مباشر إلى جانب إسرائيل.
والعدو الذي اختار مواجهته ليس سوى إيران.
إسرائيل تستفز إيران
لقد شرع الإسرائيليون على الفور في تنفيذ برنامج من الاستفزاز المنهجي، المصمم لدفع إيران إلى الحرب. ففي الأول من إبريل، أسفرت غارة إسرائيلية على القسم القنصلي في السفارة الإيرانية في دمشق عن مقتل سبعة إيرانيين، من بينهم اثنان من القادة المخضرمين.
مباشرة بعد ذلك، وكما لو كانوا جوقة متدربة جيدا، مارس حلفاء أميركا ضغوطا على إيران لأجل “ضبط النفس”. أليس من الغريب أن إيران هي التي يُطلب منها دائما “ممارسة ضبط النفس”، وليس إسرائيل؟ رغم أن إسرائيل على وجه التحديد هي التي ينبغي أن تُوجه إليها هذه النصيحة.
لقد أظهرت إيران في الواقع قدرا كبيرا من ضبط النفس في مواجهة سلسلة من الاستفزازات الصارخة من جانب إسرائيل. ولهذا السبب، حرصت إيران، في شهر أبريل الماضي، على معايرة رد فعلها على ما كان استفزازا صارخا من جانب إسرائيل بهدف تحقيق تلك النتيجة على وجه التحديد.
وعندما شنت إيران في الثالث عشر من أبريل هجوما على إسرائيل بأكثر من ثلاثمائة صاروخ وطائرة مسيرة، حرصت على تحذير الأميركيين (والإسرائيليين أيضا) مسبقا من ذلك الهجوم، الذي كان مقتصرا على أهداف معينة.
وهذا هو ما يُعرف بـ”الاعتدال”. لكن ما هي النتيجة؟ لقد صورت الصحافة الغربية على الفور اعتدال إيران باعتباره علامة على الضعف. وبعيدا عن يؤدي إلى ردع الإسرائيليين، فقد شجعهم ذلك على إطلاق استفزازات جديدة وأكثر وقاحة.
لكن أليس من الغريب أن لا أحد أدان اغتيال إسرائيل للزعيم السياسي لحماس في طهران؟ إن اغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في عاصمة بلد أجنبي، في الحادي والثلاثين من يوليوز، كان عملا من أعمال الحرب. لكن الغرب قابله بالصمت المطبق.
لم تصدر الأمم المتحدة أي قرارات، ولم يتحدث أحد عن فرض عقوبات على إسرائيل، ولم يتم فعل أي شيء على الإطلاق! إن الإسرائيليين، وليس الإيرانيين، هم المتورطون في ارتكاب أعمال عدوانية استفزازية مستمرة، تهدف بوضوح إلى تأجيج الموقف وخلق الظروف المواتية لاشتعال حرب شاملة. لكن هذه الحقيقة لا تذكرها “صحافتنا الحرة” قط.
بل على العكس من ذلك، يتم تصوير إيران باعتبارها المعتدي، وإسرائيل باعتبارها الضحية. إن الجزار، الذي يقطر سكينه بدماء ضحيته، يتم تصوير على أنه هو الضحية، في حين يتم تصوير الحمل باعتباره المعتدي الشرير الذي تسبب بوضوح في قطع حلقه بصراخه المستمر والمزعج!
كلا، أيها السادة! إن الإيرانيين ليسوا المعتدين في هذه الدراما. إنهم لا يرغبون في أن يتم دفعهم إلى حرب مع الولايات المتحدة. ولا يمكن لمثل تلك الحرب أن تكون في مصلحتهم بأي شكل من الأشكال.
الدور الأمريكي
نتنياهو عازم على جر أمريكا إلى حربه مع إيران، وتشير تصرفات الأمريكيين الحالية بوضوح إلى أن حساباته عقلانية تماما. ماذا كان رد فعل واشنطن على تلك الأحداث؟
لقد كان رد فعل جو بايدن على أحداث السابع من أكتوبر متوقعا تماما: فقد قفز على الفور على متن طائرة وطار إلى إسرائيل، حيث احتضن نتنياهو علنا، ووعده بدعم غير محدود ضد حماس. كان هذا بمثابة منحه شيكا مفتوحا، وهي سياسة حمقاء للغاية، وكان على واشنطن أن تدفع الفاتورة لاحقا.
وبما أنه لم يكتف بارتكاب خطأ دبلوماسي واحد، فقد سارع إلى تكراره فور سماعه بالصراع مع إيران. فأصدر بيانا قال فيه: “إن التزامنا بأمن إسرائيل ضد التهديدات من إيران ووكلائها ثابت”.
لقد تم إصدار شيك مفتوح آخر لنتنياهو، والذي وضعه في جيبه بهدوء، عازما على صرفه بالكامل، وهو ما فعله. والآن اضطر جو بايدن إلى دفع المبلغ كاملا.
لقد ألحقت مذبحة المدنيين في غزة أضرارا جسيمة بفرص بايدن الانتخابية، مما أدى إلى تآكل قاعدة دعمه في الدوائر الانتخابية الرئيسية. كما أدى دعمه الشامل لإسرائيل، ورفضه العنيد للدعوة إلى وقف إطلاق نار دائم في غزة، إلى نفور الناخبين المسلمين والشباب.
كما توجد انقسامات عميقة داخل الحزب الديمقراطي. فالإدارة الأميركية منقسمة بين أولئك الذين يرغبون في “التصدي لإيران” وهم حريصون على شن الهجوم عليها، وبين آخرين لم يفقدوا صوابهم تماما، وهم خائفون بحق من العواقب.
والآن تهدد الأزمة في الشرق الأوسط بشكل خطير بقلب عربة كامالا هاريس الانتخابية. الشيء الذي يضع الإدارة الأمريكية أمام مشكلة غير قابلة للحل. كيف يمكن تحقيق التوازن؟
فمن ناحية، تواصل الإدارة (بما في ذلك هاريس) التعهد بتقديم دعم لا ينقطع لإسرائيل. ومن ناحية أخرى، تحاول بشكل يائس منع اندلاع حريق جديد، مع خطر تورط الولايات المتحدة فيه بشكل مباشر.
إن اندلاع حرب واسعة في الشرق الأوسط من شأنه أن يخلف آثارا كارثية على الاقتصاد العالمي (والأميركي)، الذي أصبح مهددا بالفعل بالركود الاقتصادي. وعلاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة لديها قواعد عسكرية في العديد من بلدان الشرق الأوسط والتي هي معرضة للهجوم، مثلها مثل مصالحها الاقتصادية والتجارية العديدة.
لذلك فإن جر الولايات المتحدة إلى صراع إقليمي أوسع في الشرق الأوسط يشكل مقامرة محفوفة بالمخاطر إلى حد كبير. بالنسبة للديمقراطيين، سيكون هذا بمثابة كارثة خطيرة. وسوف تؤدي على الفور إلى إحباط الحملة الرامية إلى تعزيز صورة كامالا هاريس في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية لشهر نوفمبر.
هذا ما يفسر تفاعل واشنطن بذعر مع الأزمة الحالية.
“المفاوضات”
في محاولة يائسة لمنع -أو على الأقل تأجيل- اندلاع حريق في الشرق الأوسط، ضغطت واشنطن على إسرائيل ومصر وقطر وحماس للمشاركة في مفاوضات للتوصل إلى شروط لوقف إطلاق النار في غزة.
جاءت تلك المبادرة من جو بايدن، الذي كان في ذلك الوقت منزعجا بشكل كبير من احتمال خسارة الانتخابات الرئاسية في نوفمبر أمام دونالد ترامب. ورأى أنه إذا تمكن من تحقيق تطور في تلك المفاوضات، فسيكون هناك أمل في أن يُسكِت منتقديه داخل الحزب الديمقراطي والجامعات الأمريكية، ويساعده على الفوز.
في 31 ماي، أعلن بايدن عن مسودة خطة لوقف إطلاق النار في غزة. قبلت حماس بتلك الخطة. لكن نتنياهو طور التلاعب بالمفاوضات وتخريبها إلى مستوى عال. وتكتيكاته هي نفسها دائما. فهو في البداية يصدر تصريحات مضللة، تعني ضمنا أنه توصل إلى اتفاق، لكنه في اللحظة الأخيرة يدوس بحذائه على جميع الإجراءات، ويثير كل أنواع القضايا الجديدة التي يعرف أنها ستضمن الفشل.
هناك كل الأسباب للاعتقاد بأن هذه المرة لن تكون مختلفة. لا يبدو من المعقول أن إسرائيل ستكون جادة في حل الأزمة الإنسانية في غزة، بينما هي تتعمد في نفس الوقت مفاقمة الوضع الإنساني من خلال نشاطها العسكري المستمر.
وحتى عندما كان نتنياهو منخرطا في محادثة ودية مع السيد بلينكن في مكتبه في تل أبيب، فقد صرحت إسرائيل إن طائراتها وقواتها قد “قضت على العشرات من الإرهابيين” خلال اليوم الماضي، ودمرت مجمعات حماس وشبكة أنفاق حيث تم العثور على صواريخ وقذائف.
أفادت وسائل الإعلام الفلسطينية أن ستة أشخاص قتلوا في غارة جوية إسرائيلية بالقرب من نقطة وصول إلى الإنترنت بالقرب من مدينة خان يونس الجنوبية يوم الاثنين، وأن أربعة آخرين قتلوا في غارة على سيارة في مدينة غزة في الشمال. ويستمر عنف المستوطنين القاتل ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية دون هوادة.
أكاذيب بلينكن
أرسل الأميركيون كبير مفاوضيهم، وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، لمحاولة إنقاذ ما يسمى بمحادثات السلام، والتي حذر من أنها “ربما تكون الفرصة الأخيرة” لتأمين اتفاق لوقف إطلاق النار.
والآن، لو أن الولايات المتحدة راغبة بشكل جدي في إجبار إسرائيل على قبول وقف إطلاق النار في غزة، فبوسعها أن تفعل ذلك بسهولة تامة. فأميركا تمول وتدعم حملة الإبادة الجماعية في قطاع غزة. وهي تدعم إسرائيل بما يصل إلى عشرين مليار دولار.
وبدون ذلك الدعم، لن تتمكن إسرائيل من مواصلة الحرب ولو ليوم آخر. لو أن واشنطن راغبة في إنهاء الحرب، فبوسعها أن تفعل ذلك بإصدار تحذير صارم لإسرائيل مفاده أن كل المساعدات سوف تُقطع على الفور، ما لم تقبل بوقف إطلاق النار.
لكنها لم تصدر أي تحذير من هذا القبيل. ولن تصدره. ونتنياهو يدرك هذا جيدا، وبالتالي فهو قادر على الضحك على تلك الكوميديا الدبلوماسية التي يتم تمثيلها لصالحه.
كل التصريحات الصادرة عن الأميركيين والإسرائيليين مدهونة بسخاء بزيت دبلوماسي مهدئ: “هناك مؤشرات واعدة”، “الفارق بين الجانبين قد تقلص”، “احتمال التوصل إلى اتفاق صار أفضل وأكثر إلحاحا من أي وقت مضى”. وهكذا دواليك.
من الطبيعي أن تكون المحطة الأولى التي توقف عندها بلينكن هي تل أبيب، حيث التقى نتنياهو، الذي ناقش معه لمدة ثلاث ساعات. ما الذي تحدثا عنه؟ لا نعرف على وجه اليقين، لأن الأمر برمته كان ملفوفا بغطاء سميك من السرية. لكن يمكننا أن نخمن بشكل جيد إلى حد ما.
سيكون بلينكن قد طرح قضية وقف إطلاق النار. فأبلغه نتنياهو بإسهاب أنه، بينما هو مستعد بالطبع للاستماع إلى أي اقتراح معقول، إلا أن لديه بعض الاقتراحات المفيدة من جانبه، والتي يأمل أن تتم مناقشتها في المفاوضات المستقبلية، حتى يتم التوصل إلى اتفاق كامل بشأن جميع القضايا المتنازع عليها.
كان وزير الخارجية الأمريكي مدركا تماما أن حماس قد أوضحت أنها مستعدة للتوقيع على المقترحات الأصلية التي طرحها الرئيس بايدن في نهاية شهر ماي، ولكن لا يمكن طرح أي مقترحات أخرى جديدة على الطاولة. ومع ذلك فقد استمع بهدوء إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، مثل تلميذ خجول يستمع إلى محاضرة صارمة من مدرس.
في نهاية هذه المحادثة الصغيرة اللطيفة، تم التوصل إلى اتفاق كامل بين ممثل الولايات المتحدة وبين الحكومة الإسرائيلية. وهذا يعني أن الأول قد ابتلع كل ما طرحه الثاني، بينما لم يكلف الثاني نفسه عناء الاستماع إلى أي شيء قاله الأول.
في 19 غشت، أعلن بلينكن أن نتنياهو قد وافق على ما أسماه “اقتراحا أمريكيا مؤقتا” لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة. وأضاف أن الأمر متروك الآن لحماس لكي تعلن موافقتها، على أمل أن تقبله دون احتجاج. فإذا لم تتقبله فإن ذلك سيعني بوضوح أن حماس، وليس أي جهة أخرى، ستكون مسؤولة عن فشل المفاوضات.
من الغريب أن وزير الخارجية لم يكلف نفسه أبدا عناء الكشف عن المحتوى الفعلي للاتفاق مع نتنياهو. من الواضح أن هذا الاتفاق لا يسمح بالمرور إلا في اتجاه واحد! ويقال إن نتنياهو أخبر بلينكن أنه “يخطط لإرسال فريق تفاوضي إلى القاهرة في وقت لاحق من هذا الأسبوع لعقد جولة جديدة من المحادثات” مع وسطاء مصريين وقطريين وأمريكيين.
تبدو هذه الكلمات مشبوهة للغاية. فبادئ ذي بدء، ليس لدينا من دليل على أن نتنياهو قد وافق على أي شيء على الإطلاق سوى كلمة بلينكن. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي فقد ظل صامتا كالقبر بخصوص هذا الموضوع.
إن نوايا نتنياهو واضحة تماما. فمن خلال إدخاله لعناصر جديدة باستمرار إلى المفاوضات، يعتزم إطالتها إلى أجل غير مسمى، أو حتى التسبب في انهيارها، ثم إلقاء اللوم على حماس بسبب عنادها المزعوم. لكن الحقيقة الواضحة هي أن الاتفاق لم تعرقله حماس، بل تعرقله إسرائيل.
وقد اتهمت حماس إسرائيل بإدخال مطالب جديدة وقالت إن وقت التفاوض قد انتهى. وقالت إنها مستعدة لتنفيذ الشروط التي وافقت عليها الشهر الماضي. وهذا هو الحال بالفعل. فبنيامين نتنياهو يخترع باستمرار “خطوطا حمراء” جديدة، بما في ذلك منح إسرائيل الحق في استئناف الحرب.
وهو يصر على ضرورة بقاء القوات الإسرائيلية على حدود غزة مع مصر، لمنع الجماعات المسلحة من تهريب الأسلحة. والواقع أن هذا سيعني استمرار الاحتلال الإسرائيلي لغزة، وهو أمر غير مقبول على الإطلاق بالنسبة لحماس.
يشعر نتنياهو بثقة تامة في أنه سوف يحصل على دعم الولايات المتحدة، لأن هذا ما يحدث دائما. وهو يعلم أن جماعات الضغط القوية المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة سوف تجبر دوما أي شخص في الإدارة الأمريكية على دعم إسرائيل، بغض النظر عن العواقب.
لو لم تكن العواقب خطيرة إلى هذا الحد، لكان الوضع مضحكا. وهذه المهزلة البائسة هي ما يسمى اليوم على أنه دبلوماسية! والعواقب خطيرة للغاية بالفعل.
رد إيران
لقد كان اغتيال إسماعيل هنية نقطة تحول. فقد كشف على الفور عن النوايا الحقيقية للحكومة الإسرائيلية. لو أن إسرائيل كانت تؤمن حقا بالمفاوضات، لماذا أمرت باغتيال هنية؟ فضلا عن ذلك فإن عملية القتل كانت متعمدة بحيث تتزامن مع تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، وهو على ما يبدو عمل كان مخططا له لإحداث أقصى قدر من الإذلال لإيران.
كان هنية كبير المفاوضين باسم حماس في محادثات وقف إطلاق النار. وكان يُنظر إليه عموما على أنه معتدل. من غير المعقول تماما أن يقوم أحد طرفي المفاوضات بهدوء بقتل الممثل الرئيسي للطرف الآخر، ثم يستمر في التفاوض، وكأن شيئا لم يحدث.
وكما كان متوقعا فقد رد الإيرانيون على اغتيال إسماعيل هنية بغضب شديد. ومرة أخرى، تعبأت كل جهود الدبلوماسية الغربية نحو الضغط على إيران لحملها على “ضبط النفس”، أي عدم القيام بأي شيء في مواجهة عمل عدواني شرس للغاية. بينما لم يوجه الغرب كلمة واحدة إلى إسرائيل، المسؤولة عن ذلك العمل العدواني.
انخرط “حلفاء” أميركا (أي أتباعها الخانعون) في الجوقة بطاعة. حيث أصدر قادة فرنسا وألمانيا وبريطانيا بيانا مشتركا، لم يكن موجها إلى إسرائيل، بل إلى طهران، يأمرها بالامتناع عن القيام بأي هجمات انتقامية “من شأنها أن تزيد من تصعيد التوترات الإقليمية”. بينما لم ينطقوا ولو بكلمة واحدة عن الحدث الذي تسبب بالفعل في تلك التوترات -أي اغتيال هنية، وأحد زعماء حزب الله في بيروت-!
ولقد تمت صياغة ذلك البيان بعبارات من شأنها أن تزيد في إثارة غضب الإيرانيين. أجرى رئيس الوزراء البريطاني “العمالي” كير ستارمر والمستشار الألماني أولاف شولتز مكالمات هاتفية مع الرئيس بيزيشكيان، مناشدين إياه بذل كل ما في وسعه لمنع المزيد من التصعيد العسكري.
حث ستارمر الرئيس الإيراني على “التراجع عن تهديداته المستمرة بشن هجوم عسكري”. إن الوقاحة المتغطرسة لهؤلاء السادة لا تصدق حقا. فلنتخيل لو أن الإيرانيين كانوا قد شنوا هجوما صاروخيا لقتل شخصية أجنبية تزور لندن في نفس يوم التتويج!
قال السيد بيزشكيان للسير كير إن دعم البلدان الغربية لإسرائيل هو الذي شجعها على الاستمرار في فظائعها، وإن هذا هو الذي يهدد السلام والأمن في المنطقة.
وأضاف بيزشكيان أنه “من وجهة نظر الجمهورية الإسلامية الإيرانية ليست الحرب في أي جزء من العالم في مصلحة أي بلد، وأشار بشكل صحيح إلى أن الرد العقابي على المعتدي هو حق قانوني للدول ووسيلة لوقف الجريمة والعدوان”. وهذا هو الحال بالفعل.
إن الهجوم الإسرائيلي كان عملا حربيا بكل معاني الكلمة، وكان يستحق ردا حازما. ولنتذكر التسرع الأهوج الذي تصرفت به أميركا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا بإعلانها على الفور عن دعم “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” بعد هجوم السابع من أكتوبر.
من الواضح أن إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن نفسها بأكثر الوسائل إجراما في كل الأوقات وفي كل الظروف. لكن الدول التي تتعرض للهجوم من طرف إسرائيل لا تمتلك أي حقوق على الإطلاق، باستثناء الحق في ضم الأذرع والابتسام وعدم فعل أي شيء، وبالتالي دعوة إسرائيل إلى شن العدوان التالي.
ومن الطبيعي إذن أن ترفض وزارة الخارجية الإيرانية الدعوة إلى ضبط النفس من جانب لندن وباريس وبرلين وتواجهها بالازدراء الذي تستحقه. وقال المتحدث باسم الوزارة ناصر كنعاني: “إن مثل هذه المطالب خالية من المنطق السياسي، وتتناقض تناقضا تاما مع مبادئ وقواعد القانون الدولي، ومبالغ فيها”.
لا شك أن هناك آراء مختلفة في طهران بشأن أفضل السبل للرد على هذا العدوان. وعلى النقيض من التأكيدات المستمرة التي تطرحها وسائل الإعلام الغربية بأن إيران تشكل التهديد الرئيسي للسلام في الشرق الأوسط، فإن الإيرانيين لا مصلحة لهم على الإطلاق في خوض حرب مع إسرائيل، فبالأحرى مع الولايات المتحدة.
لقد استجابوا في مناسبات سابقة لطلبات الاعتدال. وأظهروا ضبط النفس، كما رأينا. لكن إلى أين سيقودهم هذا؟ لقد شجع الإسرائيليين على شن المزيد من الهجمات، ولذلك فقد توصلوا إلى الاستنتاج الحتمي بأن الاعتدال وضبط النفس في مواجهة العدوان الجامح ليسا عديمي الفائدة فحسب، بل إنهما يؤديان إلى نتائج عكسية.
إن الشيء الوحيد الذي قد يقنع الإيرانيين بعدم شن هجوم على إسرائيل، هو تنظيم مفاوضات ناجحة لوقف إطلاق النار في غزة. لكن وبما أن هذه النتيجة تتعارض مع نوايا السيد نتنياهو، فمن غير المرجح أن تنجح.
ونكرر: إن نتنياهو عازم على اشعال حرب مع إيران من شأنها أن تتوسع إلى حرب أوسع نطاقا في مختلف أنحاء المنطقة، وتجر قوى أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا هو هدفه، ولن يثنيه عن ذلك أي شخص أو أي شيء.
إن الإيرانيين سوف يجرون حساباتهم الخاصة، وسوف يلجأون عاجلا أم آجلا إلى العمل. لكن هذه المرة لن تكون هناك قيود أو تحذيرات مسبقة.
كيف تعمل أميركا على “خفض التصعيد”
في حين تطلب أميركا وحلفاؤها من طهران نهج سياسة الاعتدال وضبط النفس، فإنهم لا يفعلون شيئا لكبح جماح أصدقائهم في القدس لوقف أعمالهم العدوانية أو مذبحتهم المستمرة ضد سكان غزة.
وبينما يناشدون الإيرانيين عدم القيام بأي شيء من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من التصعيد، ويؤدي حتما إلى صراع مسلح، فإنهم يسلحون أنفسهم ويشحنون كميات هائلة من الأسلحة إلى الشرق الأوسط. وهذا يعادل صب البنزين على النيران، التي كانت مشتعلة بالفعل بشكل جيد حتى دون مساعدتهم.
حذرت الولايات المتحدة من أنها تستعد لـ”مجموعة كبيرة من الهجمات” من قبل إيران أو وكلائها في أقرب وقت من هذا الأسبوع، وعززت وجودها العسكري في الشرق الأوسط “للمساعدة في الدفاع عن إسرائيل”. يا للمفاجأة! لقد صرنا الآن نعرف الأغنية، ونعرف كلماتها أيضا.
وأعلنت أنها أمرت بنشر غواصة يو إس إس جورجيا -وهي غواصة تعمل بالطاقة النووية وصواريخ موجهة- في الشرق الأوسط.
كما أصدر الجيش الأمريكي تعليمات لمجموعة حاملة الطائرات يو إس إس أبراهام لينكولن الضاربة بالإسراع إلى المنطقة، في حين كانت مجموعة حاملة الطائرات يو إس إس ثيودور روزفلت في خليج عمان. كما حلقت طائرات مقاتلة إضافية من طراز إف-22 إلى المنطقة، بينما تتواجد يو إس إس واسب، والتي هي سفينة هجومية برمائية كبيرة تحمل طائرات مقاتلة من طراز إف-35، في البحر الأبيض المتوسط.
وهذا ما تسميه واشنطن بـ”تجنب التصعيد”! من المستحيل أن نتصور استفزازا أكثر وقاحة ضد الإيرانيين، الذين من المفترض على النقيض من ذلك أن يجلسوا بهدوء وأذرعهم مضمومة.
وعلاوة على ذلك فقد أعلن الإسرائيليون مؤخرا أن بعض أقرب حلفاء أميركا (إقرأ: “خدامها”) من المتوقع أن ينضموا إلى القتال إلى جانب إسرائيل، بمجرد اندلاع الحرب. وقد تم حذف هذا البيان على عجل من الإنترنت، لكنه، بقدر ما أتذكر، يشمل بريطانيا وفرنسا.
كل هذا، بالطبع، سيكون خبرا جديدا لشعبي بريطانيا وفرنسا، اللذين، مثلهم مثل شعوب بقية العالم، يتم إبقاؤهما في الظلام التام بشأن خطط دعاة الحرب.
خطر اندلاع حرب أوسع نطاقا
إن لبنان لديه أسباب وجيهة للغاية لعدم الذهاب إلى الحرب. فاقتصاده هش بالفعل. لم يكد يتعافى من حرب 2006 مع إسرائيل، ومن المؤكد أن تجدد الصراع على نطاق واسع من شأنه أن يخلف تأثيرا مدمرا على البنية الأساسية للبلد وشعبه.
ومع ذلك فإن التهديد المباشر يتمثل في اندلاع حرب بين إسرائيل ولبنان. والواقع أن الدولتين هما في حالة حرب بالفعل. فقد أسفر تبادل إطلاق النار اليومي عبر الحدود، بين القوات الإسرائيلية وبين الميليشيا الشيعية المدعومة من إيران، حزب الله، عن مقتل المئات بالفعل، أغلبهم في لبنان.
وقد اضطر أكثر من ستين ألف إسرائيلي إلى ترك منازلهم وسبل عيشهم في الشمال، فضلا عن عدد أكبر من الناس على الجانب اللبناني. وتتزايد الضغوط المحلية على الحكومة الإسرائيلية “للتعامل” مع حزب الله من خلال دفع قواته إلى الشمال من نهر الليطاني في لبنان، حيث تقل احتمالات إطلاق الصواريخ على إسرائيل.
أما حزب الله، من جانبه، فمن المرجح أن يرد على أي هجوم إسرائيلي وغزو كبير بقصف كثيف ومتواصل بالصواريخ والطائرات المسيرة والتي من المحتمل أن تخترق دفاعات القبة الحديدية الجوية الإسرائيلية. ولا يوجد مكان في إسرائيل بعيد عن متناوله.
عند تلك النقطة من المؤكد أن البحرية الأميركية، المتمركزة قبالة الساحل، ستنضم إلى جانب إسرائيل. وسوف تنجر إيران حتما إلى الصراع. والتي هي قوة هائلة يجب أخذها بالحسبان. فهي تمتلك ترسانة كبيرة من الصواريخ الباليستية، فضلا عن شبكة من الميليشيات بالوكالة في العراق واليمن وسوريا، والتي يمكن تعبئتها لتكثيف هجماتها على إسرائيل.
فليسقط دعاة الحرب!
هناك بعد آخر لهذه المعادلة المعقدة بالفعل، وهو البعد الذي نادرا ما يتم التعليق عليه في وسائل الإعلام الغربية. ففي الأسابيع الأخيرة، انخرط المسؤولون الروس في مناقشات مع إيران.
تظل روسيا واحدة من الموردين الدوليين القلائل للأسلحة المتقدمة الذين هم على استعداد للتعامل مع إيران. وقد استخدم الروس الطائرات المسيرة الحاملة للقنابل الإيرانية الصنع في حربهم على أوكرانيا.
لقد قام سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، سيرجي شويغو، مؤخرا بزيارة طهران. ولا شك أن هذه الزيارة كانت مخططا لها منذ فترة. لكن في ظل هذه الظروف، كان من المستحيل تجاوز حادثة اغتيال هنية.
ومن المحتم أن تتناول تلك المحادثات مع الحكومة الإيرانية مسائل كثيرة جدا، وخاصة تلك المتعلقة بالتعاون العسكري بين طهران وموسكو. فقد زاد التعاون بين الدولتين بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة. وهذا من شأنه أن يخلف عواقب وخيمة على أي صراع مقبل في المنطقة.
ومن جانبها، عملت الصين بهدوء على بناء نفوذها في الشرق الأوسط. ففي العام الماضي، توسطت في صفقة للتوصل إلى اتفاق بين إيران والمملكة العربية السعودية، والذي أدى إلى حدوث انفراج في العلاقات بين البلدين، الأمر الذي أدى فعليا إلى تدمير خطط واشنطن لإحداث التقارب بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل.
وفي يوليوز، استضافت الصين، رغم استياء واشنطن الشديد، حفل توقيع اتفاق بين حماس وفتح، التي تعتبر القوة الرئيسية في السلطة الفلسطينية المدعومة من الولايات المتحدة في الضفة الغربية المحتلة. كما شددت الصين موقفها فيما يتعلق بإسرائيل، حيث انتقدتها علنا بسبب سلوكها في الحرب، وذلك بدلا من اتباع نمطها المعتاد في الدعوة إلى ضبط النفس من جانب جميع الأطراف.
لكن وقت ضبط النفس ينفذ بسرعة. وسوف يكون للصين أيضا دور تلعبه في أي صراع مستقبلي. إن كل هذه العناصر تتحد الآن لإنتاج كوكتيل شديد الانفجار. وبمجرد أن تبدأ السيرورة، سيكون من الصعب التنبؤ بكيفية انتهائها.
إن ملايين الناس في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة يعيشون في حالة من الجهل السعيد، في حين تتجمع غيوم الحرب القاتمة فوق الشرق الأوسط. وسوف تشعر العديد من البلدان البعيدة عن مسرح الأحداث بآثار الصراع الأوسع نطاقا.
إن السياسات الإجرامية للإمبريالية -وخاصة الإمبريالية الأميركية، التي تعتبر القوة الأكثر شراسة ورجعية على هذا الكوكب- هي التي تجر العالم بأسره إلى مسار لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الدمار الشامل والمعاناة والموت لملايين البشر.
إن ما يسمى بـ”الصحافة الحرة” تلعب دورا إجراميا، فهي تكذب بشكل منهجي، وتتلاعب بالحقائق، وتخفي التطورات المهمة عن أعين الجمهور. وعلى هذا النحو، فإن النضال ضد الحرب والعسكرة يصبح باهتا بسبب سحابة كثيفة من الجهل والتضليل.
لكن أسوء دور على الإطلاق هو ذلك الذي يلعبه ما يسمى بـ”اليسار”، الذي فقد أي أثر للوعي الطبقي أو الروح الكفاحية وصار يلعب دورا بائسا، حيث يتشبث باستمرار بأذيال القادة الإصلاحيين اليمينيين، مثل ستارمر، الذين باعوا، منذ فترة طويلة، أرواحهم للشيطان، وقفزوا إلى عربة دعاة الحرب الإمبرياليين.
لقد حان الوقت لدق ناقوس الخطر!
لا مزيد من المغامرات الخارجية!
ناضلوا ضد دعاة الحرب!
فليسقط حلف شمال الأطلسي والإمبريالية الأمريكية!
لا مزيد من الأسلحة أو المساعدات لنتنياهو أو لزيلينسكي!
العدو الحقيقي موجود في الداخل!
يا عمال العالم اتحدوا!