كان من المفترض أن يكون الانقلاب الذي شنه اللواء عبد الفتاح البرهان، يوم الاثنين الماضي، بمثابة استيلاء سريع وحاسم على السلطة من قبل المجلس العسكري الانتقالي. لكن مدبري الانقلاب لم يأخذوا بالحسبان قوة الشعب الثوري الذي انتفض بمئات الآلاف وشن احتجاجات وإضرابات في جميع أنحاء البلاد لمنع أي عودة للحكم العسكري. تم استيعاب العديد من الدروس منذ انتفاضة عام 2019، التي لم تُهزم بالكامل. لقد تمكنت الجماهير من دفع الجيش إلى طريق مسدود، وعليها الآن أن تحقق النصر.
[Source]
مباشرة بعد اختطاف رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وزوجته وحل الحكومة الانتقالية بمرسوم عسكري يوم الاثنين، أصدر تجمع المهنيين السودانيين والحزب الشيوعي السوداني دعوات للاحتجاجات والعصيان المدني في جميع أنحاء البلاد، كما دعا الأخير إلى خوض إضراب سياسي. كان هناك رد فوري وهائل من جانب الجماهير التي نزلت إلى الشوارع للتصدي للانقلاب. احتشد معظم المتظاهرين في الخرطوم، لكن كانت هناك أيضا حشود غفيرة في بحري وأم درمان وعطبرة ودنقلا والأبيض وبورتسودان والجزيرة والفاشر ومدني وولاية البحر الأحمر، حيث قام المتظاهرون ببناء المتاريس وحرق إطارات العجلات لخلق ستار دخان من أجل حماية أنفسهم من قوات الأمن.
كما استجابت المنظمات العمالية بدورها للنداء، حيث نظمت 20 نقابة وهيئة مهنية على الأقل إضرابات. تلك المنظمات تمثل الأطباء والصيادلة وموظفي القطاع العام والمهندسين وعمال المناجم والأساتذة الجامعيين ومعلمي المدارس وعمال صناعة الأغذية. كما أعلنت نقابة الربابنة عن خوضها لإضراب وأوقفت الرحلات الجوية لكل من شركة الطيران الوطنية والخطوط الجوية السودانية، وكذلك شركات الطيران المحلية بدر وتاركو. وأعلن عمال شركة النفط الحكومية سودابت أنهم سينضمون إلى الحركة، وتبعهم عمال قطاع البترول بأكمله. كما أضرب عمال السكك الحديدية في عطبرة وانضموا إلى الاحتجاجات، وكذلك موظفو البنك المركزي. بالإضافة إلى ذلك أغلقت المقاولات الصغيرة في جميع أنحاء البلاد أبوابها تضامنا مع حركة المقاومة. انطلقت العديد من هذه الإضرابات والإغلاقات بشكل عفوي من الأسفل، وليس استجابة لنداء أي قيادة وطنية.
الجماهير تواجه القمع
باستخدام غطاء التعتيم على الإنترنت، أطلق المجلس العسكري الانتقالي هجوما على الجماهير بواسطة قوات قمعية معظمها من قوات الدعم السريع الرهيبة، المكونة من ميليشيات الجنجويد القبلية بقيادة الجنرال الرجعي حميدتي. وخلال تلك اللحظات الوجيزة من الاتصال بالإنترنت، بدأت تتسرب من السودان مقاطع فيديو لمسلحين يمارسون العنف الوحشي ضد المتظاهرين، وللجثث التي خلفوها وراءهم. كما أظهرت أحد مقاطع فيديو قوات الدعم السريع وهي تجتاح سكنا جامعيا خاصا بالنساء وتهاجم قاطناته. ويظهر وجه الشابة، التي صورت الفيديو ونشرته، مليئا بالكدمات وملطخا بالدماء، بينما يندلع الصراخ والصياح حولها.
أفاد الطيب محمد أحمد، وهو ناشط من الخرطوم، في مقابلة عبر الإنترنت مع [منظمة] Democracy Now أن قوات الأمن تقتل المتظاهرين بشكل عشوائي. قال: «لقد أطلقوا قنابل الصوت، ثم أطلقوا الذخيرة الحية. مات شخصان. رأيتهم بأم عيني. ثم عادوا مرتين متتاليتين وقتلوا شخصا آخر. كان هو الثالث الذي رأيته». كما وصف أحد أطباء الجراحة في الخرطوم أسرة المستشفيات التي امتلأت بالعشرات من الضحايا الذين أصيب العديد منهم بجروح بليغة لدرجة أنهم لن يتمكنوا أبدا من المشي مجددا. وقال: «كان من المقصود أن تكون معظم الإصابات مميتة. لقد أطلقوا النار على الناس أو ضربوهم في رؤوسهم أو صدورهم». وأضاف: «بعض الحالات التي وردت علينا كانت حرجة للغاية. لم يكن هناك ما يمكننا القيام به من أجلهم».
يوم الاثنين مشى متظاهر، يبلغ من العمر 17 عاما، 15 كيلومترا من منزله في جنوب الخرطوم للوصول، مع آلاف المتظاهرين الآخرين، إلى مقر المجلس العسكري. وعندما وصلوا إلى هناك ، كانت قوات الدعم السريع في انتظارهم، وأجبرتهم على العودة، وأطلقت النار على ذلك المتظاهر وأصابته في عموده الفقري. صرح قائلا: «كنا نهرب وواصلنا الركض. لكني بعد ذلك أصبت بطلقة نارية ورأيت كثيرين آخرين يسقطون، من بينهم رجل مسن سقط قتيلا». وتم إلقاء القبض على شاب آخر في نفس المظاهرة وضربه بالعصي من قبل عصابة مكونة من ثمانية أفراد أمن إلى أن فقد وعيه. كما حلقوا رأسه إمعانا في الإهانة.
وفي الخرطوم شوهد قناصة، متربصون فوق مبان، وهم يطلقون النار على مدنيين عزل، بينهم أطفال، في المتاريس. وعندما أزال المتظاهرون حواجزهم للسماح لسيارات الإسعاف بالمرور، انطلقت شاحنة يقودها أحد رجال الميليشيات نحو الحشد، مما أسفر عن مقتل شخص واحد، بينما بدأ الجنود في إطلاق النار وإخراج المسعفين من سيارات الإسعاف. وقال الجراح في الخرطوم إن جنود قوات الدعم السريع اقتحموا مستشفاه وطالبوا العاملين بتسليم أي متظاهرين متواجدين هناك. قال: «بالطبع رفضنا. إلا أنهم استخدموا أسلحة ثقيلة لترويعنا بما في ذلك دوشكا [رشاش DShK روسي الصنع]. كان على المرضى الاختباء تحت الأسرة والمقاعد. وبعض الرصاصات وصلت الى أبواب المستشفى». ووقت كتابة هذا المقال لقي سبعة متظاهرين آخرين مصرعهم في الخرطوم، مع احتمال زيادة عدد الضحايا في مناطق أخرى.
لكن على الرغم من هذا القمع الهمجي فإن الجماهير ترفض التراجع. بل على العكس من ذلك، حيث أن سوط الردة الرجعية يدفعهم إلى الأمام. ذكرت رويترز اليوم أن رجال الميليشيات المسلحة قاموا بإزالة الحواجز، فقامت مجموعات من الشباب بإعادة بنائها بعد بضع دقائق فقط. قال أحد المتظاهرين الشباب: “نريد حكما مدنيا. لن نتعب”. وفي جميع أنحاء السودان يحتج الناس وينظمون اعتصامات ويهتفون “فليسقط النظام العسكري!” و”مدنية!” (أي حكم مدني). ويؤكد أحد أهم الشعارات -“لا تراجع!”- على فهم الجماهير لما تعنيه العودة إلى الديكتاتورية العسكرية، وضرورة شن نضال ثوري لمنع ذلك بأي ثمن. وكما في عام 2019، كانت النساء -اللواتي يواجهن قمعا مروّعا في السودان- في طليعة هذه الحركة وكن بارزات في مقدمة المظاهرات.
لقد تعلمت الجماهير العديد من الدروس من تجربة ثورة 2019، وهي تطبقها في تنظيمها الذاتي العفوي. قال أحمد: «أعتقد أنه خلال العامين الماضيين… [نشأت] بيئة سياسية دينامية للغاية في البلاد، حيث نزل الناس إلى الشوارع أكثر مما ذهبوا إلى المدارس والجامعات. يتواصل المتظاهرون مع بعضهم البعض. الإنترنت معطل. والاتصال الهاتفي ضعيف للغاية. أعتقد أن شبكة واحدة فقط هي التي تعمل. لكن ورغم ذلك فإن الناس ينتقلون من باب إلى باب، ويتحدثون مع بعضهم البعض، كما تعلمون، ويشجعون بعضهم البعض على النزول إلى الشوارع. تذكروا أنه لم تكن لدينا وسائل التواصل الاجتماعي ما بين دجنبر 2018 وأبريل 2019. لم يكن لدينا إنترنت بالكامل لأكثر من ثلاثة أسابيع بعد مذبحة شهر يونيو 2019. لذلك لم يطور الناس المرونة فحسب، بل طوروا أيضا مهارات الاتصال بما يتجاوز التكنولوجيا».
يحاول الجيش قطع الاتصال بين النشطاء وترهيب من يتحدثون. أفادت وسائل إعلام محلية عن أن نشطاء في الأبيض كانوا يعارضون تصريحات البرهان الإعلامية، لكنهم تعرضوا بعد ذلك مباشرة للاعتقال. لذلك بدأ المتظاهرون يحذرون بعضهم البعض لتجنب التحدث إلى وسائل الإعلام الرسمية. وأفاد ناشط على الأرض أن اللجان المحلية أعطت أوامر بمواصلة مشاركة الصور ومقاطع الفيديو للأحداث عبر الإنترنت، خلال فترات انقطاع الإنترنت، ونشر المعلومات داخل السودان بالوسائل المباشرة. «[انقطاع الإنترنت] لم يوقفنا من قبل، ولن يوقفنا الآن. نذهب من باب إلى باب ونمرر المنشورات من تحت الأبواب، وفي بعض المناطق خلف الحواجز، يقوم الناس، إذا كان الوضع آمنا، بعقد حلقات تثقيفية في المساء».
ازدواجية السلطة
يتم تنظيم هذه الحلقات من قبل لجان مقاومة الأحياء. تشكلت هذه الهيئات عضويا على يد الطبقة العاملة السودانية خلال ثورة 2019. وعلى الرغم من محاولات الجيش ترهيبها وتدميرها -من خلال اعتقال وقتل نشطاء بارزين، مثل محمد إسماعيل ود عكر في ماي 2021- فإنها استمرت في العمل في ظروف سرية. لقد تطورت إلى ما هو أبعد من مجرد تنظيمات في الأحياء، إذ ارتبطت على المستوى الإقليمي لتشكيل لجان المقاطعات، كما يتضح من مجلس المقاومة في أمبدة، ومجلس المقاومة الشرقي في الخرطوم، ومجلس المقاومة في كراري. ونتيجة لهذا العمل السري، تمكنت تلك الهياكل الجاهزة من التحرك بسرعة إلى العمل عندما شن الجيش انقلابه. بعضها قوي بما يكفي ليصبح فعليا حكومة محلية ويمنع القمع من قبل الجيش. أفاد مجلس المقاومة في أم درمان، على سبيل المثال، أنه لم تحدث أي اعتقالات وأن المدينة ما تزال تحت سيطرته.
وفي حلقات النقاش التي تنظمها هذه اللجان، تخطط الجماهير لاستراتيجية الارتباط بالحركة العمالية في كفاحها ضد الانقلاب. ومن المقرر تنظيم “مسيرة الملايين” إلى جانب إضراب عام يوم السبت [30- 10- 2021]. وقد تم إلقاء الكلمة التالية في اجتماع عقد في عطبرة:
رفع مستوى الوعي مهم، وهي مهمتنا جميعا، من الأصغر سنا إلى الأكبر سنا. لقد وحدت الثورة الجميع بدافع الضرورة، صغارا وكبارا، وذوي الخبرة وعديمي الخبرة، جميعنا واحد عندما نكون في الشوارع. لقد خرجنا جميعا للدفاع عن ديمقراطيتنا المدنية… وقد أعلنت الهيئات المهنية ونقابات العمال في وادي النيل، وغيرها من المنظمات الحكومية المحلية، أنها ستنضم إلى العصيان المدني. نحن، الثوار، سنراقب هذه الإضرابات، وسنتظاهر ابتداء من الساعة الثامنة صباحا، وسنذهب إلى تلك المنظمات، واحدة تلو الأخرى، فإذا لم يكونوا قد انخرطوا في الإضراب، سوف نتأكد من قيامهم بالإضراب. هذا لجميع الشعب الذي سيخرج يوم السبت، وسنواصل هنا في عطبرة. وكما علمنا البشير وعصابته درسا، فإننا سنعلم البرهان وعصابته درسا أيضا. سنخرج إلى الشوارع في ذلك اليوم، وحتى ذلك الحين سنلقي هذه الخطب في الليل، كل ليلة.
تظهر هذه الأنشطة الإبداع والقدرات التنظيمية التي تمتلكها الجماهير التي خرجت أكثر قوة وأكثر حكمة بعد العديد من موجات المد والجزر خلال ثورة 2019. وجه تجمع المهنيين السودانيين الآن دعوة على الصعيد الوطني لهذه اللجان لكي تعمل على توسيع صفوفها؛ وتنظيم هيئات لجمع الأموال؛ واكتساب الموارد والخبرات الطبية؛ وإقامة الهيئات المسؤولة عن الصيانة والاتصالات والأمن. يجب تطوير هذه الهيئات وتعميمها.
لقد شهدنا بالفعل ظهور التنسيق على المستوى الإقليمي. يجب أن يتم توسيع هذا الآن إلى المستوى الوطني ويجب دمج النقابات العمالية وجميع المنظمات الثورية الأخرى فيها. قد ينشأ عن هذا وضع ازدواجية السلطة، استعدادا لمواجهة حاسمة بين المجلس العسكري الانتقالي الرجعي، الذي يمثل نظام البشير القديم، وبين اللجان التي تمثل الثورة. كما يجب على هذه الهيئات أيضا أن تعمل بشكل عاجل على إنشاء لجان للدفاع عن النفس وتنظيم حملة منهجية لكسب الجنود العاديين. لن تدخر قوى الثورة المضادة، التي تقودها قوات الدعم السريع، أي وسيلة لحماية مصالحها. الطريقة الوحيدة لضمان عدم وقوع مجزرة أخرى هي إعداد الناس للدفاع عن أنفسهم بطريقة منضبطة وبالأسلحة في أيديهم.
من الواضح أن مدبري الانقلاب قد هزهم حجم المعارضة الجماهيرية. بالأمس تم إطلاق سراح حمدوك للعودة إلى منزله، رغم أنه ما يزال تحت الحراسة؛ وألقى البرهان خطابا تلفزيونيا ثانيا استخدم فيه نبرة أكثر دفاعية. زعم أن الانقلاب كان ضروريا لمنع اندلاع حرب أهلية، نظرا للمأزق بين الجناحين العسكري والمدني داخل الحكومة الانتقالية. وذكر أن المبعوث الأمريكي، جيفري فيلتمان، فشل في التوسط لتوقيع اتفاق بين جناحي الحكومة، مما يؤكد أن الإمبريالية الأمريكية إما كانت على علم بأن الانقلاب على وشك الحدوث، أو أنها اقتنعت بوعود الجيش الكاذبة. وكرر التزام الجيش بالانتقال الديمقراطي من خلال انتخابات تجرى عام 2023، وقال إن حالة الطوارئ ستنتهي قريبا. كما وعد بإطلاق سراح الوزراء والسياسيين “الأبرياء” المعتقلين قريبا، على الرغم من أن بعضهم سيواجه المحاكمة لمحاولة “التحريض على التمرد داخل القوات المسلحة”.
هذا التعليق الأخير يفضح ربما عاملا مهما في الوضع، وهو: وجود الانقسامات داخل القوات المسلحة. في عام 2019 تعاطف قسم كبير من الجيش النظامي مع الثورة. كان هناك قدر كبير من التآخي بين الجنود العاديين وبين لجان المقاومة في الأحياء. وعلى الرغم من صعوبة التأكد فإنه يبدو أن معظم حملات القمع الذي يحدث حاليا في السودان يتم تنفيذه من قبل قوات الدعم السريع، وليس القوات النظامية. وفي حين أن الجيش النظامي يتكون إلى حد كبير من الشباب العاديين الذين تم تجنيدهم من أصول فقيرة والطبقة العاملة والفلاحين، فإن قوات الدعم السريع هي منظمة مرتزقة يتم تمويلها غالبا عن طريق نهب وترهيب المناطق الواقعة تحت سيطرتها. وحقيقة أن البرهان يعتمد على قوات الدعم السريع لمحاربة الثورة، يكشف أنه لا يثق في الجنود العاديين.
يمكن للجماهير الثائرة استغلال هذه الانقسامات الطبقية داخل قوات الأمن. يجب نهج سياسة التآخي على وجه السرعة بمجرد ما يظهر أي تعاطف واضح بين صفوف الجنود العاديين. وأحد الأسباب الرئيسية لعدم الإطاحة بالمجلس العسكري الانتقالي من السلطة في عام 2019 هو أن تجمع المهنيين السودانيين فشل في توجيه الدعوة للجنود العاديين بأن يلتحقوا بالثورة. يجب عدم تكرار هذا الخطأ، ويجب القيام بهذا العمل على الأرض من طرف الجماهير وتنظيمه عبر لجان المقاومة.
على أية حال يبدو أن المبادرة بدأت تفلت من أيدي مدبري الانقلاب. بقيت أقسام من الحكومة المدنية على حالها، على الرغم من إعلان البرهان حل مجلس السيادة الحاكم. يوم الثلاثاء، أعلنت وزيرة الخارجية، مريم المهدي، أنها وأعضاء آخرين في إدارة حمدوك ما زالوا يمثلون السلطة الشرعية في السودان، وسيواصلون “العصيان والمقاومة السلميين”. كما أقال البرهان سفراء السودان لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين وقطر وفرنسا وجنيف بعد أن عارضوا استيلاءه على السلطة.
قوبل الانقلاب بإدانة متوقعة من قبل “المجتمع الدولي”، ممثلا بالأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، والذين قاموا جميعا بتعليق المساعدات، وهددوا بمزيد من العقوبات وطالبوا بالانتقال إلى الحكم المدني. كما علق الاتحاد الأفريقي عضوية السودان. في حالة فشل الانقلاب ستنسب وسائل الإعلام البرجوازية الفضل في ذلك بالطبع إلى “الضغط الدولي”، لكن ذلك هراء. لقد كانت الحركة الهائلة للجماهير السودانية هي التي أجبرت البرهان على التراجع.
لكن حتى “حلفاء” البرهان المفترضون أداروا ظهورهم له. عبرت جامعة الدول العربية (وهي هيئة تتبع في الغالب خط الحكومة المصرية، التي هي نفسها ديكتاتورية عسكرية في عهد عبد الفتاح السيسي) عن رفضها للانقلاب، بينما لم تقل الإمارات والسعودية شيئا حتى الآن. هذه الأنظمة الرجعية لا تحب الثورة السودانية ولا تعارض الديكتاتورية العسكرية من حيث المبدأ، لكن يمكنهم أن يروا أن البرهان قد أخطأ التقدير بشكل سيئ من خلال شنه لهذا الانقلاب بشكل سابق لأوانه. إن أكثر ما يخيف هؤلاء الناس هو حقيقة أن الانقلاب يعيد النشاط للثورة السودانية، الأمر الذي يهدد بإلهام العمال في جميع أنحاء إفريقيا والعالم العربي للنزول إلى الشوارع ضد حكامهم الديكتاتوريين. ليس من المستغرب أنهم لا يريدون أن تكون لهم أي علاقة بانقلاب البرهان، المعزول بشكل متزايد.
يعكس توقيت الانقلاب حقيقة أن البرهان كان يقترب من الموعد النهائي لتسليم رئاسة مجلس السيادة إلى حمدوك في نهاية أكتوبر، على النحو المنصوص عليه في اتفاقية تقاسم السلطة التي أبرمتها الحكومة الانتقالية. من الواضح أن الجيش لم يكن ينوي التنازل عن السلطة للساسة المدنيين. وإحدى نتائج ذلك ستكون هي الإسراع بتسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية، الشيء الذي عارضه بشدة كل من البرهان وحميدتي، اللذين يريدان محاكمته في السودان، ربما خوفا من أن يفضح تورطهما في الفظائع التي ارتكبت خلال حرب دارفور في عام 2003، حيث قُتل ما يصل إلى 500 ألف شخص.
وعلاوة على ذلك فإنه مع وجود حمدوك رئيسا للدولة، كان التحقيق في المذبحة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع ضد الثوار في يونيو 2019 ، على جدول الأعمال، وهو ما من شأنه بلا شك أن يضع مسؤولية المذبحة مباشرة على كاهل البرهان وحمديتي. لطالما اعتاد القادة العسكريون الرجعيون حكم البلاد دون معارضة، ونهب ثرواتها والسيطرة على شعبها دون عقاب. لكن ثورة 2019 هددت بوقف ذلك، لكنها لم تسر حتى النهاية. إن الجنرالات مصممون على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وليسوا مستعدين للتسامح مع أي تسوية مع الثورة. لم يعمل اتفاق تقاسم السلطة إلا على تمكينهم من كسب الوقت وانتظار الفرصة الملائمة لاستعادة السيطرة.
فلنهزم المجلس العسكري! من أجل الديمقراطية! من أجل الاشتراكية!
كان البرهان يعول على تناقص شعبية السياسيين المدنيين، الذين نفذوا برنامج تقشف وحشي بأمر من الدائنين الإمبرياليين. في الواقع شهدت الخرطوم أسابيع من الاحتجاجات والاعتصامات، خلال الفترة التي سبقت الانقلاب، للمطالبة بتنفيذ انقلاب عسكري لاستعادة النظام ومعالجة إخفاقات الحكومة في القضاء على الجوع والفقر في السودان. وفي حين تم دعم هذه الاحتجاجات وتشجيعها من قبل الجنرالات، فإنها تعكس مع ذلك شعور الشريحة الأكثر تخلفا من السكان، التي أصيبت بالإحباط وفقدان الأمل بسبب عدم وجود أي تقدم أو إصلاح بعد الثورة. لكن ذلك قوبل باحتجاجات أكبر بكثير مؤيدة للديمقراطية، شارك فيها عشرات الآلاف حتى قبل الانقلاب. ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من كفاحهم الحازم ضد الانقلاب ، فإن العديد من المتظاهرين يدركون تماما نواقص السياسيين المدنيين الذين تقاسموا السلطة مع الجيش منذ عام 2019. صرح أحمد لمنظمة Democracy Now قائلا:
كان لدى الجميع تقريبا مشاكل مع الحكومة… لكن وعلى الرغم من الانتقادات المشروعة تجاه الحكومة الانتقالية، بما في ذلك المدنيين، فإن معظم السودانيين سيرفضون، وهم يرفضون، عودة الجيش… الشيء المهم بالنسبة لمعظم السودانيين، وخاصة الشباب، بعد ثورة 2019، هو رؤية الانتقال إلى حكومة مدنية كاملة وتنظيم الانتخابات. ضعوا في اعتباركم أن هذا يأتي بعد 30 عاما من الحكم الاستبدادي لحكومة عمر البشير… وفكرة أننا نعيد عقارب الساعة إلى الوراء، بعد شهور من الاحتجاجات التي أسقطت 30 عاما من الحكم الاستبدادي، هو شيء أعتقد أن أغلب السودانيين لن يقبلوه.
وعلى الرغم من أن البرهان حاول أن ينأى بنفسه عن “العمل القذر” الذي قامت به قوات الدعم السريع خلال شن حرب معادية للثورة عام 2019 ، فإن الجماهير لم تنطل عليها هذه الحيلة. قال عثمان ميرغاني، وهو صحفي مقيم في الخرطوم: «كان البرهان مسؤولا لأنه كان القائد، الأمر بهذه البساطة. كان قد وعد بعدم المساس بالاعتصام ثم حدثت مجزرة. ومنذ تلك اللحظة أدرك الناس أنه لن يفي بوعوده».
وبالفعل فإن أغنية برهان حول “التزام” الجيش بتسهيل قيام الحكم المدني لم تقنع أحدا. من الواضح اليوم للجماهير أنه إذا ترك الأمر لإرادة الجيش فإن الانتخابات الديمقراطية إما لن تحدث أبدا، أو سيتم تزويرها لضمان بقاء الجيش في السلطة.
يمكننا أن نرى بين لجان الأحياء والنقابات المنخرطة في الإضراب بداية ظهور مثال حي عن سلطة العمال. هذه هي القوى الوحيدة القادرة على هزم المجلس العسكري الانتقالي. وعلى عكس ما حدث في عام 2019، يجب على تجمع المهنيين السودانيين ألا يتعامل مع النضال الثوري للشعب باعتباره مجرد رافعة لتأمين المفاوضات مع الجيش. وبدلا من ذلك يجب قيادة الجماهير إلى خوض مواجهة نهائية مع الجنرالات الرجعيين، لطردهم بشكل نهائي من السلطة.
لذلك يجب أن تكون حركة 30 أكتوبر إضرابا عاما مفتوحا بهدف واضح هو إسقاط المجلس العسكري. ولتحقيق ذلك يجب التواصل مع الجنود العاديين في القوات المسلحة، مما سيكون له دور حاسم في تسليح الجماهير وإعدادها للدفاع عن نفسها. يجب أن يترافق ذلك مع الدعوة للانتقال الفوري إلى الحكم المدني، أي عقد جمعية تأسيسية، حتى تكون هناك عملية ديمقراطية حقيقية لتقرير مستقبل السودان.
لكن هذا وحده لا يكفي، فالطابع القمعي والديكتاتوري للحكومة السودانية خلال العقود الأخيرة هو انعكاس مباشر للطبيعة الهشة والطفلية للرأسمالية السودانية، غير القادرة على توفير حياة كريمة للشعب. إن الديمقراطية ليست مطلبا مجردا، وغيابها يعكس وجود مشاكل اجتماعية واقتصادية في مجتمع يعيش فيه ما يقرب من 60٪ من السكان في حالة فقر، وأكثر من نصف المجتمع إما عاطلون عن العمل أو يكافحون من أجل البقاء في القطاع غير المهيكل. في النهاية لا يمكن فصل مسألة الديمقراطية عن مسألة الخبز. وفي الواقع فقد كان برنامج التقشف الذي نفذته الحكومة الانتقالية، من أجل تحقيق “الاستقرار” للاقتصاد السوداني والسعي للحصول على قروض خارجية، هو الذي وضع الأساس للانقلاب الحالي.
لا يمكن حل أي من المشاكل التي يعانيها الشعب ما دامت الرأسمالية قائمة في السودان. لا يكفي مجرد إزاحة قادة النظام، الذين لم يتغيروا بشكل جذري منذ الإطاحة بالبشير. يجب اتخاذ المزيد من الخطوات الفورية لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي يعاني منها السودان. يجب أن تتم على الفور مصادرة جميع أصول وثروات الجنرالات المعادين للثورة وأصدقائهم الرأسماليين الطفيليين وجميع من تبقى من أعضاء النظام القديم. يجب وضع أموالهم والذهب والنفط والموانئ والصناعة والأعمال التجارية تحت سيطرة الطبقة العاملة والفلاحين، واستخدامها لتنفيذ برنامج لإصلاحات شاملة.
من خلال استثمار هذه الثروة على أساس خطة ديمقراطية، سيمكن توفير الوظائف والسكن اللائق للناس، والحصول على السلع الأساسية، مثل الغذاء والوقود، والتعليم العام عالي الجودة. يجب التنصل من جميع الديون الخارجية دفعة واحدة: لقد امتصت العلقات الإمبريالية بالفعل الكثير من دماء السودان، ولا تستحق أية قطرة دم أخرى. كما يجب تقسيم الأرض على الفلاحين، مع القيام بالاستثمارات اللازمة في التقنية والآلات والمواد لتطوير القطاع الزراعي المتخلف.
وباختصار فإنه يجب على الجماهير الثورية في السودان أن تبدأ مهمة بناء نظام اشتراكي الذي هو الوحيد القادر على إخراج البلاد من حالة التخلف المريع، وكسر قبضة الإمبريالية، وتصفية النخب العسكرية الرجعية وكلابها المتعطشة للدماء. شعب السودان ليس وحده في هذا النضال، فمن المقرر تنظيم مسيرات تضامن أممية في ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وبريطانيا والسويد وهولندا وكندا وأستراليا وماليزيا وأماكن أخرى، لتتزامن مع أحداث 30 أكتوبر.
يجب على العمال ألا يعتمدوا إلا على قواهم الخاصة وقوى إخوانهم وأخواتهم العمال في جميع أنحاء العالم، لكسب حريتهم وبناء مستقبل يستحق تضحياتهم العديدة. إن ذلك يتطلب نضالا ثوريا ضد الرأسمالية وكل عملائها الفاسدين والهمجية التي تخلقها. الشيء الذي سيشكل بدوره منارة إلهام للفقراء وجماهير العمال والفلاحين الممتدة من منطقة القرن الأفريقي إلى القارة بأكملها، والعالم العربي وما وراءه.
فلنطرد المجلس العسكري مرة وإلى الأبد! فلنكمل مهام الثورة!
جو أتارد ومثاني أحمد
28 أكتوبر/تشرين الأول 2021
ترجم عن النص الأصلي:
Sudan coup falters as masses rise: “the people are stronger – do not retreat!”