بعد اغتيال صحفية قناة الجزيرة الفلسطينية الأمريكية، شيرين أبو عاقلة، الأسبوع الماضي، لم تسمح الدولة الإسرائيلية حتى لجثمانها بالوصول بسلام إلى مثواه الأخير. ففي عمل سادي وصادم، هاجمت الشرطة الإسرائيلية موكب جنازة شيرين أبو عاقلة يوم الجمعة [13 من الشهر الجاري]، مستخدمة الهراوات والقنابل الصوتية ضد المشيعين الذين كانوا يرافقون نعشها من مستشفى في القدس الشرقية إلى مقبرة في البلدة القديمة المجاورة.
[Source]
ويظهر مقطع فيديو ضباطا يسحبون أشخاصا من الجنازة الضخمة باتجاه مراكز الشرطة القريبة، بالإضافة إلى تمزيق الأعلام الفلسطينية التي كانت بحوزتهم. في بعض الأحيان، وبسبب وطأة هجوم الشرطة، تراخت أيدي حاملي النعش، مما أدى إلى سقوطه على الأرض في إهانة أخيرة للصحفية المقتولة.
بررت الشرطة تصرفاتها باتهام المشيعين بـ”التحريض القومي” و”إلقاء الحجارة”. مما يدفع المرء لكي يتساءل كيف استطاع الذين يحملون النعش بكلتا اليدين إلقاء الحجارة في نفس الوقت!
يمكن دحض هذه الأكاذيب المثيرة للاشمئزاز بسهولة من خلال تحليل أدلة الفيديو الوافرة. هناك تفسيران حقيقيان للوحشية الوقحة للشرطة الاسرائيلية، في وضح النهار وعلى مرأى من كاميرات الأخبار.
أولاً، كانت الدولة الإسرائيلية قلقة من تحول جنازة شيرين أبو عاقلة إلى مظاهرة كبيرة إذا سُمح بنقل نعشها علناً عبر القدس الشرقية. وهذا هو نفس السبب الذي دفع الشرطة إلى اقتحام منزل شيرين بعد وقت قصير من وفاتها، وإزالة الأعلام الفلسطينية منه ومحاولة منع تحول منزلها إلى مركز احتجاج.
كما قاموا بدوريات في الشوارع قبل الجنازة، وقمعوا أي تلميح للمقاومة الفلسطينية، وأمروا النساء بخلع الحجاب الذي يحمل ألوان العلم الفلسطيني.
ومن المحتمل أن يكون مطلب اسرائيل حمل النعش في سيارة (والذي زعمت أنه تنفيذ لـ”رغبة أسرتها”) هو محاولة لمنع تحويل الجنازة إلى مظاهرة عامة. وفي النهاية، اكتملت رحلة شيرين أبو عاقلة إلى المقبرة بالسيارة، مع استمرار الشرطة في نزع الأعلام الفلسطينية عن السيارة وتمزيقها.
“مسلحون بكاميرات”
السبب الثاني هو نفسه الذي جعل قناص الجيش الإسرائيلي واثقاً بدرجة كافية لقتل أحد أشهر الصحفيين في العالم العربي. أي أن إسرائيل تتمتع بدعم أقوى الدول الإمبريالية، ولا سيما الولايات المتحدة، ولذلك تعتقد أنه يمكنها أن تفلت من عواقب أي قدر من القمع الوحشي الذي تمارسه ضد الفلسطينيين.
هذه الغطرسة الوحشية جسدها المتحدث العسكري الإسرائيلي، ران كوخاف، الذي برر مقتل صحفيين فلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي بأنهم “مسلحون بالكاميرات“. يبدو أن الأداة المصممة لتوثيق الحقيقة هي سلاح فتاك يستحق الرد المميت في نظر الدولة الإسرائيلية.
ومع ذلك، فإن مشاهد قيام الشرطة المسلحة بضرب حاملي النعش بوحشية، وحرمان الضحية، شيرين أبو عاقلة، التي قتلت على يد الجيش الإسرائيلي من كرامة الدفن السلمي، كانت مروعة حتى بالمعايير الإسرائيلية. إذ أثارت تلك الصور غضب الناس العاديين في جميع أنحاء العالم، وأجبرت أكثر المدافعين عن إسرائيل حماسة على إصدار كلمات إدانة متأخرة وخجولة.
انتقد النائب البليري عن حزب العمال البريطاني، ويس ستريتينغ، الذي كان في منتصف جولة علاقات عامة في إسرائيل أثناء هذه الأحداث، تصرفات الشرطة ووصفها بأنها “مروعة ومزعجة”.
وانضم إليه زعيم حزب العمال كير ستارمر، الذي أدان “عنف القوات الإسرائيلية” ودعا إلى تحقيق مستقل في وفاة شيرين أبو عاقلة – هذا بعد أن أمضى شهورًا يصرح بدعمه “غير المشروط” لإسرائيل، وساعد في تشويه الأصوات المؤيدة لفلسطين داخل الحزب ووصفها بأنها معادية للسامية.
في غضون ذلك، انتقد الرئيس جو بايدن ما حدث يوم الجمعة، بعد أن وعد خلال الحملة الانتخابية التمهيدية للحزب الديمقراطي بعدم وضع أي شروط على مواصلة الدعم الأمريكي لإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، قال وزير الخارجية أنتوني بلينكين إن الهجوم على جنازة شيرين أبو عاقلة أشعره بـ”قلق عميق”، بينما حثت وزارة الخارجية على إجراء تحقيق “فوري وشامل” حول قتلها.
تعكس هذه التفاهات الكلبية درجة الإحراج التي شعر بها هؤلاء “المدافعون المتحمسون عن القيم الديمقراطية” عندما انفضحت وحشية أحد حلفائهم الرئيسيين على الصعيد العالمي.
كلمات محتالة
لا يمكن لأي شخص أن يساوره أي شك بشأن الجاني في مقتل شيرين أبو عاقلة – على الرغم من أن الدولة الإسرائيلية ألقت باللوم في موتها في البداية على “النيران العشوائية” من قبل مسلحين فلسطينيين، قبل أن تتراجع عن ذلك الادعاء بقولها بأنه “من المستحيل التأكد” من هوية الجاني.
هذا الغموض المصطنع ساهمت فيه الصحافة الغربية، التي استخدمت كل الحيل الكلامية للتقليل من مسؤولية إسرائيل.
كتبت الكثير من الصحف والقنوات عناوين سلبية وملتبسة: صحيفة الغارديان (“الجزيرة تتهم القوات الإسرائيلية بقتل صحفية في الضفة الغربية”)، وفوكس نيوز (“مقتل مراسلة الجزيرة في حادثة متنازع عليها في الضفة الغربية”)، ووكالة أسوشيتيد برس (“قُتلت مراسلة الجزيرة خلال حملة إسرائيلية في الضفة الغربية”)، ونيويورك تايمز (“مقتل صحفية من قناة الجزيرة أثناء اشتباكات في الضفة الغربية”).
نشرت نيويورك تايمز، كذباً، عن الجزيرة إنها وصفت ما حدث بأنه “اشتباكات” بين الجيش الإسرائيلي ومسلحين فلسطينيين، بينما في الواقع لم تقل الجزيرة أي شيء من هذا القبيل. لقد أعلنت الجزيرة بوضوح (وبدقة) بأنه لم يكن هناك مسلحون فلسطينيون عندما قُتلت شيرين أبو عاقلة، مما أجبر صحيفة نيويورك تايمز على إصدار تصحيح بسيط لاحق.
لم تكن تغطية جنازة شيرين أبو عاقلة أفضل، حيث أصدرت قناة فوكس نيوز عنوانا رئيسيا جاء فيه: “الشرطة الإسرائيلية تشتبك مع المشيعين الذين يحملون نعش صحفية الجزيرة شيرين أبو عاقلة”، وكتبت الديلي ميل في بريطانيا إن النعش الخاص بها “تعرض للدفع” من قبل الشرطة.
لكن وعلى النقيض من ذلك فقد تمت إدانة جميع الجرائم والفظائع التي ارتكبتها روسيا في حرب أوكرانيا (الحقيقية منها والمزعومة) دون أي تحفظ واستخدمت لتبرير تصعيد مشاركة الناتو في الصراع، فضلاً عن فرض عقوبات اقتصادية على روسيا.
على سبيل المثال، ذكرت الصحافة الغربية بوضوح وبشكل لا لبس فيه إن المصور الصحفي الأمريكي، برنت رينو، قُتل على يد القوات الروسية في إيربين في مارس الماضي. ونشرت صحيفة الغارديان بيانًا صادرًا عن قائد شرطة منطقة كييف، اتهم فيه روسيا بـ”قتل صحفيين من وسائل إعلام دولية، هؤلاء الذين يحاولون إظهار الحقيقة بشأن الفظائع التي ارتكبتها القوات الروسية في أوكرانيا”.
مع ملاحظة إن برنت رينو لم يكن على ما يبدو في مهمة عمل، وكان في سيارة عندما قُتل. بينما كانت شيرين أبو عاقلة في العراء، وكان من الواضح جداً أنها صحفية.
يمكن تفسير الطريقة المختلفة تماماً لهذه التغطية من خلال حقيقة أن الطبقات السائدة الغربية لها مصلحة في استمرار ما يعترفون به صراحةً الآن بكونه حربا بالوكالة ضد روسيا على الأراضي الأوكرانية. ونتيجة لذلك، فإنهم يستغلون كل فرصة لإثارة الغضب داخل بلدانهم لتبرير الحرب. وفي المقابل، ليست لديهم مصلحة في معاقبة إسرائيل أو دعم النضال الفلسطيني من أجل التحرر.
كان هذا المعيار المزدوج واضحاً حتى في ختام مسابقة الأغنية الأوروبية لعام 2022. تم استبعاد روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، وظهرت الأعلام والألوان الأوكرانية إلى جانب الوفد الأوكراني. لكن فرقة هتاري – الوافدون الإيسلنديون في نهائي 2019، الذي أقيم في تل أبيب – عوقبوا بسبب رفعهم الأعلام الفلسطينية في بادرة تضامن. هذا العام، لم تواجه إسرائيل أي عواقب على الرغم من ارتكابها جريمة حرب أثناء استمرار المسابقة.
البروباغندا والمعلومات الخاطئة
الأدلة على أن شيرين أبو عاقلة قتلت على يد الجيش الإسرائيلي دامغة. كانت واضحة أمام القوات الإسرائيلية وقت مقتلها، وكانت ترتدي سترة واقية من الرصاص مكتوب عليها بوضوح “صحافة”، وقد أُطلق النار عليها في منطقة أسفل الأذن، لتجنب الخوذة الواقية التي كانت ترتديها، وبحسب ما ورد أن الرصاصة أطلقت من بندقية M16 مثل تلك التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي.
كانت شيرين أيضاً شخصية معروفة في جميع أنحاء المنطقة، مما يزيد من احتمال انها استهدفت بالقتل عمداً. وبحسب ما ورد من معلومات، فإن الجيش الإسرائيلي بصدد استجواب جندي يشتبه في أنه مطلق النار.
لكن إسرائيل حاولت تمويه الحقيقة من خلال الشكوى من أن الفلسطينيين رفضوا أن يسلموها جثة شيرين أبو عاقلة لتشريحها، لإثبات ما إذا كان أحد رجالها هو من أطلق الرصاصة أم لا. وقد تكررت هذه الحجة في الصحافة الغربية لتقويض مصداقية العديد من الشهود على حوادث إطلاق النار.
صرحت السلطة الفلسطينية، الممثل الرئيسي للفلسطينيين في الضفة الغربية حيث قُتلت شيرين أبو عاقلة، بأنها لا تثق بإسرائيل في تسهيل إجراء تحقيق محايد.
وليس من الصعب فهم دواعي هذا الرفض بالنظر إلى محاولة إسرائيل الحثيثة إلقاء اللوم على مسلحين فلسطينيين مجهولين في عملية القتل. وحتى بعد أن تراجعت عن هذا الادعاء، فإنها استمرت تحاول تفادي اللوم من خلال الإشارة إلى إنه من المحتمل إن الرصاصة قد انحرفت عن الأرض أو الحائط وضربت شيرين أبو عاقلة.
نتذكر أنه عندما قدمت الحكومة الأوكرانية مزاعم بارتكاب جرائم حرب في بوتشا أثناء احتلال المدينة، طلب الروس إجراء تحقيق، حيث يُسمح لهم بعرض روايتهم لما حدث. تم رفض هذا على أساس أنه لا يمكن الوثوق بروسيا – ولكن هذا الرفض لم يترتب عليه تقويض مصداقية الادعاءات في تلك الحالة أو حتى إعادة فحصها.
أثارت فضيحة مقتل شيرين أبو عاقلة والوحشية التي تعرضت لها جنازتها غضباً حول العالم، تزامنت مع احتجاجات نهاية هذا الأسبوع لإحياء الذكرى الرابعة والسبعين للنكبة – الطرد الجماعي للفلسطينيين من منازلهم عام 1948.
بالإضافة إلى الاحتجاجات في فلسطين (وأكبرها كانت في الضفة الغربية المحتلة)، وإسرائيل (التي شهدت اعتقال ثلاثة طلاب فلسطينيين في تل أبيب)، كانت هناك عدة مظاهرات أممية للتضامن والحداد.
جنباً إلى جنب مع المظاهرات الكبيرة في الشرق الأوسط (بما في ذلك سوريا وتركيا ولبنان)، كانت هناك مسيرات في الغرب، حيث خرج الآلاف في شوارع لندن، على سبيل المثال. وحمل كثير من المتظاهرين صوراً لشيرين أبو عاقلة مطالبين بالعدالة لها.
في بعض الحالات، تدخلت الدولة لقمع المظاهرات. على سبيل المثال، في برلين، حظرت الحكومة الوقفة الاحتجاجية من أجل شيرين أبو عاقلة، إلى جانب حظر أي وجود مرئي للأعلام الفلسطينية، على أساس أن ذلك يشكل “خطرًا مباشرًا” يتمثل في الهتافات المعادية للسامية والترهيب والعنف!
في نهاية المطاف، اعتقلت الشرطة الألمانية 170 ناشطاً مؤيداً لفلسطين في برلين، بتهم مثل ترديد “فلسطين حرة”، وحمل العلم الفلسطيني وارتداء الكوفية.
النفاق الوقح
يكشف مقتل شيرين أبو عاقلة عن النفاق الوقح للإمبرياليين، الذين تسعدهم تماماً المساعدة والتحريض على ارتكاب جرائم حرب عندما يناسبهم ذلك، لكنهم يثيرون الضجيج والصراخ على نفس الجرائم عندما يرتكبها خصومهم.
ندد مجلس الأمن الدولي بمقتل شيرين أبو عاقلة ودعا إلى “تحقيق مستقل”، لكن هذه كلمات جوفاء إذ تمتلك الولايات المتحدة حق النقض “الفيتو” ضد أي قرار من هذه الهيئة يستهدف أحد أقرب حلفائها.
إذا تُركنا إلى “المؤسسات الدولية” مثل الأمم المتحدة، يمكننا أن نتوقع، بدون الخوف من الوقوع في مبالغة، أن هذه القضية سيتم غلقها قبل حتى أن يُسمح لتفعيل تحقيق شكلي تصدر عنه نتائج “غير حاسمة”. هذا ما يمكن اعتباره “عدالة” على أساس الرأسمالية الإمبريالية.
لن تتحقق العدالة لشيرين أبو عاقلة وفلسطين ككل على أساس “القانون الدولي”. لا تمثل دموع التماسيح ولا كلمات التعاطف الفاترة مسكنا لمعاناة الشعب الفلسطيني، خصوصاً عندما تكون صادرة من نفس الحكومات والمؤسسات التي مولت وسلحت معذبيه على مدى عقود.
وحده النضال الثوري، الذي يوحد العمال والشباب والفقراء في المنطقة بأسرها، هو القادر على تحرير الشعب الفلسطيني من قيود الاحتلال والقمع.
علي الطبقة العاملة ومنظماتها في جميع أنحاء العالم إظهار التضامن مع هذا النضال من أجل الحرية والعيش الكريم، والذي يمكن ضمانه للأجيال القادمة فقط على أساس فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
إن خوض هذا النضال هو أفضل وسيلة لتكريم شيرين أبو عاقلة وكل شهداء فلسطين.
جو أتارد
16 مايو/آيار 2022
ترجم عن النص الأصلي:
Shireen Abu Akleh’s funeral attacked by police: Israel’s sadism and imperialist hypocrisy