تتأرجح الرأسمالية العالمية من أزمة إلى أخرى، مما يجعل حياة ملايير البشر لا تطاق. وتسعى أعداد متزايدة من العمال والشباب بشدة إلى إيجاد مخرج. ومع تحول الوعي، يتم التحضير لعصر من الانفجارات الثورية على الصعيد العالمي. نعمل هنا على نشر مسودة وثيقة المنظورات العالمية التي تتضمن تحليل التيار الماركسي الأممي للوضع العالمي الحالي وآفاق تطوره. وسيتم في المؤتمر العالمي الذي سيعقد في نهاية يوليوز/تموز من هذه السنة 2021. لذا نرجو من متابعينا وقرائنا أن يطلعوا عليها ويراسلونا بخصوص مضمونها على هذه الصفحة أو عبر بريدنا الالكتروني: marxy@marxy.com.
[Source]
«وإجمالا إن الأزمة كانت تحفر عميقا مثل الخلد العجوز البارع». (رسالة من ماركس إلى إنجلز، بتاريخ 22 فبراير 1858)
طبيعة المنظورات
إن الوثيقة الحالية، التي ينبغي قراءتها مقترنة مع الوثيقة التي أصدرناها في شتنبر 2020، ستكون مختلفة إلى حد ما عن وثائق المنظورات العالمية التي أصدرناها في الماضي.
في الفترات السابقة، عندما كانت الأحداث تسير بوتيرة أبطأ، كان من الممكن التعامل، وإن بشكل موجز، مع العديد من البلدان المختلفة. أما الآن فقد تسارعت وتيرة الأحداث لدرجة أنه من أجل التعامل مع كل شيء، يحتاج المرء إلى كتاب كامل. ليس الغرض من المنظورات إنتاج فهرس للأحداث الثورية، بل الكشف عن السيرورات الجوهرية الكامنة وراءها.
وكما أوضح هيجل في مقدمة كتابه “فلسفة التاريخ”: «إنها، في الواقع، الرغبة في امتلاك تصور عقلاني، وليس الطموح لتجميع مجرد كومة من المقتنيات، هي ما نفترض مسبقا أنه يجب أن يتملك دائما عقل المتعلم عند دراسة العلوم».
نحن نتعامل هنا مع السيرورات العامة، ولا يسعنا أن نتطرق إلا إلى عدد قليل من البلدان التي تساعد على كشف تلك السيرورات بشكل أوضح في هذه المرحلة. وسيتم التعامل مع البلدان الأخرى، بالطبع، في مقالات مستقلة.
أحداث درامية
بدأ عام 2021 بأحداث درامية. أزمة الرأسمالية العالمية تخلق موجات تنتشر من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى. وفي كل مكان هناك نفس صور الفوضى والتفكك الاقتصادي والاستقطاب الطبقي.
لم يكد العام الجديد يبدأ حتى اقتحم حشد من الرعاع اليمينيين المتطرفين مبنى الكابيتول الأمريكي في واشنطن، بتحريض من الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، مما أعطى لمركز الإمبريالية الغربية مظهر دولة فاشلة.
تُظهر هذه الأحداث، إلى جانب الاحتجاجات الأكبر حجما لحركة “حياة السود مهمة” خلال الصيف الماضي، مدى عمق الاستقطاب الذي وصل إليه المجتمع الأمريكي.
وفي الطرف الآخر من العالم، أظهرت الاحتجاجات الكبيرة في الهند وروسيا نفس السيرورة: استياء الجماهير آخذ في الازدياد، والطبقة السائدة تفشل في الحكم بالطرق القديمة.
أزمة عالمية لا مثيل لها
تختلف هذه المنظورات العالمية عن أي منظورات أخرى تعاملنا معها في الماضي. إنها معقدة للغاية بسبب الجائحة التي تحوم مثل سحابة داكنة في جميع أنحاء العالم، وتعرض الملايين للبؤس والمعاناة والموت.
ما تزال الجائحة تنتشر خارج نطاق السيطرة. وفي وقت كتابة هذه الوثيقة، تم تسجيل أكثر من 100 مليون حالة في جميع أنحاء العالم، وحوالي ثلاثة ملايين حالة وفاة. هذه الأرقام غير مسبوقة خارج حرب عالمية، وما تزال تستمر في الارتفاع بلا هوادة.
لهذه الآفة الرهيبة أثر مدمر في البلدان الفقيرة حول العالم، كما أنها أثرت بشكل خطير على بعض أغنى البلدان.
يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية 30 مليون حالة، وقد تجاوز عدد الوفيات رقم نصف المليون. كما أن لبريطانيا أحد أعلى أعداد الوفيات بالنسبة لعدد السكان في العالم: أكثر من 04 ملايين حالة، وأكثر من 100.000 حالة وفاة.
وبالتالي فإن الأزمة الحالية ليست أزمة اقتصادية عادية. إنها تمثل حرفيا مسألة حياة أو موت بالنسبة لملايين الناس. وقد كان من الممكن تجنب الكثير من تلك الوفيات لو أنه تم اتخاذ الإجراءات المناسبة في وقت مبكر.
الرأسمالية عاجزة عن حل المشكلة
لا يمكن للرأسمالية أن تحل المشكلة: إنها هي بالضبط المشكلة.
جائحة كوفيد 19، في نهاية المطاف، نتيجة لتدمير الرأسمالية للبيئة. لقد أدى الاجتثاث الجامح للغابات والزراعة الرأسمالية الواسعة النطاق إلى خلق الظروف الملائمة لتزايد معدل الأوبئة التي تسببها الفيروسات التي تنتقل من الحيوانات إلى البشر. وكما حذر إنجلز: «دعونا لا نفرط في تملق أنفسنا بسبب انتصارنا البشري على الطبيعة. فهي تنتقم منا مقابل أي انتصار من هذا القبيل».
تعمل هذه الجائحة على كشف الانقسامات الهائلة بين الأغنياء والفقراء. لقد كشفت خطوط الصدع العميقة التي تقسم المجتمع، الخط الذي يفصل بين أولئك المحكوم عليهم بالمرض والموت، وبين أولئك الذين ليسوا كذلك.
لقد فضحت تبذير الرأسمالية وفوضاها وعدم كفاءتها، وتحضر الشروط لاندلاع الصراع الطبقي في كل بلدان في العالم.
يحب السياسيون البرجوازيون استخدام المقارنات العسكرية لوصف الوضع الحالي. يقولون إننا في حالة حرب مع عدو غير مرئي، هو هذا الفيروس الرهيب. ويخلصون إلى أن كل الطبقات والأحزاب يجب أن تتحد وراء الحكومة القائمة. لكن هناك فجوة لا تنفك تتسع تفصل الأقوال عن الأفعال.
قضية الاقتصاد المخطط والتخطيط العالمي راهنية إلى أبعد مدى. الأزمة عالمية والفيروس لا يحترم الحدود ولا إجراءات الجمارك. يتطلب الوضع ردا عالميا، وتجميع كل المعارف العلمية وتعبئة جميع موارد الكوكب لتنسيق خطة عمل عالمية حقيقية.
وبدلا من ذلك ما لدينا هو مشهد مقيت للخلاف بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي حول ندرة اللقاحات، في حين أن بعض البلدان الأكثر فقرا محرومة كليا من الحصول على أي لقاحات على الإطلاق.
لكن ما هو سبب هذه الندرة في اللقاحات؟ إن مشاكل إنتاج اللقاح -على سبيل المثال لا الحصر- هي انعكاس للتناقض بين الاحتياجات الملحة للمجتمع وبين آليات اقتصاد السوق.
لو كنا حقا في حالة حرب مع الفيروس، لكانت الحكومات ستعبئ كل مواردها لهذه المهمة. إن أفضل سياسة، من وجهة نظر عقلانية بحتة، هي زيادة إنتاج اللقاح بأسرع ما يمكن.
يجب توسيع القدرات الانتاجية، وهو ما لا يمكن القيام به إلا من خلال إنشاء مصانع جديدة. لكن الشركات الخاصة الكبرى لتصنيع اللقاحات ليست لديها أي مصلحة في توسيع الإنتاج على نطاق واسع لأنها ستكون أسوأ حالا من الناحية المالية إذا هي فعلت ذلك.
لو أنهم قاموا بزيادة الطاقة الإنتاجية بحيث يتم تزويد العالم كله باللقاح في غضون ستة أشهر، ستبقى المرافق المبنية حديثا فارغة بعد ذلك مباشرة. وستكون الأرباح بعد ذلك أقل بكثير مقارنة بالسيناريوهات الحالية حيث ستستمر المصانع الحالية في الإنتاج بكامل طاقتها لسنوات قادمة.
وهناك عقبة أخرى أمام الإنتاج الضخم للقاح وهي رفض شركات الأدوية الكبرى (Big Pharma) التخلي عن حقوق الملكية الفكرية على اللقاحات “الخاصة بها” (والتي تم تطويرها في معظم الحالات بفضل مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي) حتى تتمكن الشركات الأخرى من إنتاجها بثمن رخيص.
تحقق شركات الأدوية أرباحا تقدر بعشرات المليارات، لكن مشاكل كل من الإنتاج والعرض تعني وجود الخصاص في كل مكان. وفي غضون ذلك يواجه ملايين البشر الخطر.
حياة العمال في خطر
في سياق استعجالهم لتحريك الإنتاج (وبالتالي الأرباح) مرة أخرى، يلجأ السياسيون والرأسماليون إلى اختصار الطريق. يعملون على إعادة العمال إلى أماكن العمل المزدحمة دون حماية كافية. وهو ما يعادل إصدار حكم بالإعدام على العديد من هؤلاء العمال وعائلاتهم.
كل آمال السياسيين البرجوازيين كانت قائمة على اللقاحات الجديدة. لكن طرح اللقاحات كان فاشلا، ويتسبب الإخفاق في السيطرة على انتشار الفيروس -مما يزيد من خطر تطور سلالات جديدة مقاومة للقاحات- في آثار خطيرة، ليس فقط على حياة البشر وصحتهم، بل أيضا على الاقتصاد.
أزمة اقتصادية
وفقا لبنك إنجلترا، تعتبر الأزمة الاقتصادية الحالية هي الأشد حدة خلال 300 عام. خلال عام 2020، تم فقدان ما يعادل 255 مليون منصب شغل، في جميع أنحاء العالم، أي أربعة أضعاف ما كان عليه الحال في عام 2009
لقد بدأت الاقتصادات التي تسمى صاعدة في الغرق إلى جانب بقية الاقتصادات الأخرى. فالهند والبرازيل وروسيا وتركيا كلها في أزمة. اقتصاد كوريا الجنوبية انكمش العام الماضي، وذلك للمرة الأولى منذ 22 عاما. وقد حدث ذلك على الرغم من الدعم الحكومي الذي بلغت قيمته حوالي 283 مليار دولار. وصلت البطالة في جنوب إفريقيا إلى 32,5% وانكمش إجمالي الناتج المحلي عام 2020 بنسبة 7,2%. يعد هذا انكماشا أكبر مما تم تسجيله عام 1931 أثناء الكساد الكبير، وذلك على الرغم من إنفاق ما يعادل 10% من إجمالي الناتج المحلي في حزمة تحفيزات مالية.
أغرقت الأزمة ملايين الناس أكثر فأكثر في براثن الفقر. في يناير 2021، قدر البنك العالمي أن 90 مليون شخص سيقعون في براثن الفقر المدقع. وكتبت صحيفة الإيكونوميست، في 26 شتنبر 2020، أن:
«الأمم المتحدة أكثر تشاؤما. إنها تُعرِّف الفقراء على أنهم هؤلاء الذين ليست لديهم إمكانية الوصول إلى أشياء مثل المياه النظيفة والكهرباء والطعام الكافي والمدارس لأطفالهم.
بعمل قامت به مع باحثين من جامعة أكسفورد، تعتقد أن الجائحة يمكن أن تلقي بـ 490 مليونا، من 70 بلدا، في دائرة الفقر، مما يقوض ما يقرب من عقد من المكاسب».
وقد صاغ برنامج الأغذية العالمي، التابع للأمم المتحدة، الوضع بهذه العبارات: «في 79 بلدا حيث يشتغل برنامج الأغذية العالمي، وحيث تتوفر البيانات، يقدر أن ما يصل إلى 270 مليون شخص يعانون من الانعدام الحاد للأمن الغذائي أو أنهم معرضون لمخاطر عالية في عام 2021. وهي زيادة غير مسبوقة بنسبة 82% عن مستويات ما قبل الجائحة».
هذا وحده كاف لكي يعطي المرء فكرة عن المدى العالمي للأزمة.
يرتبط الاضطراب العام حول العالم بشكل عضوي بتزايد الفقر. إنه سبب ونتيجة في نفس الآن. إنه السبب الأكثر جوهرية للعديد من الحروب والحروب الأهلية الجارية. وليست إثيوبيا سوى مثال واحد على ذلك.
كانت إثيوبيا تقدم كمثال نموذجي. ففي الفترة الممتدة من 2004 إلى 2014، كان اقتصادها ينمو بنسبة 11% سنويا، وكان يُنظر إليها على أنها بلد ملائم للاستثمار. لكنها الآن دخلت في حالة اضطراب مع اندلاع القتال في إقليم تيغراي، حيث يحتاج ثلاثة ملايين شخص إلى إغاثة غذائية عاجلة.
هذه ليست حالة معزولة. قائمة البلدان التي تضررت من الحروب خلال الفترة الماضية طويلة جدا، وصور المعاناة الإنسانية مروعة:
أفغانستان: مليونا قتيل؛ اليمن: 100.000 قتيل؛ وقد أدت حروب المخدرات في المكسيك إلى مقتل أكثر من 250 ألف شخص. الحرب ضد الكورد في تركيا خلفت 45 ألف قتيل؛ الصومال 500.000 قتيل؛ العراق مليون قتيل على الأقل؛ جنوب السودان حوالي 400.000 قتيل.
في سوريا، قدرت الأمم المتحدة عدد القتلى بـ400.000، لكن هذا الرقم يبدو منخفضا للغاية. قد لا نتمكن أبدا من معرفة الرقم الحقيقي، لكن من المؤكد أنه يصل إلى 600.000 على الأقل. وفي الحروب الأهلية الرهيبة التي شهدتها الكونغو من المحتمل أن أكثر من أربعة ملايين شخص قد لقوا حتفهم. لكن هناك أيضا لا أحد يعرف الرقم الحقيقي. وقد شهدنا في الآونة الأخيرة اندلاع الصراع في ناغورنو كاراباخ.
وهكذا فإن القائمة تطول وتطول. لم تعد مثل هذه الأشياء تعتبر ملائمة للنشر على الصفحات الأولى للصحف. لكنها تعبر بوضوح شديد عما قاله لينين ذات مرة بأن: “الرأسمالية رعب بلا نهاية”. إن استمرار وجود الرأسمالية يهدد بخلق ظروف البربرية في جميع البلدان، الواحد منها تلو الآخر.
أزمة النظام
دراسة الاقتصاد، من وجهة نظر ماركسية، ليست مسألة أكاديمية مجردة. إن له [الاقتصاد] تأثير عميق على تطور وعي جميع الطبقات.
هناك أزمة في كل مكان الآن، وهي ليست أزمة اقتصادية فحسب، بل أزمة النظام ككل. هناك مؤشرات واضحة على أن الأزمة شديدة وعميقة لدرجة أن الطبقة السائدة بدأت تفقد سيطرتها على الأدوات التقليدية التي استخدمتها في الماضي لتسير المجتمع.
ونتيجة لذلك تجد الطبقة السائدة نفسها عاجزة بشكل متزايد عن التحكم في الأحداث. وهذا واضح بشكل خاص في حالة الولايات المتحدة، لكنه ينطبق أيضا على العديد من البلدان الأخرى. يكفي ذكر أسماء ترامب وبوريس جونسون وبولسونارو لتأكيد هذه النقطة.
الولايات المتحدة الأمريكية
تحتل الولايات المتحدة الآن مكانة مركزية في المنظورات العالمية. لفترة طويلة جدا بدت الثورة في أغنى وأقوى أمة على وجه الأرض احتمالا بعيدا جدا. لكن الولايات المتحدة تضررت بشدة من الأزمة الاقتصادية العالمية وقد انقلب الآن كل شيء رأسا على عقب.
تقدم 68 مليون أمريكي بطلب للحصول على إعانة البطالة أثناء الجائحة، وكما هو الحال دائما، فإن الذين يعانون أكثر هم الأكثر فقرا وهشاشة، وخاصة الملونين. يقع ثقل آفة البطالة على كاهل الشباب بشكل خاص. فقد تعرض ربع الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما للطرد من العمل. فجأة سلب مستقبلهم منهم. لقد أصبح الحلم الأمريكي كابوسا أمريكيا.
أجبر هذا التغيير الدراماتيكي الكثير من الناس، كبارا وصغارا، على إعادة النظر في الآراء التي كانوا يعتبرونها في الماضي مقدسة، وبدأوا في مساءلة طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه. لقد أدى الصعود السريع لبيرني ساندرز في أحد طرفي الطيف السياسي، ودونالد ترامب في الطرف الآخر، إلى دق ناقوس الخطر للطبقة السائدة. لم يكن من المفترض أن يحدث هذا النوع من الأشياء!
وبسبب القلق من الخطر الذي يمثله هذا الوضع، اضطرت الطبقة السائدة إلى اتخاذ إجراءات طارئة. دعونا نذكر أنفسنا أنه وفقا للعقيدة الرسمية للاقتصاديين البرجوازيين، لم يكن من المفترض أن تلعب الدولة أي دور في الحياة الاقتصادية.
لكن في مواجهة الكارثة التي تلوح في الأفق، اضطرت الطبقة السائدة إلى إلقاء كل النظريات الاقتصادية، التي كانت مقبولة، في سلة المهملات. نفس الدولة التي يجب عليها، وفقا لنظرية السوق الحرة، أن تلعب دورا ضئيلا، أو لا تلعب أي دور، في الحياة الاقتصادية، أصبحت الآن الدعامة الوحيدة للنظام الرأسمالي.
لقد صار ما يسمى باقتصاد السوق الحر في جميع البلدان، بدءا من الولايات المتحدة الأمريكية، يعتمد حرفيا على جهاز الإنعاش، مثله مثل مريض بفيروس كورونا. معظم الأموال التي وزعتها الدولة ذهبت مباشرة إلى جيوب الأغنياء. لكن الطبقة السائدة خافت من العواقب السياسية لعملية إنقاذ أخرى للشركات، ولذلك قدمت منحا لكل السكان وعززت بشكل كبير تعويضات البطالة. لقد خفف هذا من تأثير الأزمة على الشرائح الأكثر فقرا. لكن هذا الدعم سوف يتقلص، في مرحلة ما، أو سيسحب تماما.
لدينا مفارقة تتمثل في وجود أفظع أشكال الفقر في أغنى بلد في العالم، جنبا إلى جنب مع أكثر أشكال الثراء والرفاهية فحشا. بحلول تشرين الأول (أكتوبر) 2020، لم يكن لدى أكثر من أسرة من بين كل خمس أسر أمريكية ما يكفي من المال لشراء الطعام. وبنوك الطعام تنتشر بشكل سريع.
اللا مساواة والاستقطاب
لقد حطمت مستويات اللامساواة جميع الأرقام القياسية. وقد تحول التفاوت بين الأغنياء والفقراء إلى هوة لا يمكن رأبها. في عام 2020 نمت ثروة أثرياء العالم بمقدار 3,9 تريليون دولار. وصار مؤشر ناسداك 100 أعلى بنسبة 40% عما كان عليه قبل الجائحة. وخلال فبراير 2021، ارتفعت قيمة الأسهم المدرجة في البورصة عالميا، بمقدار 24 تريليون دولار منذ مارس 2020.
متوسط رواتب الرؤساء التنفيذيين لشركات مؤشر ستاندرد آند بورز 500 (S&P 500) يبلغ 357 ضعف ما يكسبه العامل العادي. كانت النسبة حوالي 20 ضعف في منتصف الستينيات. وكانت ما تزال تشكل 28 ضعفا في نهاية ولاية رونالد ريغان عام 1989.
ولنسوق مثالا واحدا فقط، نقول إن جيف بيزوس يربح الآن في الثانية الواحدة أموالا أكثر مما يكسبه العامل الأمريكي العادي خلال أسبوع كامل. وهذا يعيد أمريكا إلى زمن البارونات الرأسماليين اللصوص الذين ندد بهم تيودور روزفلت قبل الحرب العالمية الأولى.
وهذا له تأثير. إذ أن كل الديماغوجية حول “المصلحة الوطنية” وأنه “يجب أن نتحد لمحاربة الفيروس” و”نحن جميعا في نفس القارب”، تبدو مكشوفة على أنها أبشع أشكال النفاق.
إن الجماهير مستعدة لتقديم التضحيات في ظل ظروف معينة. ففي أوقات الحرب يكون الناس على استعداد لتوحيد صفوفهم لمحاربة العدو المشترك، هذا صحيح. إنهم مستعدون، مؤقتا على الأقل، لقبول انخفاض مستويات المعيشة والقبول أيضا، إلى حد ما، بالقيود المفروضة على الحقوق الديمقراطية.
لكن الفجوة التي تفصل بين الذين يملكون والذين لا يملكون تعمق الاستقطاب الاجتماعي والسياسي وتخلق مزاجا متفجرا في المجتمع. إنها تقوض كل الجهود لخلق إحساس بالوحدة والتضامن الوطنيين، اللتان هما خط الدفاع الرئيسي للطبقة السائدة.
تظهر إحصائيات الاحتياطي الفيدرالي أن صافي ثروت 10% الأغنى في الولايات المتحدة وصلت 80,7 تريليون دولار في نهاية عام 2020. وهذا يعني 375% من الناتج المحلي الإجمالي وأعلى بكثير من المستويات التاريخية.
فرض ضريبة بنسبة 5% على تلك الثروة سيدر 4 تريليونات دولار، أو خمس الناتج المحلي الإجمالي. وهو المبلغ الذي سيدفع جميع تكاليف الجائحة. لكن البارونات اللصوص الأثرياء ليست لديهم أي نية في تقاسم ما نهبوه. يُظهر معظمهم (بمن في ذلك دونالد ترامب) عزوفا واضحا عن دفع أي ضريبة على الإطلاق، ناهيك عن 5%.
الحل الوحيد هو مصادرة أملاك المصرفيين والرأسماليين. وسوف تكتسب هذه الفكرة حتما المزيد والمزيد من الدعم، وستزيل التحيزات المتبقية ضد الاشتراكية والشيوعية، حتى بين تلك الفئات من العمال الذين خدعتهم ديماغوجية ترامب.
وقد بدأ هذا يثير بالفعل القلق بين المنظرين الجديين لرأس المال. توصلت ماري كالاهان إردوس، رئيسة إدارة الأصول والثروة في جيه بي مورغان، إلى النتيجة الحتمية حيث قالت: «ستواجهون مخاطر عالية للغاية من التطرف الناتج عن هذا. علينا أن نجد طريقة ما للتكيف، وإلا فإننا في وضع خطير للغاية».
الهجوم على مبنى الكابيتول
كان الهجوم على مبنى الكابيتول يوم السادس من يناير مؤشرا واضحا على أن ما تواجهه الولايات المتحدة الآن ليس مجرد أزمة حكومة، بل أزمة النظام نفسه.
لم يكن ذلك الحدث انقلابا ولا تمردا، لكنه كشف بشكل صارخ عن الغضب الهائل الموجود في أعماق المجتمع، وكذلك ظهور الانقسامات العميقة في الدولة. إن ما يشير إليه، في الأساس، هو أن الاستقطاب في المجتمع قد وصل إلى نقطة حرجة. ومؤسسات الديموقراطية البرجوازية تتعرض لضغوط هائلة.
توجد كراهية شديدة ضد الأغنياء والأقوياء وأصحاب الأبناك ووول ستريت وحكومة واشنطن بشكل عام (“المستنقع”). وقد قام الديماغوجي اليميني، دونالد ترامب، بتوجيه هذه الكراهية بمهارة.
ترامب نفسه ليس، بالطبع، سوى التمساح الأكثر دهاءا وشرها في ذلك المستنقع. إنه يسعى وراء مصالحه الخاصة فقط. لكن ومن خلال قيامه بذلك، أضر بشكل خطير بمصالح الطبقة السائدة ككل. لقد لعب بالنار واستحضر قوى لا يستطيع لا هو ولا أي شخص آخر السيطرة عليها.
كان ترامب يدمر، بأقواله وأفعاله، شرعية المؤسسات البرجوازية ويخلق حالة من الاضطراب الهائل. وهذا هو السبب الذي يجعل الطبقة السائدة وممثليها السياسيين في كل مكان مرعوبين من سلوكه.
دعوى العزل (The impeachment)
حاول الديمقراطيون عزل ترامب واتهموه بتنظيم تمرد. لكنهم فشلوا، كما كان متوقعا، في إقناع مجلس الشيوخ بإدانته، الأمر الذي كان سيمنعه من الترشح لأي منصب عام في المستقبل.
كان معظم أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين سعداء للغاية للقيام بذلك. إنهم يكرهون ويخشون هذا السياسي المبتدئ. وكانوا يعرفون جيدا من يقف وراء أحداث 06 يناير. وجه زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش مكونيل، نقدا لاذعا للرئيس السابق، بعد أن صوت على تبرئته.
في الواقع، لقد كان هو وبقية أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الآخرين مرعوبين من ردة فعل أتباع ترامب الغاضبين إذا ما هم اتخذوا تلك الخطوة المصيرية. لقد قرروا أن الجبن أفضل الشيم، فصوتوا مرغمين لصالح تبرأته.
لكن لو أن ما حدث كان محاولة تمرد فإنها كانت محاولة سيئة للغاية. كانت أقرب إلى أعمال شغب واسعة النطاق منها إلى التمرد. اقتحم حشد من أنصار ترامب الغاضبين مبنى الكابيتول، بتواطؤ واضح من بعض الحراس على الأقل. لكنهم بعد أن استحوذوا بسهولة على قدس أقداس الديمقراطية البرجوازية الأمريكية، لم تكن لديهم أدنى فكرة عما يمكنهم أن يفعلوه به.
هؤلاء الغوغاء المفتقدين للتنظيم والقيادة تجولوا في الأرجاء بلا هدف، يحطمون أي شيء يكرهونه ويهتفون بالتهديدات ضد الديموقراطية نانسي بيلوسي، وضد العضوين الجمهوريين، نائب الرئيس مايك بنس وميتش ماكونيل، الذين اتهموهما بخيانة ترامب. وفي غضون ذلك توارى القائد العام للمتمردين عن الأنظار.
لو أن التاريخ يعيد نفسه، أولا كمأساة ثم كمهزلة، فإن هذه كانت مهزلة بكل معنى الكلمة. في النهاية لم يتم شنق أحد أو إرساله إلى المقصلة. فبعد أن تعب هؤلاء “المتمردون” من كثرة الصراخ، عادوا بهدوء إلى منازلهم أو دخلوا إلى أقرب حانة ليثملوا ويتفاخروا بمآثرهم العظيمة، ولم يتركوا ورائهم شيئا سوى كومة من القمامة وقليل من الغرور المكلوم.
ومع ذلك فإن تلك الأحداث شكلت، من وجهة نظر الطبقة السائدة، سابقة خطيرة للمستقبل. قال راي داليو، مؤسس أكبر صندوق تحوط في العالم، (Bridgewater Associates): «نحن على شفا حرب أهلية مروعة. إن الولايات المتحدة عند نقطة تحول يمكن خلالها أن تنتقل من التوتر الداخلي الذي يمكن التحكم فيه إلى الثورة». كان اقتحام مبنى الكابيتول بمثابة تحذير خطير للطبقة السائدة. سيكون لهذا بلا شك عواقب. وعلى الرغم من وابل العداء الإعلامي، فإن 45% من الجمهوريين المسجلين اعتبروا أن ذلك فعل مبرر.
لكن يجب مقارنة ذلك بالحقيقة الأكثر أهمية بكثير والتي هي أن 54% من بين جميع الأمريكيين يعتقدون أن إحراق مركز شرطة مينيابوليس كان عملا مبررا. وأن 10% من مجموع السكان قد شاركوا في احتجاجات حياة السود مهمة -أي أكثر بـ 20.000 مرة من أولئك الذين اقتحموا مبنى الكابيتول. كل هذا يدل على النمو السريع للاستقطاب الاجتماعي والسياسي الذي تشهده الولايات المتحدة.
لقد كانت الانتفاضات العفوية التي اجتاحت الولايات المتحدة، من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي، في أعقاب مقتل جورج فلويد، والأحداث غير المسبوقة التي سبقت وتلت الانتخابات الرئاسية، نقطة تحول في الوضع برمته.
التغييرات في الوعي
من الطبيعي ألا يفهم الليبراليون والإصلاحيون الأغبياء أي شيء مما يحدث. إنهم لا يرون سوى سطح الأحداث، دون فهم التيارات العميقة التي تتدفق بقوة تحت السطح وترفع الأمواج.
تجدهم دائمي الصراخ عن الفاشية، ويعنون بها أي شيء لا يحبونه أو يخشونه. لكن من الواضح أنهم لا يعرفون شيئا على الإطلاق عن الطبيعة الحقيقية للفاشية. غير أنهم من خلال عزفهم المستمر على وتر “الخطر على الديمقراطية” (الذي يقصدون به الديمقراطية البرجوازية الشكلية) يزرعون الارتباك ويهيئون الأرضية للتعاون الطبقي تحت راية “أهون الشرين”. ودعمهم لجو بايدن في الولايات المتحدة مثال واضح جدا على ذلك.
ما يجب أن نأخذه في الاعتبار هو أن قاعدة دعم ترامب تتسم بطابع غير متجانس ومتناقض للغاية. إنها تتضمن جناحا برجوازيا، برئاسة ترامب نفسه، وعددا كبيرا من البرجوازيين الصغار الرجعيين، والمتعصبين الدينيين، والعناصر الفاشية الصريحة.
لكنه يجب علينا أن نتذكر أن ترامب قد حصل على 74 مليون صوت خلال الانتخابات الأخيرة، العديد منهم كانوا من الطبقة العاملة الذين صوتوا سابقا لأوباما لكنهم أصيبوا بخيبة أمل من الديمقراطيين. عندما يتم إجراء المقابلات معهم يقولون: “واشنطن لا تهتم بنا! نحن الناس المنسيون!”.
هناك تأرجحات عنيفة نحو اليسار ونحو اليمين أيضا. لكن الطبيعة تمقت الفراغ، وبسبب الإفلاس الكامل للإصلاحيين، بمن في ذلك الإصلاحيين اليساريين، تمكن الديماغوجيون اليمينيون، الذين يسمون بالشعبويين، من استغلال ذلك المزاج من الغضب والإحباط. ففي الولايات المتحدة لدينا ظاهرة الترامبية، بينما شهدنا في البرازيل صعود بولسونارو.
لكن جاذبية الديماغوجيين اليمينيين سرعان ما تتبخر عندما تتلامس مع واقع الحكومة، كما توضح ذلك حالة بولسونارو بإسهاب. صحيح أن ترامب حافظ على دعم الملايين، لكنه مع ذلك تمت إزالته.
كان من المثير للاهتمام ملاحظة أنه في وقت الهجوم على مبنى الكابيتول، قال عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ميسوري، جوش هاولي: «سيواجه الجمهوريون في واشنطن صعوبة بالغة في معالجة هذا الأمر… لكن المستقبل واضح: يجب أن نكون حزبا للطبقة العاملة وليس حزبا لوول ستريت». (The Guardian)
قال لينين إن التاريخ يعرف كل أنواع التحولات الغريبة. ويجب على الماركسيين أن يكونوا قادرين على التمييز بين ما هو تقدمي وما هو رجعي. يجب أن نفهم أن كل هذه الأحداث تتضمن بشكل جنيني الخطوط العريضة للتطورات الثورية التي ستشهدها الولايات المتحدة في المستقبل.
بالطبع ليس لدى هذا السيناتور الجمهوري الرجعي أي نية في تنظيم حزب حقيقي للطبقة العاملة في الولايات المتحدة، ولن ينشأ مثل ذلك الحزب عن انشقاق داخل حزب الجمهوريين. لكن الاضطرابات التي يشهدها نظام الحزبين القديم هي بلا شك نذير بشيء جديد تماما: ظهور حزب ثالث يتحدى كلا من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء.
في البداية ستكون لذلك الحزب شخصية مشوشة وغير متجانسة للغاية. لكن العنصر المناهض للرأسمالية سيهيمن عاجلا أم آجلا. وهنا يكمن التهديد الحقيقي للنظام. عندما تبدأ الجماهير في التدخل المباشر في السياسة، عندما تقرر أن الوقت قد حان لأخذ مصيرها بأيديها، يعد هذا بحد ذاته أحد أعراض التطورات الثورية الوشيكة.
يفهم منظرو الرأسمالية الجادون التداعيات الخطيرة للاضطراب الحالي، وذلك أكثر بكثير من البرجوازية الصغيرة الانطباعية المذعورة. في 30 كانون الأول (دجنبر) 2020، نشرت صحيفة فايننشل تايمز مقالا مهما للغاية، موقعا باسم هيئة التحرير.
لقد رسمت فيه صورة مختلفة تماما للسيرورة التي تحدث، وإلى أين ستذهب، وقد كانت الاستنتاجات التي خلصت إليها من كل ذلك مقلقة للغاية من وجهة النظر البرجوازية:
«بدأت المجموعات التي تركت في الخلف بفعل التغيير الاقتصادي تستخلص بشكل متزايد أن المسؤولين لا يهتمون بمعاناتها، أو، الأسوأ من ذلك، أنهم قاموا بإفساد الاقتصاد لمصلحتهم ضد من يوجدون في الهامش.
يؤدي هذا، ببطء لكن بثبات، إلى وضع الرأسمالية والديمقراطية في حالة تناقض مع بعضهما البعض. ومنذ الأزمة المالية العالمية أدى هذا الشعور بالخيانة إلى تغذية رد فعل سياسي عنيف ضد العولمة ومؤسسات الديمقراطية الليبرالية.
قد تزدهر الشعبوية اليمينية نتيجة لرد الفعل العنيف هذا، بينما تبقى الأسواق الرأسمالية في مكانها.
لكن ونظرا لعدم قدرتها على الوفاء بوعودها للمحبطين اقتصاديا، فلن تكون سوى مسألة وقت فقط قبل أن تخرج مسلحة بالمذاري ضد الرأسمالية نفسها، وضد ثروة أولئك الذين يستفيدون منها».
يوضح هذا المقال فهما كاملا لديناميات الصراع الطبقي. بل حتى اللغة المستعملة معبرة. الحديث عن التسلح بالمذاري إحالة إلى التشابه مع الثورة الفرنسية، أو ثورة الفلاحين، عام 1381، عندما استولى الفلاحون على لندن.
مؤلفو تلك السطور يفهمون جيدا أن صعود ما يسمى بالشعبوية اليمينية يمكن أن يكون مجرد المرحلة الأولى قبل الانفجار الثوري. يمكن أن تكون التقلبات العنيفة للرأي العام نحو اليمين بمثابة تحضير لتقلبات أكثر عنفا نحو اليسار من قبل الجماهير الساخطة التي تبحث عن مخرج من الأزمة.
هذا تنبؤ شديد التبصر لكيفية تطور الأحداث خلال المرحلة القادمة، ليس فقط في الولايات المتحدة. يمكن ملاحظة هذا التقلب الهائل في العديد من البلدان، إن لم نقل في جميع البلدان. تتطور تحت السطح حالة من الغضب والمرارة والاستياء ضد النظام القائم.
انهيار الوسط
تقوم مؤسسات الديمقراطية البرجوازية على افتراض أن الهوة بين الأغنياء والفقراء يمكن إخفاؤها واحتواؤها ضمن حدود يمكن التحكم فيها. لكن هذا لم يعد ممكنا.
أدى النمو المستمر للامساواة الطبقية إلى خلق مستوى من الاستقطاب الاجتماعي لم نشهده منذ عقود. استقطاب يضغط على الآليات التقليدية للديمقراطية البرجوازية حتى أقصى حدودها، بل وما وراء تلك الحدود.
العداء بين الأغنياء والفقراء يزداد حدة كل يوم. إنه يوفر قوة دفع هائلة لقوى الطرد المركزي التي تفرق الطبقات. وهذا هو بالضبط سبب انهيار ما يسمى بالوسط.
يسبب هذا قلقا متزايدا بين أوساط الطبقة السائدة التي بدأت تشعر بأن السلطة تنفلت من بين أيديها. تربط الجماهير في كل مكان أحزاب النظام القائم بالتقشف والهجمات على مستويات المعيشة.
هناك مزاج غاضب داخل المجتمع. يتجلى هذا المزاج في انهيار الثقة في المؤسسات الرسمية والأحزاب والحكومات والقادة السياسيين والمصرفيين والأثرياء والشرطة والقضاء والقوانين القائمة وتقاليد ودين وأخلاق النظام القائم. لم يعد الناس يصدقون ما يقال لهم في الصحف والتلفزيون. إنهم يقارنون الاختلاف الكبير بين ما يقال وما يحدث، ويدركون أنه يتم إخبارنا بمجموعة من الأكاذيب.
لم يكن هذا هو الحال دائما. ففي الماضي لم يكن معظم الناس يهتمون كثيرا بالسياسة. وهذا ينطبق على العمال أيضا. كانت المحادثات التي تجري في أماكن العمل تدور عادة حول كرة القدم والأفلام والبرامج التلفزيونية. ونادرا ما كان يتم ذكر السياسة، إلا في وقت الانتخابات، ربما.
لكن الآن كل ذلك تغير. لقد بدأت الجماهير في الاهتمام بالسياسة، لأنهم بدأوا يدركون أنها تؤثر بشكل مباشر على حياتهم وحياة أسرهم. وهذا في حد ذاته ولذاته تعبير عن بداية التحرك في اتجاه الثورة.
في الماضي كان الناس إذا كلفوا أنفسهم أصلا عناء التصويت في الانتخابات، فإنهم عادة ما يصوتون لنفس الحزب الذي صوت له آباؤهم وأجدادهم. لكن الانتخابات أصبحت الآن غير قابلة للتنبؤ على الإطلاق. المزاج العام للناخبين هو الغضب وعدم الثقة والتقلب، مزاج يتأرجح بعنف من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار.
منظورات إدارة بايدن
واضعو استراتيجيات رأس المال يدركون المخاطر الهائلة وراء هذا الاستقطاب ويسعون جاهدين لإعادة بناء “الوسط”. لكنه من الناحية الموضوعية لا يوجد أساس حقيقي لذلك. ورهانهم على جو بايدن مثل من يتكئ على قصبة مكسورة.
تعلق وول ستريت الآن آمالها على إدارة بايدن وحملته للتلقيح. لكن بايدن يترأس الآن أزمة اقتصادية وسياسية عميقة في أمة منقسمة وآفلة.
تدفعه المؤسسة لزيادة تدخل الدولة في الاقتصاد، قد سارع إلى الكشف عن اعتزامه تطبيق حزمة تحفيز للاقتصاد الأمريكي بقيمة 1,9 تريليون دولار. فإذا أضفنا إلى ذلك حزمة 900 مليار دولار التي وافق عليها الكونغرس سابقا وثلاث تريليونات دولار من الإعفاءات التي تم تمريرها في بداية الجائحة، فإن كل هذا يزيد في تضخيم جبل الديون. الطبقة السائدة تحاول جاهدة استعادة الاستقرار السياسي.
عبر الأستاذ بجامعة هارفارد، كينيث روجوف، عن ذلك قائلا: «أنا متعاطف جدا مع ما يفعله بايدن… أجل، هناك بعض المخاطرة بأن يكون لدينا اضطراب اقتصادي في الطريق، لكننا الآن أمام اضطراب سياسي». كل هذا يحضر الشروط لأزمة ضخمة في المستقبل.
وفي غضون ذلك فإن هناك ملايين من المواطنين الساخطين الذين لا يعتقدون حتى أن بايدن قد فاز فعلا في الانتخابات. وكل ما سيفعله سيكون خطأ من وجهة نظرهم. ومن ناحية أخرى، فإن الآمال المبالغ فيها للعديد من مؤيديه سوف تتبخر، مثل قطرة ماء على موقد ساخن، بمجرد أن يتبدد الشعور الأولي بالارتياح الذي تلى رحيل ترامب. وعلى الرغم من أنه سيستمتع حتما بشهر عسل لبعض الوقت، فإن خيبة الأمل الهائلة ستتبعه، مما يمهد الطريق لحدوث اضطرابات جديدة وغليان وعدم استقرار.
أمريكا اللاتينية
أمريكا اللاتينية هي واحدة من أكثر مناطق العالم تضررا من كوفيد 19، سواء من وجهة نظر الصحة العامة أو من وجهة نظر الأزمة الاقتصادية.
انخفض الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة بنحو 7,7% عام 2020، وهو أكبر انهيار منذ 120 عاما. وقد جاء ذلك في أعقاب عقد من الركود، حيث بلغ متوسط النمو السنوي 0,3% خلال الفترة ما بين 2014 و2019. ولا يُتوقع أن تستعيد المنطقة ناتجها المحلي الإجمالي لما قبل الأزمة حتى عام 2024. كما عادت مستويات الفقر المدقع إلى ما كانت عليه عام 1990.
تسبب ذلك بالفعل في حدوث اضطرابات اجتماعية وسياسية حتى قبل أن تبدأ الجائحة. عرفت أمريكا اللاتينية انتفاضات عام 2019 (الإكوادور، تشيلي)، والتي كانت جزءا من اتجاه عالمي (الجزائر، السودان، العراق، لبنان…)، قبل أن تتوقف مؤقتا مع انتشار الجائحة التي اجتاحت القارة مع عواقب مدمرة.
شهدت البرازيل أحد أعلى حصيلة الوفيات في العالم كما تضررت بيرو بشدة. وفي الإكوادور كانت النعوش تتراكم أمام المشارح المكتظة، وفي بعض الأماكن تم ترك الجثث في الشوارع.
إلا أننا شهدنا في النصف الثاني من عام 2020، عودة حركات التمرد الجماهيرية. في شتنبر 2020، كان هناك انفجار للغضب في كولومبيا ضد جريمة قتل تسببت فيها الشرطة، والذي شهد إحراق 40 مركزا للشرطة. في البيرو أسقطت حركة الجماهير حكومتين. وأدت الاحتجاجات في غواتيمالا إلى إحراق مبنى البرلمان.
في البرازيل، حيث أحدث اليساريون والعصبويون ضجة كبيرة حول انتصار “الفاشية” المزعوم، قد بدأت قاعدة دعم بولسونارو في الانهيار. وشعار “Fora Bolsonaro” (بولسونارو إرحل) الذي كان رفاقنا البرازيليون هم أول من أطلقه، والذي رفضه اليساريون باعتباره طوباويا، قد حصل الآن على قبول عام.
لقد صار “الرجل القوي” بولسونارو ضعيفا للغاية إلى درجة أنه لم يتمكن حتى من تشكيل حزبه. وعلى الرغم من أنه حاول يائسا القيام بذلك، فإنه فشل حتى الآن فشلا ذريعا حتى في الحصول على توقيعات كافية للتسجيل.
المشكلة ليست في قوة بولسونارو، بل في ضعف اليسار. حزب العمال، الذي كان يتمتع في الماضي بتأييد الأغلبية الساحقة من العمال، خسر في الانتخابات الأخيرة بشكل مذل. وهنا أيضا نجد أن الأمر لا يتعلق بالصعوبات الموضوعية، بل بضعف العامل الذاتي.
وفي هذه الأثناء تواجه كوبا أزمة اقتصادية هائلة، تسببت فيها الجائحة وتفاقمت بفعل عقوبات ترامب والإجراءات الاقتصادية. كان من المتوقع أن ينخفض اقتصاد الجزيرة بنسبة 11% عام 2020.
لقد دفع ذلك القيادة إلى تنفيذ سلسلة من إجراءات السوق الرأسمالية، والتي كانت تتم مناقشتها منذ 10 سنوات لكنها لم تطبق بالكامل، بما في ذلك توحيد العملة، وإدخال علاقات السوق بين شركات القطاع الحكومي، وإغلاق شركات القطاع الحكومي غير “المربحة”، وإلغاء دعم أسعار المواد الغذائية الأساسية، إلخ.
وقد أثرت هذه الإجراءات بالفعل في زيادة اللامساواة وأثارت السخط. إنها نقطة تحول في السيرورة نحو عودة الرأسمالية.
أوروبا
عام 2020 انخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة عند الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وقد كان هذا أكبر انخفاض عرفته أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. تظهر الأرقام الرسمية أن هناك 13,2 مليون عاطل عن العمل، لكن الرقم الحقيقي أقرب إلى 12,6% (حوالي 20 مليون). وهناك 30 مليون آخرين ممن يعتبرون في عداد المفقودين من الأرقام الرسمية، والذين يوصفون بـ “البطالة المستترة”.
أخطأت مفوضية الاتحاد الأوروبي في طرح لقاح كوفيد 19، مما أدى إلى نقص كبير في إمدادات اللقاح في جميع أنحاء أوروبا. لم تحصل الدنمارك في البداية إلا على 40.000 جرعة، بينما كانت تتوقع الحصول على 300.000. كما أن هولندا في البداية لم تتلق أية جرعة.
يأتي فشل برنامج اللقاح نتيجة لكارثة نقص معدات الحماية الشخصية العام الماضي. عندما كانت إيطاليا تواجه أسوء فترات أزمتها، لم يظهر للتضامن الأوربي أي أثر. ساد منطق كل شخص لنفسه. كان برنامج اللقاح محاولة لإعادة التضامن داخل الاتحاد الأوروبي، لكنه فشل.
ومما زاد الطين بلة أن تصعيد الإجراءات التقييدية (الإغلاق، وما إلى ذلك) من أجل التصدي للجائحة من قبل 21 بلدا في منطقة اليورو، أدى إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي بشكل كبير، بحيث صار التكتل يواجه ركودا مزدوجا.
عندما ضربت الجائحة لأول مرة، في الربيع الماضي، تعرض اقتصاد منطقة اليورو لصدمة مفاجئة وعميقة، والطفرة الجديدة في الإصابات ستبقى لفترة أطول مما يتسبب في انخفاض، أبطأ لكن أكثر حدة، في النشاط الاقتصادي.
خلال الأسابيع الأولى من عام 2021 تضرر قطاع الرحلات والبيع بالتجزئة والضيافة وثقة الأعمال وإنفاق المستهلكين. وهو ما يهدد بإحداث موجة متأخرة من حالات الإفلاس، ما لم تستمر الحكومات والبنوك المركزية في تبني إجراءات دعم الاقتصاد.
ونتيجة لذلك يتوقع الاقتصاديون أن انكماش الإنتاج في منطقة اليورو سيكون بين 1,8% و2,3% خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2020، سيتبعه انخفاض آخر خلال الربع الأول من عام 2021 في العديد من الاقتصادات الرئيسية للتكتل، بما في ذلك ألمانيا وإيطاليا. وهو ما قد يدفع بمنطقة اليورو إلى ركودها الثاني، الذي تم تعريفه على أنه ربعين متتاليين من النمو السلبي، في أقل من عامين.
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصعود ترامب، الذي لم يكن يكلف نفسه عناء إخفاء ازدرائه لكل ما هو أوروبي، صارت البرجوازية الأوروبية تشعر أنه لم يعد في إمكانها الاعتماد على الحلفاء التقليديين. وقد لاقت محاولة إيمانويل ماكرون الغبية للتعبير عن إعجابه بترامب فشلا ذريعا.
أوضح ترامب أنه يعتبر أوروبا عدوا رئيسيا، في حين أن روسيا ليست سوى “منافس”. وقد تابع كلماته بالأفعال. كانت سياساته الحمائية موجهة ضد أوروبا مثلما كانت موجهة ضد الصين. وقد حافظ على هذا الموقف العدواني حتى الأيام الأخيرة لإدارته. ومع مطلع السنة الجديدة أعلنت الولايات المتحدة عن زيادة جديدة في الرسوم الجمركية على صادرات الاتحاد الأوروبي من قطع غيار الطائرات والنبيذ القادم من فرنسا وألمانيا.
يسعى بايدن إلى تجديد العلاقات مع أوروبا. وقد عبر عن التزام الولايات المتحدة بالتعددية، بما في ذلك العودة إلى الانضمام إلى منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ. كما دعم المدير العام الجديد لمنظمة التجارة العالمية. كما تغير الموقف من الاتفاق النووي الإيراني. كل هذه خطوات مرحب بها من طرف الأوروبيين الذين يسعون بيأس لحدوث تغير في سياسة البيت الأبيض. وقد وصف ترامب هذه الإستراتيجية الجديدة بـ “أمريكا أخيرا”.
ومع ذلك فإن هناك صراعات بين الجانبين يصعب حلها. الأوروبيون غير مقتنعين باستراتيجية الولايات المتحدة تجاه الصين، كما أنهم حريصون على الاستفادة من الحرب التجارية الأمريكية مع الصين لأغراضهم الخاصة. اعتبرت معاهدة الاستثمار الجديدة، التي أبرمت بين الصين والاتحاد الأوروبي خلال الأسابيع الأخيرة من رئاسة ترامب، على أنها إهانة لجو بايدن، والتي أُجبر الرئيس الجديد على ابتلاعها.
هناك المزيد من الخلافات التي طال أمدها: فقد بقي نزاع إيرباص – بوينغ بخصوص المساعدات الحكومية مشتعلا منذ عقود دون أي حل في الأفق. كما أن خط أنابيب ”نورد ستريم 2” يتسبب أيضا في حدوث شقاق كبير بين الولايات المتحدة وألمانيا، إذ تعتبر الولايات المتحدة أن خط الأنابيب سيعزز نفوذ روسيا في أوروبا. وخلال الأشهر المقبلة سوف يتم اختبار مشاعر الحب المكتشفة حديثًا بين بايدن والأوروبيين، حيث سيحاول كلاهما إعادة الحياة لصادراتهما خلال مرحلة ما بعد أزمة الجائحة.
شكلت ألمانيا مرساة أوروبا، وجزيرة الاستقرار في خضم بحر كثير الهيجان. كان يُنظر إلى أنجيلا ميركل على أنها حامية الأمن في قيادة أهم بلد في أوروبا، لكن مع مجيء الجائحة ظهرت مشاكل جديدة.
لقد أدرك الرأسماليون الألمان أنه يتعين عليهم تغيير أساليبهم من أجل محاولة وقف نزعات الطرد المركزي المتزايدة داخل الاتحاد الأوروبي. وقد تعزز هذا الاتجاه أكثر عندما ضربت الجائحة. خلال الخريف الماضي اضطرت ألمانيا إلى ضمان قرض بقيمة 750 مليار يورو لصندوق الإنعاش الأوروبي من أجل الحفاظ على تماسك الاتحاد. سوف توفر هذه الحزمة الكبيرة إغاثة مؤقتة للاتحاد الأوروبي، لكنها ليست سوى دعم لمرة واحدة. لقد عارضت ألمانيا بشدة الدعوات الرامية للمضي قدما في هذا الاتجاه. وفي النهاية لم يتم حل أي من المشاكل.
اضطرت ميركل إلى تمديد الإغلاق في ألمانيا. وتحالفها الحكومي يصارع في خضم بطء معدلات التطعيم وعدم كفاية الإمدادات. لقد تحول المزاج الوطني من مشاعر تهنئة الذات إلى الكآبة. وقد قالت صحيفة فايننشل تايمز إن: «المشهد السياسي قبل انتخابات شتنبر يبدو أكثر انقساما وتقلبا».
في فرنسا، أصبحت حكومة ماكرون الآن فاقدة تماما لمصداقيتها، بمعدل رفض يصل 60%: الذي يعتبر أسوء معدل منذ احتجاجات السترات الصفراء. معدل البطالة الرسمي 9%، لكنه في الواقع أعلى بكثير.
لم تحقق “المناظرة الوطنية الكبرى” أي شيء لاستعادة الدعم الشعبي للحكومة، مثلما لم تحقق ذلك إقالة رئيس الوزراء إدوارد فيليب. ومحاولات ماكرون المتكررة لتمثيل دور “رجل دولة عظيم” على الصعيد العالمي لا تثير سوى السخرية على جميع المستويات.
بريطانيا
منذ وقت ليس ببعيد، كانت بريطانيا ربما البلد الأكثر استقرارا في أوروبا. أما الآن فقد أصبح على الأرجح البلد الأكثر اضطرابا.
لقد كشفت الأزمة الحالية بقسوة عن ضعف الرأسمالية البريطانية. تراجع اقتصاد المملكة المتحدة بنسبة 9,9% عام 2020، أي ضعف المعدل الذي سجلته ألمانيا وثلاثة أضعاف معدل الولايات المتحدة. والآن في مواجهة آثار الجائحة وكارثة البريكست، صار من الحتمي حدوث ركود آخر.
كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عملا جنونيا من جانب حزب المحافظين، الذي أفلت الآن من سيطرة الطبقة الحاكمة. الحكومة تحت سيطرة مهرج سيرك، هو بدوره تحت سيطرة شوفينيين رجعيين معتوهين.
إن حزب المحافظين، وعلى الرغم من فوزه الحاسم خلال انتخابات دجنبر 2019، قد فقد مصداقيته بشكل متزايد، لا سيما بسبب سوء تعامله مع الجائحة مما تسبب في وفيات أكثر من أي بلد آخر في أوروبا. يعد عدد الوفيات في بريطانيا (الذي لا تفصح الأرقام الرسمية عن حقيقته الكاملة) من بين أعلى المعدلات في العالم بالنسبة لعدد السكان. ومع ذلك فقد ظل المحافظون يقاومون باستمرار اتخاذ الإجراءات اللازمة إلى أن فرضت عليهم بسبب خطورة الموقف.
هؤلاء الناس لا يهتمون بحياة السكان وصحتهم. كما أنهم لا يهتمون بالحالة المؤسفة للخدمات الصحية الوطنية، التي تسببوا في تخريبها بعقود من الاقتطاعات. إنهم مدفوعون بشيء واحد فقط وهو: الأرباح.
يرغب المحافظون في استمرار الإنتاج بأي ثمن. ولهذا السبب كانوا مصممين على إعادة فتح المدارس. أدى ذلك خلال الأيام الأولى من شهر يناير إلى اندلاع احتجاج جماهيري واجتماع حاشد عبر الإنترنت ضم 400 ألف معلم ومعلمة. كان تهديدهم بخوض الإضراب هو ما أجبر الحكومة على إغلاق المدارس.
لكن وعلى الرغم من عدم شعبية الحكومة، فإن حزب العمال وقيادته اليمينية ما يزالون متخلفين عن حزب المحافظين. لا توجد معارضة حقيقية من جانب حزب العمال.
كانت استقالة كوربين وماكدونيل، بعد هزيمة حزب العمال في دجنبر 2019، بمثابة ضربة قوية لليسار وهدية للجناح اليميني. كانت لدى اليسار كل الفرص لكي يعمل على تغيير حزب العمال. لقد حصل قادته على الدعم الكامل من جانب قواعد الحزب. كان هذا سيعني إجراء تطهير شامل ضد الجناح اليميني لحزب العمال. لكنهم تراجعوا عن القيام بذلك ورفضوا دعم شعار إلغاء انتخاب النواب، الذي دافع عنه الماركسيون ومناضلون آخرون، والذي حظي بتأييد واسع في صفوف القواعد.
يخشى اليساريون في آخر المطاف إيصال النضال إلى نتائجه النهائية، وهو ما يعني إجراء قطيعة كاملة مع اليمين. لكن اليمين لا يظهر مثل هذا اللطف تجاه اليسار. فاليمينيون الذين شجعهم ضعف اليسار، قاموا بحملة تطهير ضده – بما في ذلك عزل كوربين نفسه. إن هذا الضعف ليس مجرد مسألة أخلاقية، إنه مسألة سياسية، إنه طبيعة بنيوية للإصلاحية اليسارية.
الرأسماليون الكبار هم من يحتلون الصدارة الآن في حزب العمال. وكير ستارمر لا يتحدث مثل زعيم للمعارضة، بل يتحدث كعضو خاضع في حكومة جونسون. إنه ينتظر قيام جونسون بالتحرك قبل أن يقول: “وأنا أيضا”.
لكن الجناح اليميني ذهب الآن بعيدا جدا. ومن خلال ممارساته يدفع اليمين اليساريين لكي يخرجوا لخوض الصراع. وتيارنا يلعب دورا رئيسيا في هذه المعركة. إن الميدان مهيأ لاندلاع المعركة داخل حزب العمال. في الواقع لقد دخلنا في جبهة موحدة مع يسار حزب العمال، وخاصة داخل النقابات العمالية. هذا تطور مهم للغاية. إنه يظهر أن رفاقنا قد كسبوا شرعية كونهم التيار الماركسي الجدي الوحيد داخل الحركة العمالية.
ومهما حدث فإنه يمكن للتيار الماركسي أن يحقق المكاسب وستفتح لنا العديد من الأبواب الجديدة. إن فن السياسة هو القدرة على اغتنام كل فرصة تسنح.
إيطاليا
تظل إيطاليا الحلقة الأضعف في سلسلة الرأسمالية الأوروبية. لقد كشفت الأزمة الحالية عن ضعفها المزمن. ونظرا لعدم قدرتها على التنافس مع الاقتصادات الأكثر قوة، مثل ألمانيا، فإنها تتراجع أكثر فأكثر، وتغرق في الديون أكثر من أي وقت مضى.
نظامها المصرفي يقف على حافة الانهيار وهو الشيء الذي يمكن أن يجر معه بقية أوروبا. الاتحاد الأوروبي ملزم بدعمها لهذا السبب بالذات، لكنه يفعل ذلك بغضب شديد.
المصرفيون، الألمان على وجه الخصوص، ينفد صبرهم بشكل متزايد، وقد كانوا حتى وقت قريب يطالبون باعتماد إجراءات جادة لخفض الإنفاق الحكومي ومهاجمة مستويات المعيشة. وهذا يعني أنهم كانوا يدفعون بإيطاليا نحو الهاوية. لقد تغيرت لهجتهم إلى حد ما منذ أن أجبرتهم الجائحة جميعا على اللجوء إلى الدولة للحصول على المساعدة. وبمجرد انتهاء الجائحة، سيعودون إلى التقشف تحذوهم مشاعر الانتقام.
تحتاج الطبقة السائدة الإيطالية إلى حكومة قوية لكي تتمكن من تجاوز الأزمة الحالية. لكنه لا إمكانية لوجود حكومة قوية في إيطاليا. النظام السياسي فاسد حتى النخاع. ويظهر انعدام الثقة في السياسيين من خلال أزمة دائمة للحكومة. تتوالى الحكومات الائتلافية الضعيفة الواحدة منها تلو الأخرى، في حين لا يتغير شيء من حيث الجوهر. إن الجماهير يائسة وينعكس بحثها عن مخرج من خلال التقلبات العنيفة نحو اليمين ونحو اليسار.
لقد تفاقمت الأزمة بشكل كبير بسبب الجائحة التي ضربت إيطاليا بشكل أبكر وأصعب من أي مكان آخر. وفي وقت كتابة هذه الوثيقة اقترب عدد الوفيات الناجمة عن كوفيد 19 من 100.000 شخص.
كانت الطبقة السائدة تأمل في الحفاظ على ائتلاف يسار الوسط لأطول فترة ممكنة من أجل منع حدوث انفجار اجتماعي. لكن ذلك أصبح غير ممكن، مع استنفاذ الخيارات السياسية الواحدة منها تلو الأخرى. بعد أن شعر حزب رينزي “إيطاليا حية” بالنيران تحت مؤخرته، قام بسحب وزرائه الثلاثة من حكومة كونتي، في أعقاب فشل التعاطي مع جائحة كوفيد 19، مما أدى إلى انهيار الحكومة وفتح الباب أمام تشكيل حكومة دراغي.
تدخل رئيس الجمهورية، وبدلا من الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة، وجه الدعوة لدراغي، المحافظ السابق للبنك المركزي الأوروبي، لتشكيل حكومة. نشهد هنا مثالا آخر لفرض “تكنوقراطي” على البلاد كرئيس للوزراء، دون أن ينتخبه أحد.
أتاح إفلاس “يسار الوسط” الفرصة لتشكيلات اليمين المتطرف مثل حزب “إخوان إيطاليا”. لقد بقوا خارج التحالف الذي يدعم دراغي، وذلك أولا لأنه ليس بحاجة إليهم، وثانيا لأنهم يأملون في تحقيق المكاسب على حساب حزب “ليغا”، الموجود الآن في الحكومة.
عاجلا أم آجلا، سوف تُستبدل الألعاب البرلمانية بمعركة مفتوحة بين الطبقات. ليست هناك أي إمكانية لأي استقرار على أساس النظام الحالي. لا يوجد في إيطاليا حزب عمالي جماهيري. لكن الجماهير يزداد غضبها ونفاذ صبرها يوما بعد يوم. وقد كانت التحركات الكفاحية التي قام بها العمال خلال الشهر الأول للجائحة بمثابة إنذار بما سيأتي.
الفشل المتكرر للحكومات يقود بشكل حتمي إلى انفجار الصراع الطبقي. وفي نهاية المطاف لن تحل القضايا داخل قاعة البرلمان، ويقترب بسرعة ذلك اليوم حيث سينتقل مركز الثقل من البرلمان الفاقد للمصداقية إلى المصانع والشوارع.